-1-
(النباتات المنزلية)
أما الجمال الحقيقي فكان في النباتات المنزلية التي ملأت الصالون والردهة بشلالات من الخضرة: ورق عريض، وورق رفيع، ورق شمعي، ورق إبري، ومدادة، وحبال تتقاطع عبر السقف من الأوراق فتشكل سقفا إضافيا أحلى وأروع. أنا لم أر مثل ذاك الجمال، فوقفت مبهورا أتأمل، وقلت "يا سلام" رغما عني. ابتسمت المرأة وسألتني:
- بتحب الزريعة؟
قلت بحماس:
- لأبعد حد.
قالت بكرم:
- إذا كنت تحب أعطيك فسخات.
قلت بأسف:
ما عندي فراندة ولا جنينة.
قالت بمرح:
- ولو شو السيرة؟ الزريعة تقعد في أي مكان.
قلت :"فعلا" . وتذكرت الوالد ومناشيره وبطون الجبال.
قالت بحماس:
لو شفت الخضرة في بلاد الناس! حتى الصحرا زرعوها زهور. ونحن في بلادنا يا خسارة! شايف هناك ؟ خلعوا الجوزة التي انزرعت بزمن ستي وزرعوا بدالها طوب وحجار!
( صورة وأيقونة وعهد قديم، ص ص 70 – 71 ).
-2-
(القطة الضائعة)
جلس على الصخرة حزينا ينتظر ظهور قطته وسماع حركتها بين الأشواك. أصيب بالوحشة وبحزن خاص غريب من نوعه. كانت القطة قد بدأت تتجسد له بشكل مخلوق ليس بحيوان، بل قلب وروح تتحرك عند قدميه وعلى ذراعيه وفوق صدره حين يحملها ويدور بها أنحاء الدار. هذا المخلوق له قلب يدق وأذن تسمع ويلبي النداء. يقول: " عنبر" فتلتفت إليه من كل زاوية واتجاه. خلف الشجرة، تحت الكنبة، فوق السرير، فوق القعد. يقول: "عنبر" فنلتفت إليه وتركض نحوه. أحبها في البدء لأنها تأكل من يده وتعتمد عليه. ثم أحبها حين كبرت وصارت تتجاوب لملامسته، وتجعله يحس بأنها مخلوق يبادله الحب .. أصبحت القطة لها ذاتها داخل ذاته. صارت مرآة لأفكاره. تهجم على الحشرة تداعبها وتدوخها حتى تتعب، ثم تضربها وتأكلها. في البدء أحس بأنها متوحشة ومثيرة للقرف والاشمئزاز. لكنه فهم القصة، قصة الحيوان والطبيعة، وقصة الإنسان والطبيعة، وقصة الدفاع عن الحياة باقتناص الحياة.
قال لأبيه: لو أشبعناها ما قتلت. ابتسم أبوه وقال برأفة: لكن الطبيعة يا ابني تغلب الطبع والتطبع. قال: يعني...؟ قال: الحيوان يقتل ليعيش، خلق ليأكل، ويأكل ليعيش. قلت: والإنسان؟ قال : الإنسان يقتل ليسود. يعني ماذا؟ يعني سلطة، يعني سياسة، يعني تعاسة، يعني استعمار.
( ربيع حار، ص ص 64 – 65 ).
-3-
(الجرافة وشجرة الزيتون )
لطمت فلاحة وهي تصيح: الزيتونات! "يا شقا عمرك يا صبحية !" فدفعها الجندي عن الشجرة، ومشت جرافة لتقتلعها من عمق الجذر. الجرافات مثل الديناصورات، لها أفواه كالحيتان تلتهم الشجر والحجر والصخر وبطون الأرض فتبقرها، وتأكل ما انزاح وما تكسر وتلقي ما بقي على الجانبين، وتغطس وتغور في عمق الأرض. الفك يغطس، والرأس يدور مثل حرباء خرافية، والدواليب تحفر أثلاما وحشية وتسحق ما بقي من الأغصان والحجارة والصخر الجميل. الصخر الجميل كبطون الحوامل، يا ما احتضنت أعشاش الطحلب والشقيق وعصا الراعي. الصخر الجميل يا ما احتضن أحلى أيام طفولتنا، وتذكرناه في غربتنا، وتأملناه عند المغرب وهو يصطبغ بلون الشمس، ويلمع في المطر كما المرآة. الصخر الجميل! واندفع الفك الحيتاني، وقضم الصخرة كقطعة سكر، وزعقت أنياب ومفاصل. صَوّر، صوّر، صوّر، أحزان الأرض. صوّر، صوّر آلام الناس. صوّر، صوّر، ووديع الصافي يتغني بجمال الأرض والسما ونسيم البحر. وتلك الشبعانة الغريبة ابنة ثاتشر تقول البيئة، تقول الاوزون، تقول الإنسان. هذا الجو لا فيه بيئة ولا فيه أوزون، ولا فيه إنسان. فيه جرافات تجرف ما بقي من الصحة وبقايا العقل. وإن ضاع العقل ماذا يبقى؟ يبقى التاريخ.
( ربيع حار، ص 217 ).
-4-
( الداخل والخارج )
كان بلاط المدخل ما زال رطبا من أثر الشطف. وأحواض النباتات المتسلقة والأزهار ما زالت تلمع من أثر الماء، والجو يفوح برائحة النظافة والياسمين وأزهار كثيرة. ومن وراء سياج داخلي يفصل المدخل الضيق عن بقية الأرض المحيطة بالدار، لمحت طرف حديقة تعج بشتى أنواع الأزهار والأشجار، وصناديق النحل، وفراش يطير. وهالني الفارق الجسيم ما بين الداخل والخارج؛ فطول الطريق ما رأيت إلا الزبالة والحيطان الملطخة بالأسود والأبيض وألوان الطراشة المبعثرة فوق الكتابة على الجدران، والشوارع المملوءة بالخردة ومياه المجاري والوسخ الكثير. أما هنا فهذا الماء، وهذا الزهر وفيض النظافة! فيما بعد عرفت أن هذا نظام البلد، أو نظام البلاد.
( الميراث ، ص 45 ).
-5-
( ماء النضح )
معقول يارجل؟ مصنع زبالة ومجاري؟ عم تحكي جد؟ مصنع... مصنع تعليب المجاري وتصنيع الزبالة والخردة. طيب وبعدين مين يشتريها؟
.. زبالة سماد؟ ومية المجاري نشربها؟ هذا اللي طلع منّه [ المهندس كمال] ابن أبو جابر؟ هذا اللي جايبه من الغربة ومن الألمان؟ مصنع زبالة ومجاري؟ أمّا حكاية !
لم تنته مشاكل كمال مع البيئة وأقوال الناس، إذ واجه أيضا في البلدية ما أذهله وطير عقله؛ فحين تقدم بطلب للرخصة انقسم المجلس إلى قسمين: قسم يقول نعطي الرخصة، وقسم يقول لا نعطيها. لا نعطيها لأن الزبالة ملك عام مثل المجاري ومصادر المياه والينابيع، فإن أنت سمحت لابن أبو جابر أن يفتح المجاري ويغرف منها ويصنّعها، فما يدريك أن يأتيك مهندس آخر ليطلب منك ترخيصا بفتح العيون ومخزون المياه !...
[ وذات يوم ] غاص كمال في نضح البلد حتى الركبة، وشعر بدوار في رأسه من زخم اليوريا والأوكسيد، وانتبه فجأة إلى فكرة أن هذا الخليط بحاجة إلى ملايين الليترات من الماء العذب لمعالجته، ومن أين يجيء بذاك الماء؟ وتذكر ما قيل في البلدية: أن أوسلو لم تترك لهم حصة في الماء، وأن الماء إن رغبوا فيه يباع بدولارات أو سندات. لكن المال، أو رأس المال، بالكاد يكفي لشراء ما يلزم من معدات وأبنية وأقنية وحفر ونقر ومد ماء ومواسير، فما بالك بالماء العذب من طبريا أو حتى من نهر الأردن؟
( الميراث ص ص 125 – 126 ، 190- 191 ).