خاص بآفاق البيئة والتنمية

د. بتينا ماركس
للوهلة الأولى، قد يرى بعضٌ أن عمل الناشط البيئي صعب ولا يخلو من مَضيعة للوقت، وفي أحيان أخرى قد يبدو محفوفًا بالمخاطر.
لكن الذين يُقدرون جمال الطبيعة الأم وما تقدمه لنا من حياة لا يمكنهم إلا أن يردوا شيئًا من جمائلها؛ مثل القيام بنزه لطيفة في المساحات المُظللَة بالأشجار أو قيادة الدراجة بجانب إحدى ضفاف الأنهار.
منذ نعومة أظفارها، تشرّبت الدكتورة "بتينا ماركس" جيدًا قيمة البيئة النظيفة والآمنة، إذ نشأت في أسرة تقدر جمال الطبيعة، وعندما كبرت أصبحت من أشد المدافعين عن البيئة في كل محفل، ومسيرة حياتها المهنية تشهد لها بالمواقف الشجاعة في هذا الجانب.
تعلمت من انخراطها في الدفاع عن حقوق البيئة أن تقف في صف المظلومين بكل نبل، كحال الشعب الفلسطيني الذي عاشت معاناته بقضاء وقت لا بأس به في فلسطين، ما دفعها لأن تتبنى قضيتهم، ومنذ ذلك الحين لم تعد ناشطة بيئية فحسب، بل صوتًا لمن لا صوت له، لتتبوأ لاحقاً منصبًا إداريًا مرموقًا في مؤسسة هينريش بيل الألمانية.
في مقابلة ممتعة معها، تُطلعنا بتينا ماركس على أهم المحطات التي مرت بها في النشاط البيئي وحقوق الإنسان، خاصة في فلسطين.
وفي مستهل الحديث، استعادت ذكرياتها في أيام الصبا، عندما كانت تعيش في بيت والديها في منطقة البلاطينية، الواقعة على الحدود مع فرنسا، وهي منطقة تحفها الغابات الخضراء من كل صوب. إلا أن جشع الإنسان انتهك سلام تلك الغابات، فتساقطت الأمطار الحمضية على تلك المنطقة، إضافة إلى تلوث نهر الراين بسبب المصانع.
كل ذلك دفع ماركس إلى المشاركة في العديد من التظاهرات السلمية البيئية المناوئة لطغيان البشر والآلات التي يصنعونها، ناهيك عن توعية الآخرين.
كما شاركت في عدد من التظاهرات المنددة باستخدام الطاقة النووية إبان حدوث انصهار جزئي في ولاية بنسلفانيا بأمريكا عام 1979 ومن ثم كارثة مفاعل تشيرنوبيل عام 1986 وما خلفته من خوف تجاه استخدام الطاقة النووية.
اتجهت ماركس إلى الصحافة واختارت أن تهب حياتها المهنية للصحافة البيئية تحديدًا، الأمر الذي شكَّل تحديًا لديها، فخلفيتها العلمية متخصصة في العلوم الإنسانية، لا العلوم الطبيعية. ومع ذلك، اندفعت بحماس لخوض غمار التجربة التي نضجت شيئًا فشيئًا بصبّ اهتمامها على قضايا العصر، وعلى رأسها ظاهرة التغير المناخي.
وكما أسلفنا، لم تقتصر جهود د. ماركس على الصحافة البيئية، بل مارست أيضًا الأنشطة والأعمال التي تعنى بحقوق الإنسان.
وساهم في ذلك عملها مع رابطة الإذاعة الألمانية بين عامي 2003 و2008 في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 و"إسرائيل"، وحينها كانت شاهدة على بشاعة الانتهاكات الإسرائيلية تجاه قطاع غزة والضفة الغربية. في تلك الفترة اختبرت عن كثب أقسى الأزمات ومنها المياه ومشاكل البيئة والعجز عن توفير الكهرباء وغيرها من الأزمات المعيشية الخانقة.
وفي المقابل، شدَّها صمود الفلسطينيين وفرحت بعقد صداقات وطيدة معهم، الذين بدورهم أطلعوها بشفافية على حجم البؤس الذي تعانيه بلادهم. كل ذلك أهلَّها لأن تكون جديرة بإدارة مؤسسة "هينريش بيل" العاملة في الأراضي الفلسطينية والأردن، والمهتمة بقضايا البيئية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، وتحليل السياسات والمناصرة.
ومجددًا أكدت بتينا في المقابلة، أن روحها معلقة بمدينة غزة على وجه الخصوص، وقد سنحت لها الفرصة لزيارتها بعد حرب 2008 وكانت لا تزال آثار جرائم الاحتلال قائمة، وآثار الفسفور الأبيض ماثلة للعيان.
كما عاشت ويلات حرب 2014 وما خلفته من إهلاك للحرث والنسل، تقول عن ذلك: "كنت مجرد شخص قدم من الخارج واضطر آسفًا أن يشهد معاناة الشعب الفلسطيني في وجه الترسانة الإسرائيلية في حرب غير متكافئة الأطراف، كان يتعين علي نقل معاناة شعب مظلوم لا حول له ولا قوة إلى المواطن الألماني، ولو تعلم كم يدمي قلبي سقوط الضحايا الفلسطينيين في أتون الحروب وعمليات التصعيد العسكري".
وتناولت في حديثها الأزمات المتتالية التي تعصف بقطاع غزة؛ وحسب تقرير للأمم المتحدة في عام 2020، أنها لم تعد صالحة للحياة مع استمرار العجز في توفير الكهرباء، وتلوث المياه، وصعوبة التنقل من وإلى القطاع، واختفاء معالم الطبيعة نتيجة المد العمراني وعمليات التصعيد العسكري المتكررة.
ومن وجهة نظر بتينا أن الحل الأمثل لإنهاء معاناة الغزيين، يبدأ برفع الحصار وإعادة الحرية للشعب الفلسطيني، لتمضي عجلة التنمية قدمًا، لا سيما أن الوضع الحالي يعيق أي جهد نحو الاستدامة وتحقيق السلام والاستقرار في المنطقة، تبعًا لقولها.
وبعيدًا عن الوضع الفلسطيني والانتهاكات بحقه، سألناها عن رأيها في وضع الصحافة البيئية في الوطن العربي، وذكرت بدورها أنها ليست مطلعة كثيرًا على المحتوى العربي، لكنها تلاحظ اهتمامًا لافتًا بالإعلام البيئي من خلال ما تقوم به "مجلة آفاق البيئة والتنمية" ومؤسسة معًا، والأمر كذلك مع شركاء مؤسسة هينرش بيل في الأردن.
مؤكدة من موقعها، أن المشاكل الكبرى المتصلة بالتلوث وانتهاك البيئة، سببها الفساد والجشع وانعدام الشفافية والمسؤولية، وانتشار المعلومات المغلوطة، مثل تصوير التغير المناخي على أنه مكيدة ومؤامرة كونية كما يحدث في سياق فيروس كورونا المستجد، وتعالي بعض الأصوات المنكرة لوجوده جملة وتفصيلًا.
وبتواضع، تقول إنها لم تقدم إنجازًا فاخرًا على صعيد الصحافة البيئية، مبدية ارتياحها إزاء التغير الإيجابي في المجتمع الألماني وزيادة الوعي البيئي لديه، وانتقال القضايا البيئية من كونها مواضيع مملة، لا تحمل جدوى إلى عناوين جذابة تتصدر الصحف والمجلات، المكتوبة والإلكترونية على حدٍ سواء، وهو ما تأمل أن يحدث في بقية دول العالم عامة، وفلسطين خاصة.
ووجهت في ختام حديثها رسالة للأجيال القادمة، إذ تأمل منهم مناصرة القضايا البيئية والدفاع عنها، مشيرة إلى نماذج لامعة في هذا المجال، مثل غريتا ثونبرغ، ولويسا نيوباور، وفانيسا ناكاتي، مثنية على الدور الحيوي الذي تضطلع به الحركة البيئية في الوطن العربي، المتحلية بالمسئولية تجاه كوكب الأرض، قائلة: "أعتز بالوقوف إلى جانبهم في نضالهم ضد التلوث ومسببات الاحترار العالمي".
يمكنكم قراءة النَص الكامل للمقابلة باللغة الإنجليزية، بالضغط على الرابط التالي:
https://www.maan-ctr.org/magazine/article/3189/