شذرات بيئية وتنموية.. راحلون وأسواق وسفر وتبولة وتعليم وأعراس
خاص بآفاق البيئة والتنمية
لائحة غياب- أسرة الزميل عبد الباسط خلف
لائحة غياب
تفتح الأعياد نوافذ الأحزان، ففي كل بيت دموع تنمو دون جفاف أو هدنة. فُجع أبي الشاب أواخر خمسينيات القرن الماضي بوفاة رفيقة دربه أمينة، بعد وقت قصير من ابتهاجهما بابنهما البكر أنور.
ظلت الحسرة في قلب والدنا تتصاعد، ووصف لنا مراراً خالتنا وما فعله غيابها، كانت ساعده الأيمن في العمل باستصلاح الأرض، وتطويع صخورها.
أَخواني علي وهشام كانا حلقة في رحلة الفقدان في عائلة والدي الجديدة، كلاهما عانى شلل الأطفال، قضيا الأجل المحتوم بعد سنتين، وصارا من طيور الفردوس. قصت أمي لنا سيرتيهما، وهشاشتهما، ورصدنا الحزن والقهر في استحضارها لهما.
جاء أخي زيدان ليستأنف رحلة الموت لعائلتنا، فقضى غرقًا بعد النكسة بقليل.
كان في صفه الثالث، حاول السباحة في بركة "أبو عباس"، وظن رفاقه أنه يدعوهم للنزول، والحقيقة نداء استغاثة للطفل الأسمراني الوسيم.
كان طلب أمي، خلال إفادتها للشرطة، أن يضع مالك البركة سياجًا، حتى لا تصعد ملائكة أخرى إلى السماء من الماء. بقيت أمي تغمض عينها وتخفي بكاء قلبها، ولا تنظر إلى مسرح خسارة بكرها، الملاصق لأرضنا.
افتتح عمي خالد عام 1978 بغيابه، بالكاد كنا نحفظ ملامح صورته، كان قوي البنية وطيب القلب، ومكافحًا.
ذقنا مرارة الغياب في خريف 1982 بوفاة جدتنا من أبينا أسمى، ثم تبعتها الشتاء التالي جدتنا لأمنا (أمينة)، وصرنا بلا جدة حديدية مكافحة، أو قلب طيب.
في الثمانينيات، خسرنا عمي عمر، الذي مات بعد معاناة مع المرض، أدت لبتر ساقه. كان جارنا في الزقاق، وترك قصصًا عديدة.
عادت الأحزان لطرق جدراننا، ففي خريف 1987 بوفاة عمي عبد العزيز (أبو طالب)، كنا في بيت واحد، وقد كبرنا قليلًا لنتقاسم قهر الغياب. وبعد عشر سنوات تجدد الحزن على خالنا الوحيد (عبد الغني)، فقد كان أبو الصادق حنونًا ومضيافَا، وزارنا في سجون المحتل.
نهاية الثمانينات، غاب ابن العم الطيب المكافح أبو نادر، بعد صراع مرير مع السرطان، تبعه ابن العم أبو بكر، لحق بهم أبو عمر، في غربته.
انفجرت الأحزان في مطلع القرن 21 برحيل متتابع لابني عمنا: طالب وعونية، بعد اغتراب ومرض في الكبد، وتسمم في الدم، وغابت بعدهما عمتاي: هونية ويسرى في حزن مزدوج بفارق 40 يومًا، تلتهم العمة عذبة (أم يوسف) وابنتها (آمنة).
قبلهن ابتلعت الغربة عمي عبد القادر، الذي لم نعرفه إلا بالصورة، وسمعنا سيرته، وعرفنا قوة قلبه.
تهاطلت الحسرة ثانية في خريف 2012، يوم غاب دون سابق مرض ابن خالنا وجد أولادنا (مصطفى)، كان أبو هاني بحق الرجل الطيب المثابر، وصاحب الإيثار، الذي وقف قلبه عن العزف.
كان 27 نيسان 2017 ثقيلًا جدًا، حين خسرنا حارس الروح، ووالدنا الطيب المُجد المكافح، يومها شعرنا بأن الدنيا قد أخذت كل شيء دفعة واحدة، وتركتنا على ناصية اليتم.
في آب 2020 رحلت جوهرتنا الغالية ورفيقة الطفولة، حجتنا زوجة العم (أم طالب)، فقهرنا غيابها، الذي أشعله من جديد ابنها وصهرنا وصديقنا يوسف (أبو النور)، حين اختطفه منا الفيروس اللعين، في اليوم قبل الأخير من 2020.
نعيش اليوم في أحدث إصدار للحزن، بعد أن خسرنا زوجة أخينا (حسان) ابنتنا واختنا الشابة ربى صدقي زكارنة (أم الجود)، عقب 18 شهرًا من صراع مرير مع السرطان الأسود، لنرجوها أن تنقل حبنا وشوقنا لمن يسكنون القلوب.
أسواق جنين
حملات
فكرة الحملات لن تجدي نفعًا، نحتاج إلى حالة مستدامة تنظم أسواق مدننا وبلداتنا وشوارعنا، وتجد بديلًا عمليًا للفئات التي تلتقط أرزاقها تحت الشمس، وتحرر الأرصفة، وتقفل أفواه الحفر، وتزيل التعديات التي تسطو على الأملاك العامة، دون النظر لأصحابها، وتجد حلًا للنفايات المتكدسة، وتتجه لتخضير مدننا.
بالإمكان التضحية بشارع واحد وتخصيصه للتسوق، وإعادة النظر في القرارات المرتجلة التي شوّهت مدننا وتجمعاتنا، كسوق الأمل، الذي أتلف معالم جنين.
بالمناسبة، سمعنا في آخر 10 سنوات عن قرابة 20 حملة لتنظيم أسواقنا، وكأنها سيرة شتوية وصيفية.
ام عماد يسار الصورة
أم عماد
قبل 20 عامًا، انشطر قلب الخالة هيام عبد العفو أبو زهرة، حين قتل المحتل ابنها الزميل الصحافي عماد؛ بتهمة أنه كان يحمل كاميرا ويغطي العدوان على جنين، المدينة التي أحبها وأصدر فيها صحيفة محلية باسمها.
عرفتُ الخالة أم عماد بعد رحيل فلذة كبدها، وأعمل معها منذ سنوات. أجدها صبورة، مثابرة، ومبادرة، وتحفظ ذكرى ابنها، وتؤمن بالعمل.
مما قالته لي عن جوهرتها عماد، أن الاحتلال فرض غرامة باهظة على العائلة، بدعوى تغيّبها عن حضور جلسة المحكمة، فيما رفضت الدولة الديمقراطية منح تصريح للعائلة للوصول إلى مقر عدالتها".
المختلف في أم عماد إصرارها، فقد غرسنا في جنين معًا الأشجار في مقر مركز الطفل الثقافي، وفي المركز الكوري، وفي الجامعة الأمريكية، ومحيط قاعة بلدية الزبابدة، وحدائق خاصة.
وعرفنا نساء جنين وسيداتها في منتدى مرج ابن عامر على محميات المدينة المنسية، ونفذنا مسارات بيئية، وعقدنا تدريبات ومحاضرات، ولقاءات تلفزيونية، ووفرنا فرصة لزيارات تعليمية إلى بيت لحم، عبر الأصدقاء في مركز التعليم البيئي، ونستعد للمزيد.
قروض
تطالع إعلانات لقروض "حلال" للسياحة والسفر. أي ثقافة نسعى لتكريسها؟ وأي نمط استهلاك مفرط نريد تعزيزه؟ باختصار نحن نهرب من الواقع بزراعة الوهم ورعايته.
في المقابل، أعلن أحد الفنادق أن سعر الليلة الواحدة في عيد الأضحى 1200 شيقل فقط (244 دينارًا)، وهو مبلغ يفوق أسعار فنادق عربية ودولية عديدة.
تبولة
يوم عالمي
تصلني إعلانات منذ أسبوع، تبشر باليوم العالمي للتبولة (2 تموز). أعترف أن ثقافتي الخاصة بمناسبات الطعام ضعيفة، فلولا السيد جوجل لما عرفت أن لبنان يحتفل بالتبولة منذ 21 عامًا.
ننتظر إحياء اليوم الدولي للرشتة والعدس، وللمقلوبة، والأرز واللبن، الذي يفيض علينا كل عرس، دون أن نعرف أي فكرة سنجنيها من تخصيص أيام عالمية للطعام؟
التعليم قبل 30 عاما
معضلة
الإقرار بوجود معضلة كبرى، وأن آخر ثلاث سنوات مرت دون الحد الأدنى من التعليم في المدارس والجامعات، خاصة التعليم عن بعد، يوجب إدخال تغييرات جوهرية في وزارة التربية وطريقة تعاملها مع المعلمين والمدارس والطلبة، وتعديل المنهاج بحيث يعتمد على صناعة المعرفة وليس التلقين، وتغيير القوانين والضوابط المدرسية الهشة، وإلغاء البرامج الشكلية والثانوية وتكريس الجهود كلها على الفاقد التعليمي، وتشجيع التوجهات نحو التعليم التقني والمهني.
طعام أعراس
أعراس
ينتظر الأهل بفارغ الشوق الابتهاج بأفراح أحبتهم، التي لا تماثلها سعادة.
المؤسف أن أعراسنا هي الأخرى تغيرت، ولم تعد كما كانت ببساطتها وصدقها وخروجها من القلب. يطغى اليوم الشق المادي على أعراسنا، فنُحمّل أنفسنا ما لا طاقة لها به، فالتكاليف باهظة، وثمة مبالغة لا يمكن إنكارها فيما يجري إنفاقه عليها.
لا يُعقل على سبيل المثال، أن يستدين صاحب العرس لدفع أجور خيالية للمطربين، وللقاعات الفاخرة، وللطهاة، وللإضاءة، والتصوير، وبطاقات الدعوة، والأزهار، والصوتيات، والعراضة، وصالونات التجميل، وفساتين الفرح، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، "النقوط" عبء ثقيل على كُثر، خاصة مع ازدياد أعداد المتأهلين إلى بيوت الزوجية.
ابتهجوا بأفراحكم دون تكاليف باهظة، ومدّوا أرجلكم على قدر لحفكم، وغنّوا وارقصوا بلا إرهاق لجيوبكم؛ لأن الأصل في الفرح الإشهار لا الاقتراض أو المبالغة في تفاصيل لا طائل منها، وهي ليست منافسة للتباهي، فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها.