خاص بآفاق البيئة والتنمية
كيف كان الحال قبل النكبة؟ وهل كانت القرى والبلدات الفلسطينية تعيش حالة جوع؟ وبماذا كانت تزرع الأراضي؟ وهل كنا ننتظر مساعدات المانحين؟هذه وأسئلة أخرى تجيب عنها روايات شفوية لرجال ونساء عاصروا الحقبة التي سبقت عام 1948.
بيادر صبارين
يقول الثمانيني عبد القادر حمد عبد الهادي: كانت بلدنا في الجنوب الشرقي لحيفا، وتبعد عنها 28 كيلو متراً، وفيها نحو ألفي نسمة، وتقععلى جانبي وادي التين، الذي يمر من شمالها إلى جنوبها، وتربطها طرق فرعية بحيفا على البحر، وبجنين بالطريق الساحلي. وكنا البلدة الوحيدة التي فيها باص ينقل الركاب.
ووفق عبد الهادي، فقد كان أهالي صبارين يزرعون القمح، والشعير، والحمص، والعدس، والسمسم، والذرة البيضاء، والذرة الإفرنجية، والفول، والبطيخ، والشمام، وانتشرت فيها 3 ساحات لفصل القمح والشعير من قشورها، وكانت تسمى( بيادر) واحد لإبن الحاج محمود ورشاد عبد الوهاب، والثاني لخليل الدقش وإبراهيم الأمين، فتتقل الحنطة على الجمال للموقع، وتمشي عليها الخيل المربوطة بلوح خشبي به فتحات من الأسفل مرصعة بالحجارة السوداء، إلى أن تصبح ناعمة، ليجري التخلص من القش الخشن( الكسرات)، فيما يتم فصل القش عن القمح بغربال، ثم تنقل المحاصيل إلى الخوابي، وهي أماكن مبنية من الطين أو الصفيح، ومغلقة من الجوانب الأربعة، وفيها فتح علوية كبيرة، يصعد لها بسلم خشبي لتخزين المحصول ( وبعضهم استعملها لتخزين التين المجفف أو القطين)، وفتحة صغيرة من الأسفل لإخراج كميات صغيرة منها حسب الحاجة. بينما يجري نقل التبن إلى غرف كبيرة تسمى( متبن) وفيها فتحة للتخزين من الأعلى، وفتحة جانبية لتزويد الدواب بها عند الحاجة.
يضيف: كنا نُربي الأغنام والجمال والبقر، وكانت أمي تصنع السمن والزبدة والجبن واللبنة، وفي أيام الحصيدة كنا نأكل البحتة ( الأرز بالحليب) والهيطلية، وفي بعض المواسم نشتري زنبيل ( وعاء كبير) عجوة. ولم نكن نشتري غير الملابس، وكانت أرضنا تنتج كل شيء.
باب العامود قبل نكبة عام 1948
كروم بعلين
وتسترد السبعينية زينب حسن جوابرة، رسم قرية بعلين المُدمرة خلال نكبة عام 1948 تقول: إن بيت جدها المختار جبر حسن جوابرة، كان عبارة عن عدة غرف متجاورة من الطين ومسقوفة من قصب وادي البرشين القريب وتل الصافي، تتوسطه ساحة كبيرة، سكنته أربع عائلات، كانت تجتمع على مائدة واحدة، في منزل تعلوه عدة أقواس. فيما كان الرجال يتسامرون في الديوان، وليس ببعيد منه خصص المختار مربطاً لخيول ضيوفه.
ووفق الراوية، فقد كانت مساكن القرية ( وعددها نحو 50 كما تقول مصادر الجغرافيا، وتتذكر جوابرة) متراصة، ومبنية بشكل دائري، ووسطها ساحات وممرات ضيقة، فيما سطوحها المسقوفة بالطين والقصب متجاورة، ولم تكن ترمم من الرجال قبل الشتاء إلا بعد أخذ الإذن من الجيران؛ لعدم الكشف عن النساء. أما محيط المساكن فكان من بساتين وكروم العنب والتفاح واللوزيات، ولكل واحد من الأهالي "حاكورة" مقابل بيته. فيما زرع الأهالي السمسم والقمح والذرة البيضاء، التي كانت تصير خبزا يُسمى( الكراديش).
ومما لا تنساه، كيف أن جدتها الحاجة صفية، كانت تحرص على إكرام ضيوف المختار، وفي ذات مرة، قدم غرباء كانوا يحصون السكان، فنادت حين شاهدتهم الراعي ليذبح لهم خاروفاً، لكنهم طلبوا منها أن تكتفي بتجهيز طبق المفرومة، وهو بحسب الراوية: عجين قمح غير مُختمر، يوضع في الكربالة( وهي وعاء دائري يشبه الغربال، بثقب أكبر أسفله)، ثم يُفرك ليصبح منفصلاً، ويخلط بالحليب والسمن البلدي، ويضاف له الحليب والسمسم المحمص.
تتابع: كل طعامنا كنا ننتجه في القرية، ولم نكن نحتاج إلا للملابس التي نشتريها من الفالوجة، وكنت أشاهد أمي وجدتي ونساء بعلين، وهن يصنعن الزبدة والسمن، والكشك( القمح المجفف والمجروش المنقوع باللبن).
من الطقوس التي كانت شائعة في القرية، الواقعة أقصى الشمال الشرقي من قضاء غزة. والبعيدة 51 كيلومتراً منها، عادة "التعزيب" في كروم العنب، إذ يذهب الرجال والنساء لقطف محاصيلهم، ويصنعون المربى والدبس والملبن، فيما يتركون امرأة واحدة في المنزل لتحضير وجبة الطعام، وبخاصة من الزغاليل المحشوة بالفريكة، واللحاق بهم بعد تجهيزها. أما في رمضان، فكانت العائلات الممتدة تطهو طعامها معاً في قدر كبير، وكانت كل امرأة تضع إشارة على حصتها من الدجاج، بربط خيط أو قص جزء من الجناح.
تستذكر: من أسماء بلدتنا (الغربية)، و(أم المطامير)، و(الخانة)، وكنا نذهب إلى بئر الماء من البلدة، وكان عليه جمل يسحب الماء، والسّقا كان محمود مصطفى دروي.
سوق الفالوجة
ويعيد محمد صالح عرجا( 79) عاماً بناء معالم قريته الفالوجة، التي دمرتها العصابات الصهيونية عام 1948.
يقول: كان عدد سكان بلدتنا خمسة آلاف، وفيها بلدية، ومدارس ثانوية وابتدائية للبنات، وأربع كتاتيب، ومركز صحي، ومحكمة، ومسلخ للحوم. وكانت متطورة، وتعيش على الزراعة، ثم تحولت إلى التجارة.
واستناداً للراوي فإن لبلده، التي تقع شمال غزة وغرب الخليل، قصة تاريخية، عمرها أكثر من ثمانية قرون، وترتبط بـ أحمد بن محيي الدين البطالحي (الأشهب)، الذي مات في الفالوجة، ودفن في منطقة (زريق الخندق)، التي تبعد عن بلدنا نحو ثلاثة كيلو مترات غرباً، وقد انتشر أولاده فيها، وظل مقامه مكاناً يرتبط بالنذر، وإيفاء الدين، وحل الخصومات.
يتابع: عائلات القرية: السعافين، وعقيلان، والنجار، والنشاش، والمطرية، والبراجنة، ومناطقها، فالشومرة، والخصاص، وأم النعاج، والرسوم، وخربة الشلف، ودار كركية، وأبو الغربان، ومليطة، والقبال. وفي كل يوم خميس ينعقد سوق البرين، وفيه يتوافد الناس من البلدات والمدن المجاورة للمتاجرة بالسلع المختلفة، كالقماش واللحوم والذهب والخضار. وكنا نشاهد مواسم وادي النمل، والمنطار، أسدود، والنبي روبين، والرملة، التي كانت مثل العرس، وتعقد في شهر أيار، وفيها سباقات خيول على البحر، ودبكة، وأناشيد دينية للفرق الصوفية، وبيع، وشراء.
كان العرجا يشاهد الناس والتجار في سوق البرين، وكان يلعب بالفخاخ، ويصطاد العصافير من الحقول. ولا زال يتذكر يوم اجتمع الأهالي، حيث قرروا قبل النكبة إرسال الشيخ محمد عواد، رئيس البلدية إلى مصر لشراء السلاح، بعد أن جمعوا المال، وقرروا تدريب 360 من الشبان على استخدامه.
وقال: كانت بلدتنا تراقب الرياح لتستعد لمجيء المطر، وتحصن بيوتها قبله من الدلف، فيخرج الأهالي في عونة اجتماعية لإصلاح الشقوق والصدوع. يضيف: كان الفلاحون يعرفون العفير( بذر الحنطة)، ويزرعون أرضهم بعد أول مطر، وكنا نشتهر بزراعة الترمس، ونتذكر الوادي الذي يقسم بلدنا إلى شمال وغرب بامتداد نهر (السقرير) القادم من الخليل، فيفصلنا عن بعض، ويغمر الجسرين.
ويختزل أسماء الأراضي في بلدته: خربة الجلس، والرسوم، ودار كركية، وماليطة، والشومرة، وأبو الغربان، والخصاص، وأرض الطبّال، وبركة الشلف، وكانت تزرع بالترمس والحبوب والعدس والسمسم والذرة والبطيخ المحيسني (أبيض اللون) والشمام، وبعضها يترك لرعي الأغنام.
وبحسب الرواي، فقد كان إنتاج الفالوجة وفيراً، وكان يعرف طريقه إلى القرى المجاورة، عبر سوق الخميس الذي كانت تشتهر به. فيما جادت أراضيها باللوف والسنية والبابونج والحمصيص( نبته صغيرة ذات مذاق حامض)، والجلجاس( تشبه النخلة ولكن صغيرة، ولها ثمرة صغيرة مثل البطاطا)، والجعدة والحميض، والسلك، وغيرها.
ضخ المياه من بئر جمع مياه الأمطار قبل النكبة
مزارع أم الزينات
وتعيد الحاجة بهية صبح المولودة عام 1933 عجلة الذاكرة إلى أم الزينات، القريبة من حيفا، وتسلسلت في أراضيها وينابيعها، كبير الهرامس وطهرة البيدر، والنتاشة، والبويضة، والشقاقة، وجرماشة، وذراع نجم، وكيري.
وقالت: كان بيتنا من 8 قناطر، وكنا نعيش وأعمامي الثلاثة وسيدي فيه، ونجلس 26 نفراً على الغداء معا، ونأكل ما تنبته أرضنا، ونورد لحيفا الخضروات والبقدونس، وكنا نحصد الشعير حين سقطت البلاد، وهاجمنا اليهود، وأصابوا أخي يوسف وجارتنا جميلة الخليل، أثناء هربنا إلى أحراش الكرمل.
محمد عرجا من الفالوجة
ينابيع الكفرين
ويرسم السبعيني هزاع عبد الرحمن الغول، ومحمود أمين أبو لبادة، 69 عاماً، طرقات الكفرين وحقولها وينابيع: الحنانة، والصفصاف، والبلد. وقالا: كنا نزرع القمح والشعير والذرة البيضاء في السهول، ونغرس الأشجار في الأراضي الجلية ذات التربة البيضاء.
وأضافا: كان في بلدتنا عائلات مصرية، وكنا في منتصف المسافة تقريباً بين حيفا وأم الفحم، وكان الأساتذة يأتون للبلدة من نابلس، وبنينا بيوتنا من الطين، وبعضنا سكن في علية( طابق مرتفع)، ونخصص المكان السفلي للدواب.
ووفق أبو لبادة والغول، فقد كان مختار القرية أديب النجمي، يمتلك المذياع الوحيد في القرية، ويجتمع الكبار عنده، ويستمعون إلى أخبار الدنيا، قبل أن تدمر قريتهما التي استوطنت بقربها مستعمرة ( مشمار هعيمق).
وتنقلت يسرى محمد شحادة ( 70 عاماً) بين ينابيع الكفرين، حين كانت تنقل المياه على رأسها بالجرار، هي وبنات جيلها، وكن يشاهدن على حواف الطريق ما تنبته الأرض من خردلة، وعكوب، وأبو صوي، وجعدة، ودريهمة، وحويرية، وزعتر، وغيرها.
تروي: كنا نزرع أرضنا دون مياه، ونأكل الخيار والبطيخ والشمام والبندورة والبطاطا والبصل، ولم نكن نحتاج إلى شراء شيء من حيفا إلا بالمناسبات. وتضيف: كان بيتنا من قنطرتين، وكنت أركب الجمال التي كانت معنا في نفس البيت، وأخرج بها إلى العين لأسقيها، وشاهدنا توديع العرايس من القرية إلى البلدات المجاورة على ظهور الجمال.
ولا زالت تمام محمد صالح، تحن إلى منزل عائلتها المكون من 8 قناطر في أم الزينات، ولا تنسى كيف أخفت والدتها دلة القهوة والفناجين من ديوان والدها في قن الدجاج، قبل أن تغادر القرية، وهي تؤكد أن غيابهم عنها لن يتعدى الأيام السبعة، حين غادروها إلى إجزم ودالية الكرمل.
فيما تحفظ فخرية رجا جعايصة، التي أبصرت النور عام 1959، ما قصه لها والدها، حين كان يلاعبها بعين الحنانة، ويقول: (حنانة منانة، نزرع خوخة ورمانة). وتقول: كان بيتنا أول عليه في الكفرين، بشبابيك زجاجية.
aabdkh@yahoo.com