حبيب معلوف
اقتنعت كاليفورنيا بأن الماعز "حليف قويّ" في مواجهة الحرائق، ولم تقتنع وزارة البيئة وإدارة المحميات في لبنان بذلك بعد.
فِرق الإطفاء والإدارات المعنية في الولايات الأميركية استعانت أخيراً بالماعز للتخلص من الأعشاب القابلة للاحتراق، فيما لم تنفك وزارة البيئة اللبنانية، بالتعاون مع "زميلتها" وزارة الزراعة ومع إدارة المحميات، عن إخراج الماعز والحطّابين من الغابات منذ مطلع التسعينيات، بدلاً من تنظيم عمليات القطع والرعي، وتطبيق مبدأ "من يعشْ من خير الأحراج فعليه أن يحميها".
مطلع شهر تموز الماضي، بدأت سلطات الإطفاء في ولاية كاليفورنيا الاستعانة برؤوس الماعز لرعي الأعشاب وإزالتها من الأراضي المحيطة بالغابات والمنازل المجاورة لها، قبل أن تجف وتصبح قابلة للاشتعال.
يأتي ذلك بعد عام (2020) الذي عُدّ الأسوأ في تاريخ كاليفورنيا على صعيد الحرائق (تماماً كما كان الوضع في لبنان)، إذ ابتلعت ألسنة اللهب أكثر من 1,5 مليون هكتار من المساحات الحرجية. ومع التوقّعات بزيادة سنوية في الحرارة بسبب تغيّر المناخ، فإن الخشية من أن تصبح هذه المآسي الطبيعية أمرًا "اعتيادياً".
وبحسب تجارب عالمية، وممارسات عرفها لبنان سابقاً، تساهم قطعان الماعز في مكافحة استباقية للحرائق، بالتهامها الأعشاب والنباتات القابلة للاشتعال بسرعة، فتنشأ بذلك مناطق عازلة و"كوريدورات" بين المساحات الحرجية والمساكن، لتشكّل حاجزاً يتيح للإطفائيين التدخل في "بيئة أكثر أماناً".
هكذا باتت المواشي جزءاً من آليات مكافحة الحرائق من دون أي كلفة، ناهيك عن مساعدتها في توفير استخدام المياه العذبة، وفي الوقود المستخدم في آليات الإطفاء، وفي نفقات استخدام الطائرات.
كما أنها تقلل الخطر الذي يهدّد حياة رجال الإنقاذ، خصوصاً في المناطق ذات التضاريس المتعرّجة التي لا يصلها غير الماعز المعروف بمهارته في التسلّق؛ شريطة أن تبقى عمليات الرعي تحت المراقبة ووفق تنظيم دقيق كي لا تنزلق إلى "الرعي الجائر".
الميزة اللبنانية: رعي وتحطيب
في كاليفورنيا، يستعان بشركات متخصّصة تأتي بقطعان الماعز لأداء هذه المهمة، مقابل بَدلات مالية.
أما في لبنان، يمكن الاستعانة بـ"المعّازة" مجاناً، وسيكونون من الشاكرين، إذ إن من تقاليد الرعي في الأحراج اللبنانية، أن يدفع المعَّاز لأصحاب الأحراج، مقابل السماح له بالرعي، حليباً أو لحماً أو سماداً.
"الميزة اللبنانية" الأخرى التي كانت سائدة في الممارسة، خصوصاً في جبل لبنان، هي الدمج بين الرعي والتحطيب في ما يشبه إدارة متكاملة ومستدامة للأحراج، إذ كان الحطابون يدخلون إلى الأحراج، بين فترة وأخرى، لتحطيب الأشجار في عملية يُطلق عليها اسم "الفرع". وكانت قطعان الماعز تُحرم من دخول هذه الأراضي لمدة تُراوح بين خمس وعشر سنوات (بحسب نوع الأشجار وسرعة إعادة نموها)، لإعطاء فرصة لنمو هذه الأشجار، وحتى يتجاوز طولها ضعفَي طول رؤوس الماعز المعروف بأنها تأكل رؤوس الأشجار الطرية وتتسبب بإعاقة نموّها من جديد.
إذن، لطالما كانت حركة الماعز في لبنان جزءاً من نمو الغابات والأحراج، ومن دورة حياة الناس والغابة معاً، عبر رعي الأعشاب القابلة للاحتراق أو بترك فضلاتها لتكون سمادًا عضويًا يساهم مع بقايا أوراق الشجر في تخصيب التربة وجعل أوراق الشجر أكثر اخضرارًا.
وكان المستفيدون من الغابات والأحراج، من حطابين ومعّازة وجامعي الأعشاب الطبية والعطرية، هم أنفسهم حُماتها، والحريصين على استدامة مواردها.
ومع تطور الحياة ودخول التكنولوجيات كالمناشير (بدلًا من الفؤوس) التي تعمل بالوقود، وقع الاختلال الأول والأخطر على حياة الغابات. إذ ضربت هذا "التقسيم التاريخي"، وبات كلّ من يُتقن حمل منشار تهديداً لمهنة الحطّاب وللأشجار والغابات معاً، لسهولة القطع وسرعته، بما لا يتماشى مع سرعة نمو الغابات وتجددها.
كما شكَّل تجار الأعشاب من شركات كبرى مصدر تهديد للأعشاب الطبية والعطرية، إذ صارت عرضة للانقراض بسبب القلع الجائر لها، مع غياب المراقبة والتنظيم.
ولأن فكرة إنشاء المحميات في لبنان، تزامنت مع إنشاء وزارة البيئة بداية التسعينيات، فقد بُنيت فكرة حماية الأحراج والغابات على منع دخول أيّ كان لها.
أول المتضررين من ذلك كانوا الحطابين والمعّازة وجامعي الأعشاب الغذائية والعطرية والطبية وأعشاب الزينة، إضافة إلى الصيادين والنحّالين. ويبدو، أخيراً، أن بعض إدارات المحميّات (أرز الشوف مثلاً)، استدركت الأمر وبدأت في إعادة دمج الناس بالمحميات، وتجديد التعاون مع "أصحاب المصلحة" بمساعدتهم في العودة إلى الطبيعة والاستفادة منها والحفاظ على تجدّدها.
كما قامت بتطبيقات نموذجية لفكرة فرم أغصان تشحيلات الأحراج لتفادي الحرائق وتحويلها إلى "كومبوست" وتوزيعها على المزارعين لتخصيب التربة. وهي لن تعجز عن إيجاد سبل للتعاون مع المعّازة وتنظيم دخولهم إلى المحميات، وأن تفصل بين أحراج الرعي وممرات الرعيان وتلك المخصّصة لدروب السياح.
الرعي بدل العلف
تُعد إعادة الماعز إلى الأحراج أحد سبل مواجهة الأزمة الاقتصادية والبيئية التي يمر بها لبنان.
فالرعي فيها يوفر على المربين كثيراً من الأعلاف التي باتت أسعار خلطاتها باهظة، وتكلّف نحو عشرة آلاف ليرة يومياً لرأس الماعز الواحد، ما يجعل من أسعار الحليب ومشتقاته معتدلة تناسب المستهلكين، إضافة إلى ما لرؤوس الماعز من ميزات تفاضلية على المشتقات الحيوانية الأخرى (ولا سيما الأغنام والأبقار) نظراً لقلة دسامة لحومها، ومشتقاتها من حليب وأجبان وألبان، وما توفره من أدوية لضغط الدم أو لمعالجة تصلّب الشرايين ومراكمة الدهون والكوليسترول.