خاص بآفاق البيئة والتنمية
عانت فلسطين هذا العام من حالة جفاف حاد غير مسبوق، وبخاصة خلال الفترة الممتدة بين 15 كانون أول (2013) وحتى 9 آذار الأخير (أكثر من ثمانين يوما دون أمطار تقريبا)، وما رافق ذات الفترة من ارتفاعات كبيرة ومتتالية في درجات الحرارة فوق معدلها السنوي؛ فارتفعت الحرارة (خلال أشهر كانون ثاني، شباط وأوائل آذار) مرات عديدة أكثر من المعدل السنوي بـِ 10-13 درجة. ووصلت الحرارة بضع مرات في ساعات النهار (خلال ذات الفترة) إلى ما فوق 23–28 درجة مئوية، مع غياب شبه كامل للأمطار طيلة فصل الشتاء، وتحديدا طيلة "المربعانية" (22 كانون أول-31 كانون ثاني) ومعظم "الخمسينية" (التي تمتد من 1 شباط حتى 21 آذار). ومنذ العاصفة الثلجية العنيفة التي ضربت مساحات واسعة من فلسطين التاريخية خلال الفترة 12-15 كانون أول الماضي، والتي اعتبرت الأشد خلال الأعوام الـ 22 الأخيرة – منذ آنذاك، لم تشهد فلسطين سوى كمية هزيلة جدا وهامشية من الأمطار؛ بل حتى القاطنين في المناطق الغنية بالموارد المائية والينابيع أحسوا على جلودهم بعواقب الجفاف.
وفي الواقع، الأمطار التي هطلت في فترة قصيرة خلال المنخفض الذي امتد بين 9 و13 آذار قد رفعت معدل الأمطار في الضفة الغربية تحديدا، من 50% إلى نحو 70% من المعدل العام طويل الأمد (حسب سلطة المياه الفلسطينية). إلا أن هطول أمطار غزيرة خلال بضعة أيام قليلة في آذار الماضي لن ينقذ محصول الحبوب الذي يعتمد على المطر؛ ما سيرغم المزارعين على استخدام مخلفاته النباتية علفا للثروة الحيوانية؛ علما أن تأخر المطر قد يتسبب، إجمالا، في ذبول محصول الحبوب.
في المستوى الفلسطيني العام (فلسطين التاريخية) لم تتجاوز كمية الأمطار 60% من إجمالي المعدل السنوي للهطول المطري منذ أواسط كانون أول 2013 وحتى 9 آذار (2014). وفي العديد من المناطق الفلسطينية، وبخاصة في المناطق الوسطى والقدس والضفة الغربية إجمالا، تميز شهر كانون ثاني الأخير باعتباره الأكثر جفافا حتى اليوم، منذ أن بدأت عملية القياس المنظمة للمتساقطات في فلسطين. ومن مؤشرات الجفاف الصارخة أيضا أن منسوب بحيرة طبريا ارتفع 11سم فقط خلال شهر كانون ثاني (2014) بالمقارنة مع 110 سم خلال ذات الشهر من عام 2013.
ورغم الجفاف والانحباس المتواصل للأمطار، منذ كانون أول 2013، فلم تتأثر المحاصيل نسبيا حتى أواسط شباط، وذلك بسبب احتفاظ التربة بالرطوبة التي اكتسبتها منذ العاصفة الثلجية الكبيرة في كانون أول الماضي، فظلت المحاصيل (التي لم تدمرها العاصفة الثلجية) آمنة؛ لكن مع استمرار الجفاف طيلة النصف الثاني من شهر شباط وحتى 9 آذار، أخذ المزارعون يتكبدون بعض الخسائر. ونظرا لتواصل انحباس الأمطار ودرجات الحرارة المرتفعة، ازداد استهلاك المياه للري، وبخاصة لري ما يعرف بمحاصيل "العروة التشرينية" في الأغوار، أي المحاصيل والخضار الشتوية التي تزرع في أواخر السنة؛ فخلال هذه الفترة تزرع أنواع مختلفة من الخضار، بما في ذلك الخيار والبندورة والباذنجان والكوسا.
قطاع الثروة الحيوانية الفلسطينية عانى بشكل خاص من الآثار السلبية لحالة الجفاف؛ إذ تسبب انحباس الأمطار في انخفاض حجم المراعي، ما أرغم الرعاة ومربي الثروة الحيوانية على تركيز رعاية قطعانهم في قطع محدودة جدا من الأراضي، وشراء كميات كبيرة من الأعلاف المصنعة المكلفة لإطعام ماشيتهم. ومن الواضح أن المراعي لن تستطيع هذا العام التعافي، في أعقاب هذه الفترة الطويلة من انحباس المطر؛ علما أن موسم الأمطار الجيد يوفر بالعادة وفرة غذائية للماشية في المراعي في الفترة الممتدة بين منتصف كانون أول ومنتصف أيار. أما عند تأخر هطول المطر، أو عندما يكون شحيحا، فإن فترة إطعام الماشية علفاً مُصَنَّعاً تصبح أطول، كما تتأخر عملية إخراج الماشية إلى المراعي الطبيعية.
المشكلة أن شتاء هذا العام الجاف قد جاء في أعقاب موسم شتاء العام الماضي (2012-2013) الذي انتهت أمطاره في وقت مبكر؛ وذلك بالرغم من أن كمية الأمطار آنذاك (2012-2013) تجاوزت المعدل السنوي، فبلغ المعدل الإجمالي للأمطار في مختلف أنحاء فلسطين التاريخية نحو 110% قياسا بالمعدل السنوي التراكمي. بمعنى أن النصف الأول من فصل شتاء العام الماضي (وتحديدا حتى أواخر كانون ثاني 2013) تميز بالأمطار الغزيرة والكثيفة. إلا أن هذه الصورة المطرية المشرقة تغيرت كليا في النصف الثاني من فصل الشتاء، وتحديدا في شهري شباط وآذار (2013) اللذين تميزا بكونهما الأكثر قحلا في فلسطين منذ خمسين عاما.
الامتناع عن إعلان هذا العام "سنة جفاف"
رغم أن فصل شتاء هذا العام يعتبر جافا بكل المقاييس وقد أثر سلبا بشكل واضح على المخزون المائي والمحاصيل، إلا أن وزارة الزراعة الفلسطينية (والحكومة أيضا) تحفظتا الإعلان عن هذا العام باعتباره سنة جفاف؛ بسبب وجود احتمال معين للهطول المطري خلال شهر آذار (وهذا ما حدث حقا ابتداء من 9 آذار)، ولما يترتب على هذا الإعلان من ضرورة توفير أرقام ومعطيات ومعايير ودراسات مناخية فلسطينية دقيقة موثقة (وهذا إلى حد ما غير متوفرة بشكل كاف حتى لحظة كتابة هذا التقرير)، وأيضا ضرورة بلورة خطة طوارئ لمواجهة الجفاف واقتراح طرق لموازنة العرض والطلب في المياه المتاحة، على ضوء انقطاع الأمطار والزيادة المتوقعة في الطلب على المياه مع بداية فصل الصيف، إضافة إلى ضرورة توفير سبل دعم وتعويض المزارعين الفلسطينيين ماديا وماليا وعينيا(وهذا أيضا غائب)؛ علما أن العديد من المزارعين عمدوا إلى ري محاصيلهم بالمياه المكلفة جدا، إضافة إلى الزيادة الكبيرة في كمية الأعلاف المشتراة من قبلهم.
إزاء الظروف المناخية القاسية التي عايشها المزارعون الفلسطينيون هذا العام، لا بد من الإسراع في إنجاز ترتيبات نظام التأمين الزراعي الذي يهدف أساسا إلى مساعدة المزارعين في المواسم الزراعية الصعبة.
ورغم الانحباس الكبير في الأمطار وحالة الجفاف الأكثر شدة خلال فصل شتاء هذا العام، إلا أنه لا يمكننا أن نستنتج من خلال هذه الفترة الزمنية القصيرة معالم الاتجاهات والتغيرات المناخية المستقبلية؛ وبخاصة أن موجات الجفاف القاسية توالت على بلاد الشام وفلسطين منذ مئات السنين، في أوقات متباعدة، وقبل الحديث عن ظاهرة الاحتباس الحراري والتغيرات المناخية المعاصرة تحديدا.
غيوم نادرة فوق طوباس في شهر شباط الماضي
ظاهرة "السد"
وبينما تميز شتاؤنا الحالي (في عموم بلاد الشام وبلدان شرق المتوسط) بالسخونة والجفاف؛ فقد تمتع الجزء الغربي من أوروبا بشتاء حقيقي تخلله عواصف ثلجية وموجات من البرد القارص. هذا المشهد المناخي أصبح مألوفا، منذ سنوات طويلة. بل إن مناطق أخرى في العالم تتشابه مناخاتها مع منطقتنا، مثل أستراليا، الصين، أريزونا، تكساس وكاليفورنيا، عانت هي أيضا من سنة جفاف شديد إلى حد بعيد.
ويقول أخصائيو المناخ بأن هذه الظاهرة تحديدا (شتاء جاف لدينا مقابل شتاء عاصف في أوروبا) تفسر سبب شتاءنا الجاف. ففي كل عام يجري الهواء البارد جدا من القطب باتجاه غرب أوروبا، ومن هناك نحو خط الاستواء؛ حيث يخلي مكانه لصالح الهواء الساخن الذي يصل من الجنوب. وبشكل عام، يحدث تبادل بين الأنظمة الهوائية؛ فأحيانا يكون المناخ في أوروبا أكثر بردا وفي منطقتنا أكثر سخونة، وبالعكس.
لكن، قد يحدث للأنظمة الهوائية أحيانا ما يعرف بظاهرة "السد" (blocking)؛ إذ تبقى الكتل الهوائية ثابتة مكانها، مما يتسبب في بقاء المنخفض القوي فوق غرب أوروبا، وفي المقابل، يبقى المرتفع القوي فوق منطقتنا، دون حدوث أي تبادل.
وفي فصل الشتاء الذي يخلو من ظاهرة السد، تتكون الأعاصير في مكان التقاء الهواء البارد مع الهواء الساخن: تيارات من الهواء البارد تتحرك من الشمال إلى الجنوب، بينما يقتحم الهواء الساخن الآتي من الجنوب طريقه في الجبهة الآتية من القطب. وهكذا تتكون في فصل الشتاء الطبيعي أمواج هوائية أفقية على الجبهة التي بين الهواء البارد والساخن، والتي تدور بتأثير دوران الكرة الأرضية. وتجلب هذه الأمواج معها، بشكل تبادلي، يومين-ثلاثة من المطر؛ أي منخفض فوق منطقتنا. ومن ثم استراحة لبضعة أيام، فمطر متجدد...وهكذا دواليك. وأحيانا، تعمل بعض "التشويشات" على إعاقة هذه العملية المنظمة. وتعد ظاهرة "السد" من بين التشويشات الكبيرة: فبدلا من أن يتحرك المنخفض فوق منطقتنا، ومن ثم مرتفع، فمنخفض...يبقى، بدلا من ذلك، المنخفض من الشمال والمرتفع من الجنوب اللذان يغلقان بعضهما في ذات المكان.
إسرائيل تتمتع بفائض مائي
المفارقة أنه مقابل الوضع المناخي الجاف النادر الذي نعيشه والعطش الذي يعاني منه فلسطينيو الضفة الغربية وقطاع غزة بسبب النهب الإسرائيلي للمياه، فإن إسرائيل تحديدا تتمتع بفائض مائي لاستهلاكها المنزلي والزراعي والصناعي؛ وذلك نظرا لفصلي شتاء ماطرين متتالين (2011-2012 و2012-2013) مَلَئا الآبار الجوفية في البلاد بما فيه الكفاية (كمية الأمطار في فصلي شتاء عامي 2012 و2013 في فلسطين التاريخية، تجاوزت المعدل السنوي التراكمي)، وأيضا بسبب إقامة إسرائيل بضع منشآت جديدة لتحلية المياه، وتطويرها حقول الغاز الطبيعي الذي يمكنه تشغيل تلك المنشآت بثمن بخس. ولكن، رغم ذلك، ولأسباب سياسية واقتصادية واضحة، تحرص الجهات الحكومية الإسرائيلية على التقليل من شأن هذه الحقيقة، وتواصل زعمها بأن "البلاد" (أي فلسطين التاريخية إجمالا) تعاني من شح الموارد المائية، ويجب، لذلك، "الحفاظ على كل قطرة ماء" (آفاق البيئة والتنمية، آذار 2014).
وفي الواقع، تتمتع الضفة الغربية تحديدا بكميات كبيرة من المخزون المائي الجوفي التراكمي، والقليل من المياه السطحية مثل الأنهار والبحيرات؛ بمعنى أن معدل الجريان السطحي فيها منخفض، بينما معدل تغذية المياه الجوفية مرتفع. لذا، فإن المقولة الشائعة بأن فلسطين بلد جاف مائياً عبارة عن مغالطة، وبخاصة لدى الحديث عن المناطق الجبلية مثل الجليل والضفة الغربية؛ إذ أن فلسطين تعد من بلدان المشرق العربي القليلة التي تحوي كميات مستدامة من مصادر المياه المتجددة (آفاق البيئة والتنمية، شباط 2014).