خاص بآفاق البيئة والتنمية
منذ سنوات عدة بدأت إسرائيل تنظر لعددٍ من القرى الحدودية في شمال غرب رام الله كمكبات مجانية لنفاياتها الخطرة والضارة، لموقعها البعيد نسبياً عن مناطقها السكنية وأراضيها، فلجأت إلى قرى قريبة من الحدود حتى تستطيع أن تقوم بتلك العملية بسلاسة وبحذر.
كيف بدأت القصة؟
بدأت قصة تلك المكبات بوعود لم تنفذ من جهات فلسطينية بإبقاء عدة دونمات من الأراضي خالية لحين إنشاء إستاد رياضي في سياق دعم أراضي القرى الحدودية المهددة بالمصادرة، كما حدث في قرية رنتيس. لكن تأخير استغلال تلك الأراضي جعلها تتحول إلى مكبات نفايات تضم محتويات غريبة.
هذا الحدث الهام، تم التعاطي معه فلسطينياً بأنه مجرد مخلفات بناء، لكن بعد فترة اتضح ما هو أخطر من ذلك!
الشاحنات الضخمة التي تحمل تلك النفايات، كانت تأتي من اسرائيل، وتدخل القرية مغطاة بغطاء يخفي ما تحويه من مواد وذلك في منتصف الليل، أما في النهار فكانت تأتي بضع شاحنات صغيرة محملةً بمخلفات البناء لتغطي ما صنعته في الليل عبر طمره جيداً، لكن قوة الضغط وعوامل الطبيعة ساهمت في كشف ما تحت الطمم من نفايات طبية وأخرى غير معروفة، وأكياس دم، وهو ما أكده السيد شاكر أبو سليم رئيس مجلس قروي رنتيس في حينه، والذي كان على اطلاع بموضوع المكب وأبلغ وزارة الصحة، ومحافظة رام الله بذلك.
 |
 |
النفايات الإسرائيلية تزحف بمحاذاة منازل رنتيس |
النفايات الإسرائيلية تعيث فسادا في أراضي رنتيس |
السلطة مقصرة
للأسف لم تلق احتجاجات أهل القرية اهتماما كافيا من قبل الجهات أو المؤسسات الفلسطينية ذات الصلة بالموضوع، فقد تدخلت تلك الجهات بعد فوات الأوان وبعد أن تراكمت مئات الأطنان من النفايات رغم أنهم أبلغوها منذ البدايات بأن صاحب الأرض يتقاضى مبالغ من تلك الشركات الإسرائيلية وأن موضوع الإستاد الرياضي هو كذبة واضحة، وكل ما قامت به المحافظة وضع بعض الأحجار على الطريق المؤدية الى المكب بهدف إغلاقه، وتم سجن صاحب المكب لفترة بسيطة، وخرج ليستمر في العمل في المكب الجديد.
وبحسب رئيس مجلس قروي رنتيس مؤيد عودة فإن صاحب الأرض قام بفتح طريق أخرى لتسهيل وصول الشاحنات الإسرائيلية لمكب جديد على بعد عدة أمتار إلى الجنوب من المكب الذي أغلق، وكان يقوم بحرق النفايات أولا بأول، والمعروف أن مخلفات البناء مكونة من الحجارة وقطع الحديد وبقايا أخرى صلبة. إذاً ما الذي كان يحرق في كلا المكبين؟!
من قرية إلى مكب
لم تعد السهول تزرع بالقمح، ولا حقول الزيتون صالحة لقطف محاصيلها في مناطق المكبات التي عملت إسرائيل على إنشائها في السنوات الخمس الأخيرة، ففي قرية رنتيس، لم يستطع العجوز التسعيني " عماره وهدان " من قطف ثمار الزيتون بسبب وقوعها بالقرب من مكب النفايات الذي استمر اشتعال النار فيه وتصاعد الأدخنة السامة منه لأكثر من شهر، فالحديث هنا عن جبال من النفايات المتنوعة؛ كمخلفات البناء، ومخلفات المشافي، ونفايات المنازل، ونفايات أخرى سامة تتكون من علب تحتوي مواد كيميائية خطرة.
أما الشاب محمد غنام الذي يسكن على بعد أمتار قليلة من المكب ويملك حقل زيتون ملاصق للمكب؛ فقد أكد أنه أثناء جمعه لبعض قطع الألمنيوم والحديد من المكب لبيعها، كان يجد مخلفات مشافي وهي عبارة عن إبر واسرنجات، وضمادات، وعلب بلاستيكية بعضها يحتوي دم، وبحسب غنام فإن بعض من كانوا يجمعون المعادن من المكب، وجدوا فراش وأغطية مكتوب عليها باللغة العبرية، وكذلك بدلات بلاستيكية كاملة وأحذية طويلة كالتي تستخدم لحماية الجسم من الإشعاعات الضارة. أيضا كذلك الحال في القرى المجاورة كقرية شقبا ونعلين والمدية، كل هذه القرى ما زالت تتكدس فيها مئات الأطنان من النفايات السامة والضارة للإنسان والحيوان والنبات.
 |
 |
النفايات والأبخرة السامة الإسرائيلية على أراضي رنتيس |
انبعاث الغازات السامة من النفايات الإسرائيلية نحو منازل قرية رنتيس |
سحب من الأدخنة
قبل قرابة الأربع سنوات كان الزائر إلى تلك القرى وخاصة رنتيس والمدية يلاحظ من مسافة بعيدة تصاعد الدخان الأسود الذي يشكل سحابة فوق القرية، حتى أن البيوت التي تبعد أكثر من كيلومترين عن مكان المكب، كانت تبقي نوافذها مغلقة باستمرار؛ سواء من رائحة الدخان الكريهه جدا، أو من الحشرات التي كانت تغزو المنطقة، أيضا أصبحت تلك القرى مليئة بالفئران التي تكاثرت بشكل كبير في تلك المكبات.
حياة برية معدومة
الأمر الذي يزيد المسأله كارثية، أن الإحتلال تعمد إنشاء هذه المكبات في قلب المناطق الزراعية، ففي رنتيس تم إنشاء المكب في منطقة "الخلة الشرقية" وهي منطقة مليئة بأشجار الزيتون وسهولها مزروعة بالقمح، أما الآن فقد أصبحت مناطق مدمرة بيئيا بسبب تراكم تلك النفايات وامتدادها على أكثر من عشرة دونمات، وبطبيعة الحال فإن الأراضي الزراعية المجاورة هجرت بسبب الرائحة الكريهة وتطاير المواد إليها.
كما أن كثيراً من الحيوانات البرية كالغزلان والأرانب البرية هجرت تلك المناطق أيضا، بسبب تواجد الآليات الثقيلة وتزايد أعداد الكلاب المتوحشة فيها.
 |
 |
مخلفات الإنشاءات الإسرائيلية في أراضي رنتيس |
مكب النفايات الإسرائيلية على أراضي رنتيس |
إغلاق المكب!!
للأسف جاء إغلاق المكب في رنتيس من قبل جيش الإحتلال الإسرائيلي؛ فمع استمرار إحراق النفايات في المكب لإخفاء طبيعة محتواها، بدأ بعض المستوطنين في المستوطنات المحيطة بالقرية " كعوفريم، وبيت أرييه " بالإحتجاج بسبب الدخان الذي يصلهم ويؤرق حياتهم المثالية، ما دفع الجيش إلى إغلاق المكب على الفور، وتهديد صاحب الأرض بدفع غرامات مالية في حال عاود العمل فيه.
 |
 |
نفايات إسرائيلية تلقى في أراضي رنتيس من خلال التعاون مع متواطئين فلسطينيين |
نفايات إسرائيلية تلقى في الأراضي الزراعية بقرية رنتيس |
المشكلة لم تحل
الآن، وبعد مرور بضع سنوات على إغلاق المكب، ما زالت الأمور على حالها، فالأرض لم تعد صالحة للزراعة، والنباتات أخذت تتناقص بسبب ما يتسرب من تلك المكبات من مواد سامة، كذلك أصبحت تلك المناطق شبه خالية من عناصر الحياة البرية، فلا غزلان ولا أرانب برية، ولا قطعان أغنام ترعى في المكان، حتى أن أعداد وأنواع الطيور أخذت تتناقص.
في ظل كل تلك المعطيات، يقف المواطن الفلسطيني في تلك القرى الحدودية بين مطرقة الإحتلال الذي يلتهم الأرض بالجدار العنصري ويقتل ما يتبقى بمعسكراته ونفاياته، وبين سنديان الإهمال الرسمي لتلك القرى المحرومة من المشاريع المهمة التي تعزز صمود المزارعين في أرضهم وتشجعهم على زراعتها.