السموم المستورة...
خاص بآفاق البيئة والتنمية
|
آلاف المواد الكيميائية السامة التي تُعرف بـ Emerging Contaminants تبقى سنوات طويلة في البيئة دون أن تتفكك، وتظهر في البيئة بتركيزات منخفضة للغاية، ما يجعل من الصعب كشفها. بعض هذه الملوثات لا يمكن معالجتها أو تفكيكها وتتراكم في التربة والمياه. بعد تعرضها للهواء أو ملامستها للجلد أو الطعام والشراب، تصل تلك المواد إلى أنسجة الحيوانات والبشر. يمكننا اتخاذ بعض الإجراءات لمكافحة التهديد الكيميائي لحياتنا، وهذا تحديدًا ما يتناوله المقال التالي.
|
ينصب تركيز خبراء الصحة العامة اليوم على آلاف المواد الكيميائية السامة التي تعرف بـ Emerging Contaminants (ترجمتها المجازية: الملوثات الناشئة).
تسمية أخرى ارتبطت بالعديد من هذه المواد السامة هي "الملوثات الأبدية" لأنها تبقى سنوات طويلة في البيئة دون أن تتفكك، وتظهر في البيئة بتركيزات منخفضة للغاية، ما يجعل من الصعب كشفها.
بعض هذه الملوثات لا يمكن معالجتها أو تفكيكها وتتراكم في التربة والمياه. بعد تعرضها للهواء أو ملامستها للجلد أو الطعام والشراب، تصل تلك المواد إلى أنسجة الحيوانات والبشر.
إحدى مجموعات "الملوثات الأبدية" تسمى PFAS(Perfluoroalkyl and Polyfluoroalkyl Substances). توجد هذه المجموعة في فئة واسعة من المنتجات في السوق وتستخدم من بين أشياء أخرى، لإنتاج "التفلون" المستخدم في أواني المطبخ، وأيضًا الرغوة لإعاقة الاحتراق وغير ذلك. ملوثات من هذه المجموعة قد تضعف نمو الأجنّة وتزيد احتمالية الإصابة بالسرطان. وما يثير القلق خصوصًا في حقبة كورونا، هو الأذى الذي تسببه هذه المواد لعمل جهاز المناعة.
مجموعة أخرى من الملوثات تتمثل في بقايا الأدوية التي تنبعث مع براز الأشخاص الذين استخدموها، فتصل بالتالي إلى مصادر المياه ثم التربة. محطات معالجة مياه الصرف الصحي لا تستطيع معالجة هذه المواد وبالتالي فإنها تصل إلى مصادر المياه.
وفي الحالة الفلسطينية تكمن خطورة هذه المشكلة في أن العديد من المزارعين أصبحوا يعتمدون على الري بمياه الصرف المعالجة (بل إن بعضهم يستخدمها دون معالجة).
نُشر أخيرًا بحث في المجلة العلمية Journal of Hazardous Materials، أجراه باحثون إسرائيليون، حول مخلفات الأدوية والملوثات الأخرى في المحاصيل الغذائية. فحصت الدراسة مخلفات الأدوية في ثمانية أنواع مختلفة من المحاصيل الغذائية من 445 قطعة أرض في "إسرائيل" مروية بمياه الصرف الصحي المعالجة، إضافة إلى عينات من التربة والمياه. وعُثر، بحسب الدراسة، على بقايا الملوثات في أكثر من 99٪ من العينات. وقد وُجدت أعلى التركيزات في الأوراق الخضراء مثل النعناع والبقدونس والخس، وبناءً عليه، أوصى الباحثون بتجنب الري بالمياه العادمة المعالجة، وبخاصة المحاصيل التي تبيّن احتوائها على تركيزات عالية من الملوثات، وتحديدًا الخضار الورقية.
لكن دراسات عالمية أخرى تظهر أن تركيزات مخلفات الأدوية يمكن أن تؤذي الحيوانات التي تعيش في المصادر المائية. إحدى الدراسات نُشرت أخيرًا في مجلة Ecosphere وفَحصت الآثار المترتبة على تعريض السرطانات النهرية لبقايا أحد الأدوية المضادة للاكتئاب.
لقد عُرّضت السرطانات النهرية في قناة مائية اصطناعية لتركيزات الدواء التي يمكن العثور عليها أيضًا في مصادر المياه الطبيعية. أدى هذا التعرض إلى تغيرات سلوكية في السرطانات، فأصبحت أكثر جرأة في سلوكها، ما قد يعرّضها لمخاطر في بيئتها الطبيعية، مثل الافتراس.
مجموعة خطرة أخرى تتمثل في المواد الكيميائية التي تُضاف إلى منتجات مختلفة لتحسين خصائصها. وأحد أكثر آثارها الصحية خطورة هو اضطراب نظام الغدد الصماء المسؤول عن إنتاج الهرمونات في جسم الإنسان. وتشمل هذه المواد "الفثالات" (Phthalates)، وهي مواد كيميائية مضافة مصممة لتحسين خصائص البلاستيك، وتوجد بكثرة في مواد تغليف المنتجات الغذائية.
وقد تتسبب "الفثالات" بمرض سرطان الثدي وبتشوهات خلقية، وتنتقل عبر حليب الأم. وتؤدي أيضًا إلى اضطرابات هرمونية، وتتلف عمل الدماغ. كما تتواجد هذه المركبات في طلاء الأظافر، وبخاخات الشعر، والشامبو، ومزيلات رائحة العرق، وتضاف أيضًا للمعطرات لجعلها تلصق بالجلد لفترة أطول.

الملوثات الناشئة في المياه-مخاطر غير مرئية على الصحة والأنظمة البيئية
ما العمل؟
يمكننا اتخاذ بعض الإجراءات لمكافحة التهديد الكيميائي لحياتنا. العديد من هذه الإجراءات يمكننا تعلمها من كتاب Count Down (العد التنازلي) الذي أعده البروفسور شانا سوان من مستشفى "ماونت سيناي" في نيويورك. يتناول الكتاب الذي نُشر في العام الماضي آثار أنواع مختلفة من المواد الكيميائية، وبخاصة تلك التي تعطل جهاز الغدد الصماء وخصوبة الرجال والنساء حول العالم.
مواد التنظيف: تقترح سوان استبدال أي منتج كُتِبَ على عبوته "سام" أو "خطير" أو "قاتل" بمنتجات أكثر أمانًا متوفرة في السوق.
توجد اليوم منظمات بيئية مثل EWG (مجموعة العمل البيئية) التي تنشر أدلة توضح بالتفصيل المنتجات الأكثر أمانًا.
فلترة المياه: يُنصح بتركيب فلتر في مياه الشرب بالمنزل، حتى في الأماكن التي تعد فيها المياه آمنة.
تحتوي المياه على بقايا كيميائية لا يستطيع نظام معالجة مياه الصرف الصحي أو التعقيم باستخدام الكلور التخلص منها.

PFAS ملوثات متواجدة في أواني الطبخ -التفلون- تعتبر مسرطنة وتحدث اضطرابات في الجهاز التناسلي
أواني الطبخ:
التخلي عن أدوات الطهي التي تحتوي على التفلون أو مواد من مجموعة PFAS.
مع أنها مريحة جدًا للطهي وتنظيفها سهل، لكنها تفرز موادًا تؤذي جهاز الغدد الصماء. جميع هذه المواد تتغلغل في الطعام الذي نتناوله.

مركبات الفثالات المسرطنة تتواجد في طلاء الأظافر، بخاخات الشعر، الشامبو ومزيلات رائحة العرق والمعطرات
منتجات العناية الشخصية:
لا يوجد حاليًا تنظيم قانوني كافٍ ورقابة جدية على صناعة هذه المنتجات رغم ملامستها أجسامنا مباشرة. لذا، يفضل التخلص من أكبر عدد ممكن من المنتجات التي تحوي إضافات كيميائية ذات التأثير السلبي. على سبيل المثال، من الأفضل عدم استخدام المنتجات التي كُتِب عليها "مضاد للميكروبات". الماء والصابون قادران على تنفيذ هذه المهمة بقدرٍ كبير من الكفاءة، كما يمكننا دائمًا تصنيع هذه المنتجات ذاتيًا في المنزل.
بيئة المنزل: يُنصح بتجنب استخدام البُسط الممتدة من الجدار إلى الجدار إلا إذا كانت نباتية أو مصنوعة من الصوف. السجاد المصنوع من النايلون أو البلاستيك من نوع "بولي بروبلين" ينبعث منه مواد كيميائية خطرة إلى بيئة الغرفة. كما أن تنظيف المنزل من الغبار أمر مرغوب به جدًا وسيلة للحماية من التعرض للمواد الكيميائية؛ إذا أن جسيمات الغبار غالبًا ما تحوي نحو خمسين نوعًا مختلفًا من المواد الكيميائية.

مخلفات الأدوية والملوثات الأخرى في المحاصيل الغذائية
تشديد القيود والمحظورات
المنتجون والحكومات هم الذين بإمكانهم إحداث التغيير الجدي لمنع التعرض للملوثات الخطرة، ويفترض بالحكومات تحديداً أن تملي على القطاع الصناعي قوانين ولوائح وأنظمة ملزمة تمنع المخاطر.
التغيير الأساسي يحدث عندما يتحول المنتجون نحو طرق تصنيع قائمة على البدائل غير السامة، وهو ما يسمى أحيانًا "الكيمياء الخضراء"، ويعتمد جزئيًا على البدائل المرتكزة إلى قاعدة نباتية أو مركبات جديدة قادرة على منح السلع الخصائص المطلوبة مثل العزل أو المتانة، دون إضافات سامة.
التحول الجدي نحو "الكيمياء الخضراء" يمكن أن يأتي بتشديد الأنظمة والقوانين؛ فعلى سبيل المثال، أدخلت بعض البلدان، وبخاصة الأوروبية والأميركية الشمالية، قيوداً ومحظورات على استخدام المواد السامة سابقة الذكر وتحديدًا المواد من مجموعة PFAS.
مناطق السلطة الفلسطينية تحديدًا لا تزال بعيدة جدًا عن حظر استخدام تلك المواد الخطرة، سواء على مستوى السلع المصنعة محليًا أم المستوردة.
إحدى الخطوات الأساسية المطلوبة لتنظيم تداول المواد الكيميائية تتمثل في رصدها وتسجيلها وفهم درجة المخاطر التي تترتب على التعرض لها. بلدان عديدة في العالم ثبّتت آلية مشددة لترخيص المواد الكيميائية. في غياب هكذا تسجيل فمن غير الواضح أي المواد تُصنّع محليًا أو مكان تصنيعها.
حاليًا، نحن لا نعرف من يجب أن يحصل على تصريح من سلطة جودة البيئة لحيازة المواد السامة. كما يُفترض إجراء تقييمات للمخاطر الناجمة عن التعرض لخليط من المواد الكيميائية السامة، وليس مجرد مكون واحد؛ إذ أن سُمِية الخليط الكيميائي غالبًا ما تكون أكثر بكثير من سميّة المادة الواحدة منفردة.