خاص بآفاق البيئة والتنمية
صيف (2021) كان مُختلفًا تمامًا، إذ لم تكف وسائل الإعلام عن بث أخبار الكوارث الطبيعية، من حرائق وفيضانات، ولعلّ وقوع الحرائق صيفًا أمرٌ متوقع لدينا، بينما "أخبار الفيضانات" كانت مُذهلة أكثر لشدّة أضرارها ولحدوثها صيفًا، ثم كونها لم تنحصر في بقعة جُغرافيّة واحدة، بل ضربت مناطق مُختلفة من العالم، من الصين إلى الهند إلى ألمانيا وبلجيكا وحتى نيجيريا وأوغندا. ولفهم ما يحدث بصورة أشمل، لا بد من وقفة مع أسئلة من هذا القبيل: "هل الاحتباس الحراري هو السبب في كل ما يحدث؟" و"هل فيضانات الصيف طبيعية؟" أو حتى "هل باتت بلادنا عُرضة لمثل هذه الفيضانات؟".
|
|
ارتطام وتراكم السيارات فوق بعضها بسبب الفيضانات في مدينة فيرفيير في بلجيكا في تموز الماضي (AFP) |
مع أننا لم نتعود على سماع أخبار الفيضانات في الصيف، إلا أن صيف (2021) كان مُختلفًا، إذ لم تكف وسائل الإعلام عن بث أخبار الكوارث الطبيعية، من حرائق وفيضانات.
ولعلّ وقوع الحرائق صيفًا أمرٌ مُتوقع لدينا، بينما "أخبار الفيضانات" كانت مُذهلة أكثر، لشدّة أضرارها، ولحدوثها صيفًا، ثم كونها لم تنحصر في بقعة جُغرافيّة واحدّة بل ضربت مناطق مُختلفة من العالم، من الصين إلى الهند إلى ألمانيا وبلجيكا وحتى نيجيريا وأوغندا.
ولفهم ما يحصل بصورة أشمل، لا بُد من وقفة مع أسئلة مثل: "هل الاحتباس الحراري هو السبب في كُل ما يحصل؟" و"هل فيضانات الصيف طبيعية؟" أو حتى "هل من الوارد أن تضرب بلادنا مثل هذه الفيضانات؟".
لو أخذنا ألمانيا مثالًا، فإن الإجابة عن هذه الأسئلة والتي قد تبدو للوهلة الأولى مفهومة ضمنًا، إلا أننا سنجد أن الخُبراء حذرون فيما يتصل بالأسباب ومدى العلاقة بالاحتباس الحراري وأثره على الفيضانات الأخيرة بالذات، وبخاصة أن لألمانيا تاريخ طويل مع فيضانات الصيف، والأمر ليس انقلابًا تامًا في موازيين الطبيعة كما يُمكن أن يُتوَهّم من متابعة نشرات الأخبار "السريعة".
تاريخ فيضانات الصيف
من يعرف ألمانيا جيدًا، يعلم أن هطول الأمطار في الصيف مسألة طبيعية جدًا، فمثلًا في مدينة آخن الألمانية، والتي اجتاحت الفيضانات العنيفة ريفها أخيرًا، فإن معدّلات الأمطار تُظهر أن شهر يوليو/ تموز هو ثاني شهر من حيث كميّات الأمطار وتصل إلى 88 ملم (لتر لكل متر مربع) فيما الكميّة في حزيران وآب أقل من ذلك بقليل (83 و 85 ملم) وبشكلٍ عام تتوزع هذه الكميّة على 10 أيام لكل شهر "بالمعدل".
ومن المؤكد أن ما حصل في الصيف الأخير، كان مُذهلًا من حيث الكميّة، ففي 24 ساعة فقط هطلت أكثر من 150 ملم من الأمطار، أي حوالي ضعف الكميّة التي كانت تهطل في 10 أيام في شهر يوليو/ تموز، وهو ما يتوقع حدوثه مرّة كل 100 عام فقط.
هذه الكميّات، ليست غريبة عن ألمانيا، وبالبحث في تاريخ فيضانات الصيف، نجد أن هناك عددًا من الفيضانات العنيفة التي ضربت ألمانيا في صيف هذه الأعوام: 1997، 2002 و 2013.
وفي عام 1997 أُطلق على الفيضانات الضخمة على طول نهر الأودر لقب "فيضان الوحدة" (بالألمانية Einheitsflut) كونه الأزمة الوطنية الأولى من نوعها التي تضرب ألمانيا الشرقية والغربية، وكان بمثابة اختبار للوحدة الألمانية.
علمًا أن فيضان عام 2002 الذي ضرب ولاية ساكسونيا شرق ألمانيا كانت أضراره كبيرة وبالأخص في مدينة درسدن، وقد ضربت نفس المدينة فيضانات شديدة في صيف 2013.
المُثير في الأمر، أنه بعد الفيضانات الأخيرة، كانت هناك محاولات لربط وتحليل ما يحدث، بناءً على ما سبق من فيضانات ضربت ألمانيا في صيف سابق، والتي يعد مُسببها معروفًا وهو ما يُسمى عند خُبراء الطقس بـ Vb-Wetterlage - عبارة عن مُنخفض ضغط جوي يتسبب بحمل كميّات هائلة من بخار الماء من منطقة البحر الأبيض المتوسط مرورًا بجبال الألب إلى وسط أوروبا- .
وبشكل عام يؤدي هذا المنخفض إلى تمركز الفيضانات قرب مجاري الأنهار وفي منطقة جغرافيًا ضيقة، ولكن ما حدث أخيرًا، بحسب الباحث في قضايا المناخ (اندرياس ماركس Andreas Marx) كان مُختلفًا تمامًا، فيقول: " لقد شهدت الجبال الوسطى في ألمانيا العديد من الفيضانات الكارثية، لكنها لم تكن مشابهة لما حصل في الآونة الأخيرة".
ويوضح الفرق: "بشكل عام تنطلق العاصفة من نقطة معينة، لكن هذه المرّة كانت مُختلفة، كما أنه وبشكل عام تستغرق العاصفة ما بين ساعة أو نصف ساعة لتتحرك قُدمًا، ولكن هذه المرّة لم يحدث هذا أيضًا".
غرق المنازل بسبب فيضان النهر في مدينة إردورف بألمانيا في تموز الماضي (DPA)
الاحتباس الحراري أَهو السبب؟
مع أن الكثير من الزعماء الأوروبيين سارعوا في الإعلان بأن التغير المناخي هو السبب في الفيضانات التي ضربت المانيا و"جاراتها"، كما أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل راحت تطالب العالم بالإسراع في التعامل مع التغير المناخي؛ إلا أن هذا التسرّع باتهام الاحتباس الحراري والتغير المناخي بالفيضانات الأخيرة ليس متفقًا عليه من قبل عُلماء المناخ.
وفي مقابلة لموقع "سبكتروم" مع (ريتو كنوتي)- باحث سويسري مُتخصص في قضايا المناخ -، سُئل إذا ما كان يُمكن القول إن الفيضانات المُدمرة الأخيرة في غرب ألمانيا نتيجة للتغييرات المناخيّة، وكانت إجابته أنه لا ينبغي صياغة السؤال بهذه الطريقة.
وبما أننا نبحث عن الأسباب علينا أن نسأل: "إلى أي مدى ساهمت التغييرات المناخيّة في تأجيج حدّة هذه الفيضانات أو حتى التخفيف منها؟" ثم يضيف موضحًا: "المساهمة يُمكن أن تكون في كلا الاتجاهين، سواء للأسوأ أم للأفضل، وبالتالي لا بُد من دراسة كُل حادثة أو كارثة بشكل مهني كي نصل إلى استنتاجات علمية رصينة".
نفس الباحث، يُشير إلى أن الشيء الأكيد هو أن التغييرات المناخيّة ستزيد من وتيرة تكرار الفيضانات وموجات الحرارة بشكل عام، علمًا أننا عندما نتحدث عن حادثة بعينها، يجب أن نبحثها على حِدة (قبل أن نقرر علاقتها بالتغييرات المناخية).
هذا الرأي، لا يحمل أي نوايا للتقليل من مخاطر التغييرات المناخية، بقدر ما هو محاولة جادّة لفهم المناخ والكوارث الطبيعية.
فموقع bildungsserver.de يُشير كذلك إلى أنه لا يُمكن الجزم بأن التغيّرات المناخيّة سببًا لأي حادثة فردية، ومع ذلك يؤكد الموقع أن التغييرات المناخية تشير إلى أن المعطيات المتاحة بالنسبة للرطوبة المطلقة في الغلاف الجوّي في المانيا تظهر ارتفاعًا بنسبة 4% للفترة ما بين عامي 1951 و 2006.
هذا الارتفاع يزيد من احتماليّة حدوث عواصف مطريّة.
يُضاف إلى هذا، أن حوادث الأمطار الغزيرة المتأثرة بمنخفض الضغط الجوي "الصيفي" ( Vb-Wetterlage ) قد ازدادت هي الأخرى.
كيف تنعكس هذه المعطيات على بلادنا؟
حتى لو تكن التغييرات المناخيّة التي يشهدها العالم هي السبب في فيضانٍ بعينه، ولكنها سبب في زيادة وتيرة الفيضانات بشكل عام، سواء في العالم أم في بلادنا.
ويفسر العلماء ذلك بأن ارتفاع درجات الحرارة تؤثر على درجة حرارة البحار؛ والبحر الأبيض المتوسط هو أحدها، وعندما ترتفع درجة حرارة مياه البحر الأبيض المتوسط بدرجتين عن المعدل (وهذا "كثير" كما جاء في تصريح لأحد الخبراء) فإن كميّة البُخار ستزداد بنسبة 7% لكل ارتفاع مقداره درجة مئوية في الحرارة، وزيادة بخار المياه (الرطوبة المطلقة) تزيد في تواتر وشدّة الهطولات المطريّة والعواصف.
لماذا يجب أن تُقلقنا هذه الزيادة؟
يكاد يُجمع الخبراء على زيادة وتيرة الفيضانات مع التغيّرات المناخية.
ومصدر القلق هو أن الفيضانات التي يُشار إليها في الأخبار بأنها تحدث مرّة كُل مائة عام أو 500 عام يُمكن أن تتكرر بوتيرة أسرع، فمثلًا الفيضان الذي كان يحصل مرّة كُل مائة عام يُمكن أن يتكرر مرّة كُل 50 عام، وربما 20 عام أو أقل، وهذا بالضبط ما يُعطي أهمية بالغة لدراسة تاريخ الفيضانات والكوارث الطبيعية.
عندما نحاول دراسة "تاريخ الفيضانات" في بلادنا، نجد كوارث طبيعية لم نَرها ولم نعتدها وقد تتكرر يومًا ما.
وفي دراسة بعنوان " الكوارث الطبيعية في بلاد الشام ومصر " للباحث محمد صلاح، يُحصي أبرز الكوارث التي حصلت بين عامي 1097 و 1517 ، ويُشير إلى فيضانات وسيول جارفة عديدة ولعل أبرزها كانت السيول الجارفة التي شهدتها بلاد الشام في تشرين أول من عام 1153م والتي ذكر المؤرخون أضرارها في منطقة طبريا، والتي أدت إلى هدم العديد من المساكن وانجراف أحجارها إلى البحيرة من شدّة قوة المياه.
حادثة أخرى مهمة حصلت في أكتوبر/ تشرين أول من عام 1300م مع ذوبان الثلوج على قمم الجبال القريبة لمنطقة نهر العوجا قُرب يافا (وهي منطقة لا تشهد الثلوج إلا نادرًا) ففاضت مياه النهر وألحقت أضراراً فادحة بالجيش المملوكي الذي كان متواجداً في المنطقة آنذاك كما ذكر المقريزي وابن أيبك.
أبحاث أخرى أُجريت على الفيضانات في آخر 100 عام، تُظهر أن بلادنا شهدت هطولات مطرية شديدة حتى في "عزّ الصيف"، وكان أجدادنا يستغربون من هذه الأمطار ولا يستبشرون بها خيرًا (غالبًا) إذ يُقال عنها: "من قلّة هداهم قلب صيفهم شتاهم".
ففي آب 1920 هطلت حوالي 30 ملم من الأمطار في يوم واحد في منطقة زمارين/ "زخرون يعقوب" (جنوب مدينة حيفا).
ويُقال إن مدينة دمشق شهدت في نفس الشهر عاصفة مطرية شديدة استمرت لأربعة أيام. هذه الكميّة لم تتكرر في ذلك الوقت من السنة حتى مطلع أغسطس/ آب 1972، إذ شهدت أمطارًا في مناطق متفرقة، كان أبرزها ما هطل في منطقة حيفا ووصل إلى 33 ملم وهو أحدث رقم قياسي لشهر آب.
ومن مراجعة بيانات الأمطار، نجد أن أمطار الصيف ليست نادرة جدًا، فهي تتكرر كُل 10 سنوات 3 مرات في المعدل، وهي أقل نُدرة عندما نتحدث عن أمطار أول الصيف وآخره، ولكن الفيضانات في الصيف هي الأكثر نُدرة، ومع ذلك فإن حصولها مرّة يعني أنها قد تتكرر يومًا ما.. قريبًا كان أو بعيد!
فبعد ربيع عام 1957 الذي كان مطيرًا، استمرت الأمطار الغزيرة في شهر حزيران الذي شهدت ثلاثة هطولات مطريّة متفرقة في النصف الأول من الشهر، أبرزها كانت الأمطار التي حصلت في 11-12 حزيران في منطقة النقب وأدّت إلى فيضانات هناك.
أيضًا في جنوب الخليل هطلت حينها أمطار غزيرة أدت إلى تشويش الحركة في المدينة. هذه العاصفة كانت نادرة في كمياتها وشدّتها فقد هطلت حوالي 32 ملم خلال 45 دقيقة، كما أنها ليست تقليدية بالنسبة لمكان هطولها. فهطولات مطريّة كهذه لم تحصل في صحراء النقب إلا في حزيران 1941 و 2012 ولكنها لم تكن بحدّة أمطار حزيران 1957.
حتى في تموّز، شهدت بلادنا أمطارًا غزيرة، وفي تموز 1995، هطلت بين 9 و12 كميّات كبيرة من الأمطار وصلت إلى 20-25 ملم في منطقة الكرمل، وقد سُجّل 34 ملم من الأمطار في جامعة حيفا، وتُعد هذه الكميات نادرة جدًا في هذا الوقت من السنة وغير مسبوقة.
أخيرًا، إن التغييرات المناخيّة التي يشهدها العالم، ليست عنا ببعيدة، والحديث عن ارتفاع وتيرة وحدة الفيضانات في المستقبل يجب أن يشغلنا مُنذ الآن، وليس عند وقوع الكارثة، يُمكن أن يغيّر الكثير.
وقد خلصت الكثير من الأبحاث إلى أن الاستعداد للخطر نفسه من خلال خرائط أضرار الفيضانات والإنذار المُبكر يُمكن بحد ذاته أن يُنقذ الكثير من الأرواح ويقلل الخسائر، وبالتالي دراسة تاريخ الفيضانات، وحتى دراسة مواقع الخطر قديمًا وحديثّا، وإتاحة كُل هذه المعطيّات بشكل "سلس" للمواطنين وأصحاب الشأن، يمكن أن يخفف الأضرار حتى دون أن نستثمر في البُنى التحتية المُهترئة.. فماذا ننتظر؟