"مربعانية" و"خمسينية" شتاء هذا العام في فلسطين هي الأكثر جفافا منذ عام 1950 والسؤال المطروح: هل يجوز إسقاط ظاهرة انحباس الأمطار على التغير المناخي؟
خاص بآفاق البيئة والتنمية
|
مشرق عربي أبيض . هكذا ظهر غطاء الثلج من القمر الصناعي يوم الأحد 15 كانون أول الماضي- تصوير وكالة ناسا |
تعتبر الفترة الزمنية التي مرت منذ نهاية العاصفة الثلجية القوية التي ضربت فلسطين في 12 كانون أول 2013 (واستمرت نحو أربعة أيام) وحتى 14 شباط الماضي (نحو ستين يوما)- تعتبر هذه الفترة من الفترات الأكثر جفافا التي عرفتها فلسطين خلال فصل الشتاء، منذ عام 1950. وذلك بالرغم من أن الثلوج التي هطلت في 12-16 كانون أول الماضي (وعمليا قبل البداية الرسمية لفصل الشتاء) قد غطت مساحات واسعة من فلسطين التاريخية، وبخاصة القدس ورام الله والخليل وجبال الجليل وصفد وغيرها. بل تعد تلك العاصفة الثلجية الأشد خلال الأعوام الـ 22 الأخيرة؛ إذ أن كميات الثلوج الكبيرة وصلت في رام الله والقدس إلى ارتفاع 70-80 سنتيمتراً، وتسببت في إغلاق كامل للشوارع وفرضت الحصار على العديد من المدن، ومنعت خروج المواطنين من منازلهم لبضعة أيام. وانقطعت الكهرباء عن عشرات آلاف المنازل لفترة تراوحت بين يومين إلى أسبوع، وظل العديد من المواطنين، وبخاصة في مناطق القدس-رام الله والخليل، دون تدفئة.
لكن، معطيات بعض محطات قياس الأمطار في فلسطين، تشير إلى عدم وجود سابقة موثقة لمرور فترة طويلة في فصل الشتاء (ستين يوما) دون هطول سوى كميات هامشية جدا من الأمطار، وبخاصة في المناطق الوسطى والجنوبية.
في 14 شباط الماضي والأيام القليلة التي تلته، هطلت بعض الأمطار القليلة في مختلف أنحاء فلسطين. إلا أن شح الأمطار في فلسطين التاريخية، بل انعدامها تقريبا خلال "مربعانية" فصل الشتاء الحالي (أي الفترة الممتدة بين 22 كانون أول و31 كانون ثاني) وأيضا طيلة نصف مدة شهر شباط الذي يشكل (تراثيا) معظم ما يعرف بخمسينية فصل الشتاء (أي الجزء الثاني من فصل الشتاء ومدته خمسون يوما يبدأ من أول شباط ويستمر حتى 21 آذار)- إن هذا الانحباس المطري، غيَّر الميزان العام لهطول الأمطار خلال فصل الشتاء الحالي الذي بدا واعداً إثر العاصفة العنيفة في شهر كانون أول الماضي.
في بعض المناطق الشمالية والشمالية الشرقية، وصلت كميات الأمطار (حتى أواخر كانون ثاني الأخير) إلى نحو 40% من كمية المتساقطات المفترض هطولها في ذات الفترة وفقا للمتوسط السنوي التراكمي.
وبالمقارنة مع فصل شتاء العام الماضي (2012-2013)، نجد أن النصف الأول من ذلك الفصل، وتحديدا حتى أواخر كانون ثاني (2013)، قد تميز بالأمطار الغزيرة والكثيفة. إلا أن هذه الصورة المطرية المشرقة تغيرت كليا في النصف الثاني من شتاء 2013، وتحديدا في شهري شباط وآذار (2013) اللذين تميزا بكونهما الأكثر قحلا في فلسطين منذ خمسين عاما (قبل 2013)؛ ما غير ميزان الهطول المطري خلال فصل الشتاء (2012-2013) الذي بدا نصفه الأول واعدا جدا. وبحسب خبراء المناخ، تميز آذار 2013 باعتباره الأكثر سخونة من بين جميع أشهر آذار التي سبقته؛ وتحديدا منذ بدء تسجيل المعطيات المناخية في فلسطين.
وفي الإجمال، تجاوزت كمية الأمطار في فصل الشتاء (2012-2013) المعدل السنوي، إذ بلغ المعدل الإجمالي للأمطار آنذاك، في مختلف أنحاء فلسطين التاريخية، نحو 110% قياسا بالمعدل السنوي التراكمي. بل إن كمية الأمطار في حوض نهر الأردن، وبحيرة طبرية تحديدا التي دأب الاحتلال في العقود الأخيرة على سرقة واستنزاف مئات ملايين الأمتار المكعبة سنويا من مياهها- بلغت (عام 2013) 114% قياسا بالمعدل السنوي التراكمي في تلك المنطقة. ووصل إجمالي كمية المياه التي صبت في بحيرة طبرية خلال شتاء 2013 نحو 460 مليون متر مكعب؛ أي أكثر بكثير من المعدل السنوي التراكمي. وهذا يشير إلى الكثافة الكبيرة للأمطار التي هطلت في مطلع شتاء 2012-2013.
وخلال آذار 2013، كانت كمية الأمطار ضئيلة جدا؛ وتراوحت تحديدا بين 20 إلى 40 مليمتراً في شمال فلسطين قياسا بالمعدل السنوي التراكمي في ذات المنطقة والذي يتراوح بين 90-120 مليمتراً.
كما أن كميات الأمطار خلال شهر شباط 2013 كانت أقل بكثير من المعدل السنوي التراكمي. وبحسب المسح المطري الذي أجرته آفاق البيئة والتنمية لفلسطين التاريخية العام الماضي، تبين بأنه خلال العقود السبعة الأخيرة، هطلت مرة واحدة فقط كمية أمطار، خلال شهري شباط وآذار، أقل من عام 2013، وتحديدا عام 1957 في المنطقة الوسطى.
ولو قارنا "مربعانية" فصل الشتاء الحالي (2014) بفصلي الشتاء السابقين، أي(2012-2013) و(2011-2012)، نجد أن عدد الأيام الماطرة في شهر كانون ثاني 2012 كان الأكبر، خلال شهر واحد، منذ أن بدأت عملية القياس المنظم للمتساقطات في فلسطين. ففي بعض المناطق الشمالية سُجِّل عام 2012، هطول المطر في 29 يوما في شهر كانون ثاني من أصل 31 يوما. وبحسب تعريف خبراء الأرصاد في فلسطين، اليوم الماطر هو ذاك الذي تُسَجَّل فيه 0.1 مليمتر من المطر فأكثر. وبناء عليه، وثقت معظم محطات تسجيل المطر في المناطق الشمالية 26 يوماً ماطرا فأكثر (في كانون ثاني 2012)، وذلك قياسا بالرقم القياسي السابق، وتحديدا 25 يوما سجل في كانون ثاني عام 1947. وقد تجاوز هذا الرقم ما سجل في عامي 1969 و1992 اللذين اعتبرا الأكثر مطرا منذ بدء توثيق كميات الأمطار؛ إذ سجل 24 يوما ماطرا في كانون ثاني من سنة 1969، كما سجل 24 يوما ماطرا في شباط 1992. وينسحب الرقم القياسي في عدد الأيام الماطرة على كميات الأمطار أيضا. ففي جنين والمناطق الشمالية وصولا إلى حيفا والناصرة والجليل، تراوحت كميات الأمطار خلال شهر كانون ثاني 2012، بين 250 إلى 300 مليمتر؛ ما يعد أكبر بـ 1.5 – 2 مرة من المعدل السنوي التراكمي للمتساقطات في ذات الشهر. بينما اقتربت كميات الأمطار في المناطق الجبلية والوسطى من المعدل التراكمي. أما في المناطق الجنوبية مثل الخليل والنقب فقد ظلت كميات الأمطار أقل من المعدل.
وللمقارنة أيضا، اقتربت كمية الأمطار عام 2011 في المناطق الشمالية من المعدل السنوي التراكمي، بل تجاوزته في بعض المواقع؛ بينما اعتبر فصل الشتاء بذات العام في القدس-رام الله وجبال المناطق الوسطى الأكثر جفافا منذ عام 1998، وبلغت كمية الأمطار فيها حتى 27 آذار (2011) نحو 300 مليمترا، أي أقل من 60% من المعدل الطبيعي حتى هذه الفترة. وعلى سبيل المثال، هطلت في أواخر شباط 2011 بشمال فلسطين، كميات غزيرة من الأمطار؛ لدرجة أن كمية الأمطار في بعض المناطق الشمالية، بلغت، خلال يوم واحد (في 26 شباط 2011)، أكثر من 45 مليمترا. وفي ذات اليوم، لم تنهمر قطرة واحدة في المناطق الوسطى والجنوبية. وقد تكررت هذه الظاهرة طيلة شتاء 2010-2011؛ بمعنى أن فلسطين انشطرت آنذاك، من الناحية المطرية، إلى شطرين: المناطق الشمالية التي هطلت فيها كميات مُرْضِيَة من الأمطار وقريبة من المعدل السنوي، والمناطق الوسطى والجنوبية؛ وبخاصة تلك الواقعة جنوب خط طولكرم حيث كان الوضع المطري فيها سيئا والميزانية المائية متردية. وحتى 27 آذار 2011 لم تتجاوز كميات الأمطار في المناطق الجبلية بنابلس ورام الله والقدس 60% من المعدل السنوي المعتاد حتى ذات الفترة، و55% من المعدل السنوي الكلي.
ووخلافا لفصلي شتاء عامي 2012 و2013 اللذين برز فيهما شهر كانون ثاني باعتباره الأكثر مطرا، كان شهر شباط، في السنوات الأخيرة السابقة لهذين العامين، هو الأكثر مطرا بين أشهر المطر الأساسية. وبالرغم من هطول الأمطار خلال بضعة أيام في شهر شباط 2012، إلا أن الكمية كانت أقل من شباط عام 2011.
وفي المحصلة، تجاوزت كمية الأمطار في فصلي شتاء عامي 2012 و2013 في فلسطين التاريخية، المعدل السنوي التراكمي، وذلك لأول مرة منذ نحو أحد عشر عاما قبلئذ.
هل يجوز إسقاط شح أمطار هذا العام على التغير المناخي؟
بالرغم من أهمية المعطيات السابقة من الناحية الإحصائية، وانحباس الأمطار خلال "مربعانية" هذا العام وجزء هام من "الخمسينية" أيضا، إلا أنه لا يمكننا أن نستنتج من ذلك معالم الاتجاهات المناخية المستقبلية؛ وبخاصة أن البعض تَسَرَّع بإسقاط الوضع المطري الشحيح الذي ساد شتاء هذا العام (وتحديدا "مربعانيته") على التغير المناخي.
الحقيقة أن انحباس المطر، يعد ظاهرة مناخية مألوفة وطبيعية في منطقتنا، منذ آلاف السنين، ولم يطرأ عليها لغاية الان، أي تغير جوهري نوعي غير طبيعي. بل، لو أجرينا مسحا مناخيا لمنطقتنا، منذ أن بدأت عملية توثيق حالة الطقس، سنجد بأنه قبل عشرات السنين، كانت الطبيعة أحيانا، تقسو أكثر من المواسم المطرية التي شهدناها في السنوات الأخيرة. وما يؤكد ذلك الأمثال الشعبية العربية التي تعد بمثابة راصد جوي شعبي، وهي حصيلة التراث الشعبي وتراكم التجارب والمعارف والخبرات الغنية لأجدادنا، عبر مئات السنين، وبخاصة تلك الأمثال المتصلة بالمواسم الزراعية والأعياد في بلاد الشام.
ففيما يتصل بانحباس الأمطار خلال "مربعانية" فصل الشتاء الحالي (2014) وجزء من "الخمسينية" أيضا، بل وموجات الجفاف وانحباس الأمطار التي شهدتها منطقتنا، إجمالا، في السنوات الثماني التي سبقت موسم شتاء 2012؛ لا يمكننا إسقاط هذه الظاهرة أوتوماتيكيا على التسخين العالمي، والجزم القطعي بأن سبب هذه الظاهرة هو التغير المناخي، بدليل أن شهر كانون ثاني 2012 في فلسطين، وبمقارنته مع ذات الشهر في عشرات السنين التي سبقته، ضرب رقما قياسيا في كميات الأمطار التي هطلت بغزارة. بل وأكثر من ذلك؛ فمن المعروف، وفقا للتراث المناخي في بلاد الشام (فلسطين، لبنان، سوريا والأردن)، أن شهر كانون ثاني قد يكون ماطرا جدا أو جافا جدا. وهذا ما يميز فترة "المربعانية" التي تمتد أربعين يوما (من 22 كانون أول وحتى 31 كانون ثاني)، ويشتد فيها البرد القارس، وتسقط الثلوج في بعض المناطق، وليس بالضرورة أن تكون الأمطار غزيرة؛ بل وقد تكون، أحيانا، شحيحة جدا. وهذا ما تؤكده أمثالنا الشعبية، من قبيل: "المربعانية يا شمس تحرق يا مطر يغرق"! أو: "المربعانية يا بتربع يا بتقبع"! وإذا ما شح المطر في شباط، فقد يعوضه بعض المطر في آذار؛ وهذا ما يعرف بتراثنا المناخي بالمستقرضات. والمستقرضات عبارة عن سبعة أيام، ثلاثة من شباط وأربعة من آذار، وسميت بهذا الإسم لأن شهر شباط الذي يعد أقصر أشهر السنة، "يستقرض" بعض الأيام من شهر آذار كي يطيل عمره؛ فيهطل مزيدا من المطر. وهذا ما يجسده المثل التالي الذي "يخاطب" فيه شهر شباط، شهر آذار الذي يليه: "آذار يا بن عمي أربعة منك وثلاثة مني ويا ويلك يا عجوز السوء مني"! أو المثل التالي الذي يتضمن ذات المعنى: "إذا تأخر المطر في شباط عليك بالمستقرضات"! وقد لاحظنا هذه الظاهرة بقوة تحديدا، في أواخر شهر شباط وأوائل شهر آذار 2012.
وبالرغم مما ورد، لا بد أن نراقب بعض التغيرات في درجات الحرارة وفي توزيع الكميات المطرية بمنطقتنا، بحسب الأبحاث المناخية الأخيرة. لكن هذا لا يعني أن نستنتج استنتاجات مطلقة وقطعية ونهائية حول الأوضاع المناخية في منطقتنا.