خاص بآفاق البيئة والتنمية
منذ عام 1967، اعتمد الاحتلال الإسرائيلي سياسة الهدم والترحيل وعدم منح تراخيص البناء والسكن في الأغوار الفلسطينية، فهُجِّر ما يزيد عن 50 ألفًا من سكان الأغوار بحجة إقامتهم في مناطق عسكرية. وعمد أيضاً إلى السيطرة على الموارد الطبيعية والمياه في الأغوار، واستغل هذه المناطق الخصبة للزراعة بأنواعها المختلفة. وتسيطر"إسرائيل" حاليًا على 400 ألف دونم بذريعة أنها مناطق عسكرية مغلقة، وتحظر على الفلسطينيين ممارسة أي نشاط زراعي أو عمراني فيها. أما سكان التجمعات الفلسطينية المحاذية لمصادر المياه فيتعرضون لضغوط هائلة لدفعهم إلى الرحيل، فيُمنعون من الحصول على مياه الينابيع، ويُحظر عليهم نقل المياه عبر الصهاريج ويُفرض عليهم الحبس والغرامات، دون أن يُوفر لهم الاحتلال بديلاً. فهل سيبقى سكان مناطق الأغوار صامدون متجذِّرون على أرضهم رغم التحديات التي تهلّ عليهم من كل حدب وصوب، والعقبات التي تنهشهم بأنيابها دون صديق صدوق وأخ حنون يجبر كسرهم ويشدُّ أزرهم ويعينهم على البقاء والثبات؟
|
 |
الأغوار الفلسطينية- أفاق |
في مقال بعنوان "حروب الماء المستقبلية" نشره د. زيشان خان في صحيفة ديلي تايمز، يقول فيه: "نحن نعلم قيمة نقطة الماء فقط حينما تجف الأنهار، حينها ستتحرك الجيوش لاستعادة تلك النقطة".
إن الماء هو أصل الحياة وعماد نهضتها. وكيف لا يكون، وبه ارتبط قيام الحضارات الإنسانية منذ القِدَم؟ ألم تنشأ أولى الحضارات في بلاد الرافدين على ضفاف نهري دجلة والفرات، وحضارات مصر القديمة على ضفاف نهر النيل، وحضارات الصين القديمة على ضفاف نهري الأصفر ويانغتسي؟
ألم يكن انهيار سد مأرب سببًا في انهيار حضارة سبأ وهجرة أهلها شمالاً بحثًا عن الماء والتربة الخصبة؟ ألم تتصارع القبائل والجماعات قديماً وتنشب بينها حروب طالت أحياناً وقصرت أحياناً أخرى، وتباينت في شدتها وقدرتها على الفتك بسبب الماء؟
ومع التطور الهائل الذي نال من جميع مناحي الحياة وجعل الإنسان يعتمد على مصادر طاقة جديدة تتعدى الوقود الأحفوري ومكنته من غزو الفضاء وتطويعه لخدمة مصالحه، هل اختلف الحال بالنسبة للمياه؟ هل تخلّت الدول الحديثة عن حِصصها في الماء، مقابل الثروات الأخرى؟ أم أن قطرة الماء ما تزال تفوق قطرة الدم في قيمتها، حين يُراق الدم رخيصاً من أجل حماية ماء الوطن؟


مرج أخضر في الأغوار الفلسطينية- أفاق
الأغوار: دفء وماء وخضرة
عندما يقرع حديث الماء والصراعات التي تحوم حوله أذني، يقفز إلى فكري وبشدة الأغوار الفلسطينية! ولكن، لماذا الأغوار تحديداً؟ ما العلاقة التي تربط الأغوار بالماء والحضارة والصراع؟
للأغوار الفلسطينية حكاية خاصة تحمل في جنباتها تاريخاً طويلاً لأرض مغتصبة، من تضييق للخناق وسلب ونهب وصولاً إلى مصادرة الأرض وما تحويه من خيرات وفيرة ومياه غزيرة. وما الأغوار إلا أنموذج حي لما حدث منذ بدء احتلال فلسطين وحتى الآن.
تمتد الأغوار الفلسطينية وبحسب المركز الوطني للمعلومات، من بيسان جنوباً إلى صفد شمالًا، ومن عين جدي حتى النقب جنوباً، ومن منتصف نهر الأردن حتى السفوح الشرقية للضفة الغربية غرباً، وتبلغ مساحة الأغوار الإجمالية 720 ألف دونم وتشكل 28% من مساحة الضفة الغربية الإجمالية. وهي مناطق ذات أرض خصبة ومياه وافرة وطبيعية دافئة تُمكِّن ساكنيها من الزراعة طوال العام، وتتربع فوق ثاني أكبر حوض مائي في فلسطين.
احتُلت الأغوار عام 1967 مع بقية مناطق الضفة الغربية.. ويعيش فيها حالياً أكثر من 65 ألف فلسطيني، وتضم 27 تجمعاً سكانياً ثابتاً على مساحة 10 آلاف دونم، وعشرات التجمعات الرعوية والبدوية، وتتبع إداريًا لثلاث محافظات هي: طوباس (الأغوار الشمالية)، ونابلس (الأغوار الوسطى)، وأريحا (الأغوار الجنوبية).
ويعمل غالبية سكان مناطق الأغوار في الزراعة. ويتوفر لسكانها مصدرين مائيين، المياه الجوفية أولهما، ويُقدر عدد الآبار الجوفية الفلسطينية في مناطق الأغوار بـِ 169 بئراً؛ يعمل منها 111 بئراً فقط، وهذه الآبار ضحلة لا تزيد أعماقها عن 200 متر، وقد حُفرت في خمسينيات القرن الماضي إبّان حكم الأردن للأراضي الفلسطينية، ويمنع الاحتلال سكان الأغوار من إعادة تأهيلها، في الوقت الذي قامت فيه (اسرائيل) بحفر آبار عميقة ذات طاقة إنتاجية عالية أدت إلى توقف التغذية الجانبية للآبار الفلسطينية، ما أضعف الآبار الفلسطينية وهبط بمنسوب المياه فيها، ورفع من نسبة ملوحة مياهها مما يُخطر بانتهاء صلاحيتها للري.
أما مصدر المياه الثاني في الأغوار فهي الينابيع وعيون الماء التي يقدر عددها بـِ 22 نبعاً تتدفق مياهها من السفوح الجبلية المطلة على الأغوار، وتتذبذب كميات مياهها من موسم إلى آخر حسب تذبذب كميات الأمطار الساقطة على الطبقات الجبلية المغذية لها. رغم أن بعضها لا يمكن الاستفادة منها مثل فصايل، والعوجا، وواد القلط، ونويعمة، وذلك بسبب سيطرة الاحتلال عليها، أو منع الضخ منها ووقوعها تحت مسؤولية شركة المياه الإسرائيلية.
أما فيما يتعلق بمياه نهر الأردن وهي المصدر الثالث المفترض، فسكان الأغوار محرومون منها تماماً، يتقاسمها الأردن ودولة الاحتلال.

الألغام الإسرائيلية في الأغوار الفلسطينية- أفاق
تاريخ طويل من احتلال للأرض وسرقة للماء
لا يعترف الاحتلال الاسرائيلي بأي حقوق مائية للفلسطينيين منذ أن وطئت أقدامه فلسطين محتلاً، وحتى اللحظة.
وأخذت العيون الاسرائيلية تتطلَّع بطمع إلى مياه نهر الأردن منذ بدء احتلال فلسطين، فلا بد من توفير المياه الصالحة للري والشرب للمستعمرين الوافدين اليهود الذي قدموا إلى هذه البلاد لاستيطانها، إذن لا بد من السيطرة على المياه السطحية الموجودة، نهر الأردن وتفرعاته، إضافة إلى ما تضمه أرض الأغوار في بطنها من مياه جوفية أيضاً!
وخلال المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897 صرَّح هرتزل قائلاً: "إن المؤسسين الحقيقيين للأرض الجديدة هم مهندسو المياه، فعليهم يعتمد كل شيء، من تجفيف المستنقعات إلى ري المساحات وإنشاء محطات توليد الطاقة الكهرومائية". لذا كان لا بد من الاستيلاء على مصادر المياه، وكانت تلك هي الخطوة الرئيسية لإرساء حجر الأساس لقيام دولة "إسرائيل".
وهو ما مضى ينفذه المحتل بقوة في هذه البلاد: السيطرة على الماء لضمان البقاء على الأرض!
وجاء بن غوريون ليقول بكل قوة ووضوح عام 1955: "اليهود يخوضون مع العرب معركة مياه وعلى نتيجة هذه المعركة يتوقف مصير دولة "اسرائيل".
أتمَّ الاحتلال عام 1951 تجفيف بحيرة الحولة واستصلح بذلك 130 ألف دونم وقام باستغلال 100 مليون متر مكعب من مياه نهر الأردن لريها.
وفي عام 1964 أكمل مشروع المياه القطري الذي حوَّل بموجبه مياه نهر الأردن إلى منطقة النقب جنوب فلسطين بواسطة مضخات ضخمة ترفع المياه من 108م تحت سطح البحر إلى 238م فوق السطح بتكاليف باهظة تستهلك ثلث إجمالي كمية الكهرباء التي تحتاجها "إسرائيل".
يقول الباحث غسان الشامي (2015): "إن العمليات العسكرية الإسرائيلية على الحدود السورية اللبنانية في عامي 1964 و1965 كانت مدفوعة بأطماع إسرائيلية في مياه نهر الأردن وبانياس واليرموك والحاصباني، كما كان تحويل مجرى نهر الأردن أحد أسباب حرب 1967. وفي عام 1982 شنت (إسرائيل) حربها العسكرية على لبنان بسبب أطماعها في نهر الليطاني".
وقد اعترف أحد القادة العسكريين المقربين من موشيه ديان (وزير الحرب الإسرائيلي أثناء احتلال عام 1967) بأن الدافع الأساسي لاحتلال منطقة الجولان, كان مسألة المياه والأراضي الخصبة في تلك المنطقة.

مضارب بدو الأغوار الفلسطينية- أفاق
الأغوار تعطش وتُرحَّل قسرياً
تاريخياً، يُعد مشروع نائب رئيس وزراء الاحتلال-بالنيابة- يغال ألون عام 1967، هو التصور الذي تعمل "إسرائيل" عليه، وهو ما ينادي به نتنياهو اليوم من وجود لمنطقة آمنة، تمتد على الحدود الشرقية مع الأردن، بشريط عرضي يتراوح بين 10 إلى 15 كم، حول سيطرة الاحتلال على أكبر مساحة ممكنة من الأراضي الفلسطينية، وذلك بضم معظم مناطق غور الأردن من النهر إلى المنحدرات الشرقية لحافة تلال الضفة الغربية، وشرقي القدس وكتلة "عتصيون" جنوب بيت لحم إلى "إسرائيل".
ومنذ ذلك الحين، عملت دولة الاحتلال على إفراغ مناطق الأغوار من سكانها، بتعزيز الاستيطان فيها عبر إنشاء مستوطنات (نحّال) الزراعية العسكرية، لتكون الخط الدفاعي الأول من الناحية الشرقية، ورفض الاعتراف بالتجمعات الفلسطينية التي تسكنها أصلاً، واعتماد سياسة الهدم والترحيل وعدم منح تراخيص البناء والسكن، فهُجِّر ما يزيد عن 50 ألفاً من سكان الأغوار منذ عام 1967 وحتى الآن بحجة إقامتهم في مناطق عسكرية.
وعمد الاحتلال أيضاً إلى السيطرة على الموارد الطبيعية والمياه في الأغوار، واستغل هذه المناطق الخصبة للزراعة بأنواعها المختلفة وخاصة الموز والعنب.
وتسيطر "إسرائيل" حالياً على 400 ألف دونم بذريعة أنها مناطق عسكرية مغلقة، أي ما نسبته 55.5% من المساحة الكلية للأغوار، وتحظر على الفلسطينيين ممارسة أي نشاط زراعي أو عمراني فيها. أما سكان التجمعات الفلسطينية المحاذية لمصادر المياه فيتعرضون لضغوط هائلة لدفعهم إلى الرحيل، فيُمنعون مثلاً من الحصول على مياه الينابيع، ويُحظر عليهم نقل المياه عبر الصهاريج ويُفرض عليهم الحبس والغرامات، دون أن يُوفر لهم الاحتلال بديلاً، وعامةً، حفر أي بئر في المناطق الفلسطينية المحتلة يخضع لموافقة الحاكم العسكري ووزارة الدفاع الإسرائيلية.

منشأة في الأغوار لتعبئة التمر وتجهيزه للتسويق- أفاق
فهل سيبقى سكان مناطق الأغوار صامدون متجذِّرون على أرضهم رغم التحديات التي تتكالب عليهم من كل حدب وصوب، والعقبات التي تنهشهم بأنيابها دون صديق صدوق، وأخ حنون يجبر كسرهم ويشدُّ أزرهم ويعينهم على البقاء والثبات؟
المراجع:
* منطقة الأغوار بين الاحتلال وإعلان السيادة: فراس القواسمي- المركز الفلسطيني للإعلام
https://cutt.ly/AzD4M29
* مركز عبدالله الحوراني للدراسات والتوثيق: "الأغوار الشمالية بين مطرقة الاحتلال وسندان عصابات المستوطنين، تعطيش الاغوار... جريمة ضد الإنسانية" دراسة بحثية عام 2017
* بيتسليم . (2017, 11 تشرين ثاني). خلفية عن غور الأردن- مركز المعلومات( الإسرائيلي) لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة
https://www.btselem.org/arabic/jordan_valley
* الأطماع الصهيونية في المياه الأردنية- محمد السلاق
https://cutt.ly/PzD7jN2
* مياه فلسطين.. سرقة (اسرائيلية) ممنهجة- غسان الشامي، فلسطين اليوم/ مركز الزيتونة، تموز 2015
* مياه الأغوار الفلسطينية ومعركة البقاء- عوض الرجوب- الجزيرة نت
https://cutt.ly/JzD7OeJ
* الموسوعة الفلسطينية- (2013, 4 24): مشروع ألون.
https://www.palestinapedia.net/%D8%A2%D9%84%D9%88%D9%86-%D9%85%D8%B4%D8%B1%D9%88%D8%B9
* الأغوار المهددة بالضم الإسرائيلي.. حدود الفلسطينيين وسلّة غذائهم- ميرفت صادق وأيمن فضيلات- الجزيرة نت
https://cutt.ly/ezD77XT