
حبيب معلوف
بعد مرور خمسين عاماً بالتمام على انعقاد أول مؤتمر دولي عن البيئة في ستوكهولم، اجتمعت دول العالم في حزيران الماضي في المكان نفسه مجدداً لتقييم مدى تقدم قضايا البيئة حول العالم.
فما الذي تغيّر في نصف قرن تقريباً؟
عندما انعقد ذلك المؤتمر عام 1972، كانت اضطرابات السياسة العالمية في أوّجها، تحت عنوان ما كان يسمى بـ"الحرب الباردة".
كان النظام الاقتصادي العالمي في مرحلة انتقالية، بعدما أعلن ريتشارد نيكسون فك ارتباط الدولار الأميركي بالذهب. وكانت الكثير من "المستعمرات" السابقة بدأت بالتحوّل إلى دول مستقلة.
بحلول عام 1970، حصلت تطورات هائلة وزيادة كبيرة في عدد الدول التي انضمت إلى الأمم المتحدة بزيادة 35 دولة عن عام 1945، لتصبح 127 دولة. إلا أن كل ذلك لم يسهم في حماية البيئة العالمية بالرغم من توقيع الكثير من الاتفاقيات الدولية ذات الصلة.
في تلك الفترة، كانت الدول النامية والناشئة حذرة جداً من عقد مؤتمر مخصّص للقضايا البيئية، على اعتبار أن أولويات تلك الدول محاربة الفقر وتقليد الأنموذج الغربي في التنمية.
وكانت الكثير من الدول النامية تنظر بقلق شديد من اعتبار متطلبات حماية البيئة شكلاً من أشكال الاستعمار الجديد. كانت كتابات الكثير من مفكري البلدان النامية ترى أن دول شمال الكرة الأرضية تستهلك غالبية موارد العالم وهي التي تنتج أكبر المشكلات أيضاً، وهم بالتالي كانوا يستغربون كيف تكون القضايا البيئية مصدر قلق لجنوب الكرة الأرضية؟ هم الذين كانوا منبهرين بأفكار ونتائج "التنمية" التي حصلت في الغرب، عدّوا أن القضايا البيئية ليست أكثر من وسيلة للتدخل في مشاريع التنمية التي تطمح إليها بلدانهم.
في تلك الفترة، أعطت الدول المستقلة حديثاً الأولوية لبناء اقتصاداتها ومؤسساتها وفقاً لشروطها الخاصة في سبعينيات القرن الماضي، ولم تكن تستطيع أن تتخيل كيف يمكن لمؤتمر، بادرت البلدان المتقدمة إلى استضافته، أن يتناول مجموعة جديدة من القضايا لا تساعد في القضاء على الفقر.
لذلك، بدلًا من أن تُناقش مشكلة التنمية التي تسبّبت بكوارث بيئية عالمية على جدول الأعمال، دُمجت قضايا الفقر مع قضايا البيئة، لإرضاء البلدان النامية.
ومنذ ذلك التاريخ بدأت أول خديعة بيئية بإشراف وهندسة بعض خبراء الأمم المتحدة.
منذ ربع قرن أيضاً، انفضح مفهوم التنمية ومَن خلفه من بلدان تُصنف بــ "المتقدمة"، بأنه مفهوم مدمر وله آثار بيئية كارثية على الكوكب، وبدلًا من البدء بالبحث عن كيفية الاستغناء عنه، بدأ البحث عن كيفية إدماج فكرة الاستدامة فيه، فكان مفهوم "التنمية المستدامة"، وكرّت بعده سبحة المؤتمرات الدولية لتعزيز حماية البيئة والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، مع الحدّ من الفقر، "تعويذة" ملازمة لكل المناقشات.
مع ذلك، لم تُراجع الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية التي تتعارض مع الأنظمة الإيكولوجية، بل اُكتفي بالحديث عن "المحميات الوطنية"، أي حماية جزء على حساب الكل.
وهي سياسة سرعان ما سيُكتشف ضلالها، إذ لا يمكن حماية أي بقعة من آثار تلوث الهواء أو تغيّر المناخ.
والدليل على ذلك ما قيل أخيرًا في لشبونة، مع إعلان حالة طوارئ عالمية لحماية المحيطات، إن حموضة المحيطات الناجمة عن زيادة امتصاص ثاني أكسيد الكربون ستدمر مصادر أكثر من ثلث غذاء البشرية.
لم تكن قضية تغير المناخ على جدول أعمال ستوكهولم عام 1972، ولا دور الدول المتقدمة وثوراتها العلمية والتقنية، ولا دورها الاستعماري على جدول الأعمال أيضاً.
هذا العام، اعترفت الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيّر المناخ بـ "الاستعمار" باعتباره محركاً لتغير المناخ لأول مرة. وقد تبيّن اليوم، أكثر من أي وقت مضى، أن البلدان الأفقر هي الأكثر عرضة لتغير المناخ؛ بل أيضًا يمكن أن تؤدي حالات الجفاف والفيضانات والعواصف والأمراض المتكررة (على سبيل المثال لا الحصر) إلى تقويض جميع مكاسب التنمية التي تحققت حتى الآن.
يشكل دعم التكيف من آثار تغيّر المناخ (الذي تطالب به الدول النامية) جزءاً يسيراً من التمويل الشامل للمناخ اليوم. وقد أظهرت نتائج قمة المناخ في غلاسكو العام الماضي ( الكوب26 ) أن تدفقات تمويل تغير المناخ لا تزال أقل بكثير مما تعهدت به الدول المتقدمة، بل إن غالب هذا التمويل بمثابة قروض، ما يزيد من عبء ديون البلدان النامية.
مع تأكيد مؤتمرات المناخ التي تُعقد كل سنة، أن متطلبات التنمية منخفضة الكربون والمقاومة لتغير المناخ تحتاج إلى دعم البلدان النامية لتحقيق أهدافها وأولوياتها.
وبعد 50 عاماً، لا تزال الثغرة نفسها بين متطلبات التنمية ووعود الاستدامة. ظن بعض أن من أنتج التقنيات التي تسببت بكوارث مناخية وبيئية يمكن أن ينتج تقنية منقذة.
لقد منحتنا التغييرات التكنولوجية طاقة نظيفة وبأسعار معقولة، ولكن لا يزال يتعين إتاحتها للجميع. كما أن هذه التقنيات صُنعت من أتربة نادرة وتسبّبت في نشوب مشكلات ونفايات جديدة، بما في ذلك النفايات البلاستيكية والإلكترونية.
ولا نزال نشكو من عدم الإنصاف والتوفيق بين الاستثمار وحماية البيئة، في وقت لم يعد أحد يستطيع التأكيد أنه بإمكاننا البقاء ضمن أهداف درجة الحرارة المتفق عليها في اتفاقية باريس، وقد مر نصف قرن وما زلنا لا نعرف التوفيق بين فكرة الحق في التنمية وحماية البيئة.
على أي حال، إن فكرة الحق في التنمية ليست فكرة أصلية ولا متأصلة عند مفكري البلدان النامية. إنها فكرة غربية نُقلت وتُرجمت عبر وسطاء أطلق عليهم صفة مفكرين من البلدان النامية، هم الذين روّجوا لمفهوم التنمية باعتبارها حقاً، في وقت لم تكن شعوب البلدان النامية تعرف أو تحتاج لفكرة التنمية.
كان لدى الكثير من شعوب الأرض فكرة الكفاية التي لم تكن تحتاج إلى أفكار تتصل بزيادة الإنتاج. وإذ فرضنا أن التكنولوجيا هي المصدر الأساسي للتنمية، فإن ترويج مفهوم الحق في التنمية كان ضرورياً من أجل تسويق تلك التكنولوجيا الجديدة في البلدان النامية وتحويل تلك الشعوب إلى مجموعات من المستهلكين.
لم يتخلّ مؤتمر ستوكهولم الأخير، وبعد خمسين سنة، عن فكرة "الرفاهية" هدفًا إنسانيًا، بالرغم من كل ما خلّفه هذا المفهوم من مآسٍ، لا يزال هدفاً عند خبراء الأمم المتحدة المسيطرين على المشهد العام العالمي.
وما الرفاهية غير ذاك الإصرار على عدم التخلي عن بعض الراحة الحالية من أجل صحة المستقبل؟
لم تأخذ فكرة الرفاهية مداها المدمر إلا مع فلسفة النفعية ومع زيادة النزعة الفردانية حول العالم. ولذلك شاع أن الرفاهية هي رفاهية الفرد على حساب الجماعة أو المجتمع، أو في أقل تقدير، هي رفاهيته بغض النظر عن وضع المجتمع، وهذه أحد أهم إرهاصات الفلسفة البراغماتية العملية وقيمها النفعية.
تاريخياً، على المستوى الفلسفي، لم يكن لمصطلح الرفاهية أي معنى إيجابي ولم يدخل يوماً في سلّم القيم.
كان الهدف الأسمى هو الخير وليس الرفاهية. والخير العام تحديداً، بمعنى أن صحة الفرد وسعادته مرتبطتان بمدى تحقيق الخير العام وليس رفاهية الفرد التي رآها بعضٌ ضد الخير العام.
فقبل أن نصبح أمام معادلة بالغة الحرج والخطورة، مفادها: "إما رفاهية الفرد أو صحة الكوكب"، هل حان الوقت لإعادة النظر ببنية خبراء الأمم المتحدة وتطعيمهم بفلاسفة القيم البيئية الجديدة، فضلًا عن إعادة النظر في بنية الأنظمة الاقتصادية المسيطرة، لإنقاذ الكوكب وصحة المستقبل؟