
توفيق كنعان طبيب وباحث فلسطيني، من مواليد بيت جالا عام 1882، تتوزع أبحاثه على موضوعات متنوعة أهمها الفولكلور والآثار والوضع السياسي في فلسطين. من مؤلفاته ”الطب الشعبي في البلاد المقدسة"، و"الأولياء والمزارات الإسلامية في فلسطين"، و"الموت أم الحياة"، و"قضية عرب فلسطين"، وغيرها. وللدكتور كنعان، فضلا عن الكتب، عدد كبير من المقالات نشرت في مجلة "جمعية الاستشراق الفلسطينية" التي كان أحد مؤسسيها، وفي غيرها من المجلات؛ وهي أيضا تعالج موضوعات الآثار والفلكلور في فلسطين.
-1-
المزارات المقدسة وحماية البيئة
"إن دراسة القديسين والمزارات تقود القارئ إلى الاتصال المباشر مع الحياة اليومية والعادات لسكان فلسطين؛ مما يساعد على توضيح ما كان غامضا في المعتقد الشعبي والخرافة؛ كما أنه يوفر الاطلاع على مساحات غامضة من الاحتفالات المحلية ويلقي الضوء على المناطق المعتمة في الذهن الشعبي. والأهم من ذلك أنها توفر إمكانية للمقارنة مع عادات وطقوس الأزمان البدائية.
إن المسافر عبر فلسطين، ليشعر بالصدمة إزاء عري المناطق الجبلية، ويمكن له أن يصادف هنا وهناك بعض الحدائق والبساتين والكروم عموما، وهي مصطفة في محيط القرية. وخلال الربيع والجزء الأول من الصيف، فإن قطعاً من الأراضي تزرع بالحبوب.
ونجد هنا وهناك على الجبال الجرداء، أو في السهول شجرة كبيرة منعزلة أو مجموعة أشجار مبعثرة، تعطي جمالا خاصا للمنطقة، وتضفي على المنظر مشهدا حيويا رائعا. إن هذه الأشجار مظلة المسافر المحببة، فهي تحميه من أشعة الشمس الحارقة؛ وتعتبر مقدسة عند المسلمين لأنها تدل على وجود نبي، ولي، أو شيخ. وكانت قداسة هذه الأشجار التفسير الوحيد للنجاة من التخريب الذي آلت إليه غابات فلسطين. إنه لمن دواعي الأسف أنه لا توجد لدينا أعداد كبيرة من الأشجار المقدسة تخلد ذكرى أشخاص مقدسين؛ ولو وجدت لكانت فلسطين أكثر خصبا وجمالا.
ولا أعني بالمزارات فقط تلك الأماكن التي دفن فيها ولي أو نبي معروف، ولكنني أعني كل مكان وضريح، وشجرة، وشجيرة، وكهف، وينبوع، وبئر، وصخرة، أو حجر يتمتع باحترام ديني؛ حتى لو كان ذلك الاحترام مبنيا على الخرافة وعلاقتها بالأماكن المأهولة بالناس.
حسب المعطيات التي جمعتها عن المزارات التي تمكنت من الحصول على معلومات أكيدة حول وجود الأشجار أو غيابها فيها، كان هناك 60% من تلك المزارات مرتبطة بوجود أشجار. ومن خلال تحليل تلك المعلومات فإني قد وجدت بأن القداسة لا تعزى للمكان بسبب الشجرة، ولكن الشجرة تستمد قداستها من الولي الذي كرست له [ وهي أشجار بلوط وتين وخروب وزيتون وتوت وسدر وبطم وغيرها]. في اعتقادي أنه بالقرب من العديد من هذه الأشجار المقدسة كانت توجد غابات لم يبق منها سوى القليل الذي يشهد على مجد الغابات في فلسطين ....
وجميع الأشجار المقدسة، بغض النظر عن قربها أو بعدها عن المزار، تعامل باحترام ... وإذا كانت الشجرة المقدسة شجرة فاكهة مثل التوت والتين والعنب والصبر فإنها تعتبر”سبيل"[ لعابر السبيل ]. ويعني ذلك أن كل شخص يمر من الطريق يسمح له بأن يأكل ما يشاء، ولكن عليه ألا يحمل شيئا من ثمرها معه، وكل شخص يكسر هذه القاعدة بقال إنه سيعاقب بشدة من قبل الولي الذي يملك الشجرة. وهناك شيء آخر لابد من ملاحظته، وهو أنه لا يجرؤ أحد أن يقطع أي فرع من هذه الأشجار مهما كان صغيرا، وكذلك لا يسمح الولي لأحد بجمع الفروع اليابسة، إلا إذا كان الهدف من استعمالها في إشعال النار لطبخ وليمة مقدمة للولي".
(الأولياء المزارات الإسلامية في فلسطين)
( ص ص 20، 56 ، 58، 59 ).
-2-
احترام الينابيع والمياه
(بين بركة الأولياء ولعنة العفاريت)
"لعب الماء ولا يزال يلعب دورا هاما في حياة الفلسطينيين يفوق دوره في حياة الأوروبيين. يرجع ذلك إلى طبيعة البلاد وندرة المياه فيها. ونظرا لشدة الحاجة إليه يثمن عاليا؛ وهكذا فإننا نواجه الحاجة إلى الماء في الشعائر الدينية وأعمال السحر والطب الشعبي...
كانت الينابيع المنتشرة في الجبال، والتي تصب ماءها لفائدة الإنسان والزراعة، ولاتزال، لغزا بالنسبة للعقل الشرقي؛ وكان هذا هو السبب الأول لإضفاء القوة الخارقة عليها.
من المعتقدات [ القديمة ] المنتشرة في فلسطين أن الينابيع والآبار وكل المياه مسكونة ... بالأرواح الخيرة مثل أرواح الأتقياء الذين دفنوا قريبا من الينبوع أو الأولياء الآخرين أو [ مسكونة ] بالأرواح الشريرة [ العفاريت].
ولبعض الينابيع قدرة شفائية في حصر البول [ مثلا ] بدون أن يكون لها علاقة مع أي ولي، [ وفي المقابل] يظهر الماء المسكون بأرواح الأولياء قوة خارقة [ شفاء من مرض] تظهر في عيد ذلك الولي. ومن يلوث جدولا من الماء يعاقب من قبل الروح التي تسكنه.
[ وكذلك ] تجد من الينابيع المحروسة بأرواح شريرة ما هو شديد الضرر وما هو أقل ضررا. تأخذ هذه الأرواح أشكالا متعددة عندما تظهر كالحيوانات... وتظهر أيضا على شكل عبد أو عبدة أو غول أو غولة أو مارد، والمارد هو أكثر الأرواح إيذاء".
(الكتابات الفولكورية، 115، 117 ، 11 ، 16 ، 18 ).
-3-
الطفل الفلسطيني بين البيئة الصحية في الخلاء وغير الصحية في البيت
"إن الطفل الفلسطيني الكامل ذو جسم قوي متوازن، يستطيع أن يركض أو يمشي مسافة أكبر من الطفل الأوروبي؛ ويصطحب الطفل الفلسطيني والده أو إخوته إلى العمل [في الريف]، ويتجولون في الهواء الطلق خلف الخراف، أو في الحدائق وكروم العنب، أو راكبين على الحمير؛ فالتمرين الطبيعي المستمر لجميع أجزاء الجسم التي لا تشد بثياب ضيقة يؤدي إلى تطور منتظم للعضلات، ويعطي الأطفال مظهرا صحيا.
ومن الأهمية بمكان وصف بيوت الفلاحين التي يقضي فيها الرضّع أربعة أخماس وقتهم ويقضي الأطفال نصف تلك المدة، لأن لتلك المنازل تأثيرها على صحة وتطور الأطفال. إن البيوت البسيطة مبنية قريبة من بعضها والطرق بينها ضيقة ومتعرجة ترمي بها كل النفايات. فالبيت نفسه يتكون من غرفة مكعبة الشكل ذات عقد على شكل قنطرة على الطريقة الشرقية، ومقسمة إلى طابقين: الأسفل بدون شبابيك وهو للحيوانات، والأعلى له شباك أو اثنان صغيران وهو للعائلة. وبهذا يعيش الإنسان والحيوان في بيت واحد، وعندما تغلق الشبابيك في الليل يكون الهواء ملوثا..."
(الكتابات الفولكلورية، ص 71 ).
-4-
دور النبات في المعتقدات الشعبية الفلسطينية
"لعب فولكلور النبات دورا عظيما في المعتقدات الشعبية خاصة بين الطبقات الدنيا من المجتمع. ويمكن ملاحظة ذلك جيدا بين سكان الأراضي المقدسة، وهو واضح جلي في كل مرحلة من مراحل حياة الفلاحين وسكان المدينة، وهو يدخل في حياة العائلة اليومية وفي تفسير الأحلام والطب الشعبي والمعتقدات والطقوس الدينية والعادات المتعلقة بالعمل الزراعي.
إن الفلسطينيين مزارعون بالدرجة الأولى، وعملهم اليومي متصل اتصالا وثيقا بالطبيعة التي يعيشون منها وفيها؛ فالفلاح يتصور نجوم السماء والجبال والمغائر، وهو يجسد من الحيوانات والنباتات، ويستقري حظه الجيد والسيء، وفي بعض الأحيان تسبب له القلق والانزعاج وفي أحيان أخرى تهب المنعة والشجاعة.
وتأخذ النباتات اسمها [ عند الفلاح الفلسطيني ] من شكلها الخارجي، أو لونها أو رائحتها أو من بعض المعتقدات المتعلقة بها...
نتش، لأنه يعلق بثياب المزارعين.
مرمية، نسبة إلى العذراء مريم.
حليبة ، تفرز سائلا لبنيا عند كسر ساقها.
صابونة الراعي ، كانت كؤوسها تستعمل بدل الصابون.
[وكذلك] تستعمل أسماء النباتات أو أجزاء النباتات لتدل على أسماء عائلات أو اشخاص [ومن ذلك ]:
حنون، زهرة، خضرا، ياسمين، تفاحة، حنظل، عدس، زيتون، فلفل، نخلة، بامية، كوسا ...
ويرجع أصل أسماء كثير من الجبال والوديان أو الخرائب إلى أصول نباتية [ مثل]: دير البلح، جبل الزيتون...
[ كما أن للنباتات ظهورا بارزا في الأمثال الشعبية الفلسطينية، ومنها]:
أكل المشمش مدهش.
ارعى من ربيع بلادك ولو انه قيحوان.
حكيُه زيّ الخرفيش، لا فيش ولا عليش.
ويقال للبخيل :أبو كمّونة، والمخادع حية التبن بقرص من تحت لتحت، والمرائي حبة العدس لا يعرف بطنها من ظهرها.
[ومن النباتات ذات التقدير الخاص في فلسطين الزيتون، والنخل، والقمح]:
تدعى شجرة الزيتون الشجرة المباركة .. وحسب اعتقاد العرب القدماء وسكان فلسطين الحاليين تعزى للزيت فضائل جمّة؛ فالثمرة أو الزيت من المواد الغذائية الضرورية؛ إذ يستعمل الزيت غذاء وحده، ومع الأطعمة الأخرى. يقول المثل: الزيت مسامير الركب؛ وذلك لأنه يقوي الجسم... ولا يزال الزيت يستعمل في الطب الشعبي ويشكل جزءاً من التقاليد الدينية.
وتلعب شجرة النخل دوراً هاما في الحياة اليومية للفلسطينيين... وفي رأي الكاتب أن الفلسطينين يعتبرون شجرة النخل دائمة الخضرة. وهناك اعتقاد أن حب السيد المسيح لهذه الشجرة جاء من حقيقة كون الثمر غذاء رئيسيا. فالأطفال الصغار يسقون بضع قطرات من منقوع التمر، ويأكل المسلمون حبة تمر في بداية إفطارهم في شهر رمضان.
[وكذلك] يعتقد الشرقيون أن القمح كان شجرة معرفة الخالق والشيطان، وقد كانت في وسط جنة عدن ... وعندما طرد آدم من الجنة، أرسل الله له حبوب القمح ملفوفة بسبع مناديل من الحرير، وزرعها آدم فأثمرت بحجمها الحالي... تعامل [حبوب القمح] بكثير من الاحترام، ويهتم الفلسطينيون أن لا تسقط كسرة من الخبز على الأرض. هناك بعض الأقوال التي تعبر عن أفضلية القمح على غيره من الحبوب [ ومنها]:
إن كان القمح في البيت فرحت وغنيت.
الخبز والزيت عمارة البيت.