حبيب معلوف
رافق التسرّب النفطي الذي ضرب الشاطئ الفلسطيني وامتدّ إلى لبنان، تكتمًا كبيرًا، بسبب الحظر الإسرائيلي على نشر المعلومات حوله.
ما هو مؤكد أن الكارثة كبيرة، وقد وصفتها الصحافة الإسرائيلية بأنها "الأكبر في تاريخ" الكيان. إذ إن المؤشرات الأولية تدل على انتشار البقع النفطية على مساحة واسعة وتسبّبها باختناق الكثير من الكائنات الحية على الشاطئ وفي الأعماق. وقياساً إلى حوادث أخرى مشابهة حصلت في العالم، فإن الخشية من أن "ما خفي أعظم".
بعيداً عن الحملة الرسمية والشعبية التي انطلقت لإزالة آثار التسرّب النفطي الذي رُصد على السواحل الجنوبية، ومصدره الاحتلال الإسرائيلي، فإن السؤال الأساسي الذي ينبغي الإجابة عنه ما إذا كان مصدر البقع النفطية عرض البحر أو مكاناً قريباً من الشاطئ، وما إذا كانت ناتجة عن حادثة انسكاب عرضية "تسرّب من بواخر أو خزّانات ومحطات"، أو عن تدفق من مصادر ثابتة بسبب انفجار أثناء عمليات التنقيب والحفر على سبيل المثال؟
إذ لا يمكن استبعاد أن يكون التسرب من واحد من المواقع (المتعددة والسرية) التي يتم الحفر والتنقيب فيها، وربما يفسّر ذلك الكتمان الذي فرضته سلطات الاحتلال.
الإجابة عن هذا السؤال تحدث فارقاً جوهريًا، لأنه في الحالة الثانية سنكون أمام كارثة أكبر مما يمكن تصوره، وقد يحتاج وقف التدفق إلى زمن طويل. لا سيما أن عمليات الحفر والتنقيب في أعماق بعيدة تحتاج الى تقنيات عالية وتنطوي على مخاطر يصعب ضبط نتائجها في وقت قصير. وتفيد المقارنة هنا مع حادث التسرّب في خليج المكسيك عام 2010، حين لم تستطع شركة عملاقة كـ"بريتيش بتروليوم" السيطرة عليه إلا بعد 87 يوماً!
حُدّدت البقع النفطية بأنها نفط خام تفكّك وتحوّل بعد اختلاطه بمياه البحر الى نوع من القطران أو "الزفت". التقرير الأولي الذي أعدّه المجلس الوطني للبحوث العلمية، بعد مسح ميداني وجوي شمل الشاطئ من الناقورة الى صيدا، بيّن وجود مادة القطران بكثافة عالية قبالة الناقورة والبياضة ومحمية صور، وتخف كثافتها تدريجيا بدءًا من الشاطئ قبالة العباسية وتندر قبالة شاطئ عدلون.
وقدرت كميات الكتل النفطية التي تجمعت على رمل شاطئ صور بنحو طنين، علماً أن روايات شهود أكّدت انتشار البقع في بعض الأماكن بعمق يراوح بين 70 و80 متراً عن الشاطئ، ورؤية بقع نفطية صغيرة على شاطئ الرملة البيضاء في بيروت. ويُرجح أن البقع بدأت بالوصول الى الشاطئ اللبناني بين 6 و10 شباط الماضي، عندما كانت اتجاهات الرياح جنوبية شرقية خلال العاصفة الماضية.
المسح الجوي لم يقدّم معطيات كثيرة لأن القطران، بعدما اختلط بالمياه ونقلته الأمواج الى الشاطئ، تحوّل الى كتل صغيرة يغطّيها الرمل. إلا أنه أكّد عدم وجود بقع في عمق البحر، ما يعدّ مؤشرًا جيدًا بالنسبة لصيادي الأسماك. إذ إن التسربات النفطية لا تؤثر عادة على الثروة السمكية، لأن الأسماك تسبح بعيدة عنها، إلا أن الضرر الأكبر يقع على الحيوانات البحرية التي لا تستطيع السباحة بعيداً كقنافذ البحر والمحار.
والأرجح أن المسح لم يشمل أعماق المياه، حيث يترسّب الجزء الكثيف من المواد النفطية، بعد أن يتبخر بعضها أو يذوب في المياه، ويشكّل طبقة سوداء ولزجة، تبقى لفترة طويلة، ويمكن أن تتحول إلى بكتيريا تتسبب بموت كثير من النباتات والكائنات البحرية.
وبحسب تجارب غرق بواخر نفطية أو حوادث تسرب من منصات التنقيب، فإن التلوث النفطي قد يدوم لعشرات السنوات، وقد عُثر على جيوب نفطية تحت قاع البحر، قبالة الساحل الأميركي في ماساتشوستس بعد مرور 30 عاماً على غرق ناقلة نفط قبالة الشاطئ.
تصنّف المواد النفطية عادة كـ"مواد مسرطنة محتملة". وقد بدأت عمليات التنظيف من دون وجود خطة طوارئ كاملة، لعدم وجود هيئة مختصة ومدربة على مواجهة هذا النوع من الكوارث، ما يثير المخاوف من مخاطر معالجة التسرب بعد مخاطر التسرب نفسه.
وتؤكد مصادر مشاركة في عمليات التنظيف أن كتل القطران التي تجمعت في الرمل، يسهل تمشيطها وغربلتها وسحبها صباحاً عندما تكون متجمدة، ولكن يصعب ذلك عندما تبدأ بالتحلل والسيلان مع تعرضها لحرارة الشمس خلال النهار. لذلك، فإن المطلوب تسريع هذه العملية قبل وصول أي عاصفة جديدة تزيد من اختلاطها بالرمل، كما حدث عام 2006. أما في الأماكن الصخرية فلم تبدأ عمليات التنظيف بشكل جدي كونها أكثر تعقيداً في هذه المناطق.
وتفترض عمليات التنظيف وضع المواد النفطية المجموعة من القطران في أكياس محكمة الإغلاق وتجميعها في هنغار آمن. إلا أن السوابق لا تبشّر بالخير، وخصوصاً طريقة إدارة معالجة كارثة التسرب عام 2006، عندما ساد التخبط حول طرق التنظيف، والخلافات على الاستفادة من الهبات المقدمة، والتباين حول مصير المواد التي جمعت، بين ترحيلها الى الخارج أو معالجتها محلياً. وقد غلب يومها خيار الترحيل لأن فيه إفادة مادية، بدل التفكير في إيجاد حلول علمية ووطنية دائمة، لأن حوادث من هذا النوع قد تتكرر في أي لحظة، خاصة أن المنشآت الكبيرة وخزاناتها، منذ أن تقرر أن يكون بلداً مستورداً للمشتقات النفطية، وضعت كلها على الشاطئ. ورغم أن لبنان يعدّ نفسه لكي يصبح بلداً نفطياً لم يفطن أحد الى ضرورة وجود هيئات متخصصة نفتقدها دائماً، بعد وقوع الكارثة!
عدوان متكرر
يفترض أن يبدأ لبنان بالإعداد لرفع دعوى تعويض ضد "إسرائيل" أمام الأمم المتحدة. علماً أن الجمعية العامة للمنظمة الدولية أدانت كيان العدو أكثر من 12 مرة وطالبته بدفع 856 مليون دولار بعدما أدى القصف الاسرائيلي لمحطة توليد الكهرباء في الجية خلال عدوان تموز 2006، إلى تسرّب 15 ألف متر مكعب من مادة "الفيول" إلى البحر، وتضرر نحو 150 كيلومتراً من شواطئ لبنان، وصولاً إلى الشواطئ السورية.
وزارة البيئة "مش عَ السمع"
غاب وزير البيئة المستقيل دميانوس قطار، عن الصورة تماماً، ولم يُسجّل للوزارة المعنية أساساً بمثل هذه الكوارث أي نشاط، باستثناء ظهور خجول عبر تلفزيون لبنان لمديرها العام برج هاتجيان الذي يتحمل مسؤولية إلغاء "لجنة الطوارئ لمنع ومكافحة تلوث البحر بالنفط" التابعة للوزارة لأسباب غير مفهومة.
وقد تأسست اللجنة عام 1998 بمبادرة من مسؤول التلوث النفطي في الوزارة آنذاك سميح وهبة، وكانت تضم ممثلين عن الوزارات المعنية (البيئة والدفاع والنقل والداخلية والطاقة والزراعة) وعن القطاعين العام والخاص.
وقد أعدّت اللجنة خطة متكاملة لمكافحة التلوث النفطي عام 2001 ونظّمت دورات تدريبية مع طلب معدات خاصة للمعالجات الطارئة، لاسيما الـ"بامب" (مضخات) الإسفنجية التي تُرمى قرب البقع لامتصاصها قبل سحبها ومعالجتها. وقد تبيّن خطأ هذا الإلغاء بعد كارثة التلوث النفطي عام 2006، من دون أن يفكر أي من الوزراء الذين تعاقبوا على الوزارة ولا مديرها العام بأن العودة عن الخطأ فضيلة.