بين الاستثمار والبيئة عداوة. هذا مفهوم، لأن كل استثمار هو استثمار في البيئة وعلى حسابها أولاً. ولكن ماذا بين الدين والاستثمار وماذا بين الدين والبيئة؟
للإجابة على هذا السؤال يجب أن نعرف عن أي نوع من الاستثمارات والأديان نتحدّث. لا بدّ للإنسان أن يستثمر لكي يعيش. إلا ان السؤال هو: اين وكيف وبأي حجم ولتلبية أية حاجات؟ فكل استثمار يحافظ على شروط استدامة الموارد الطبيعية ويعمل تحت سقف تلبية الحاجات الضرورية من أجل البقاء، هو مباح وطبيعي. ولكن عندما بدأت الاستثمارات بتجاوز هذه القواعد، اصبحت غير مستحبة ايكولوجياً (بيئياً).
وقد أمكنت الملاحظة، انه كلما كانت الاستثمارات صغيرة، كانت انعكاساتها وأضرارها قليلة وكلما كبرت الاستثمارات، زاد ضررها وخطرها. وهذه قاعدة ثانية يفترض أخذها في الاعتبار عند تقييم الاستثمارات.
لناحية الأديان، فهي ليست واحدة في مقاربتها للمسألة البيئية. قد تشترك الاديان المسماة سماوية او توحيدية في المقاربة لناحية تعظيم شأن الإنسان واعتباره مخلوقاً على صورة الله وتمييزه عن باقي الكائنات... ولكنها قد تختلف مع الاديان الشرقية (الآسيوية) التي اعتبرت الإنسان جزءاً من الطبيعة وأن في الكائنات ارواحاً متصلة بعضها ببعض، ليس فيها اول ولا أفضلية لأي كائن على آخر. وقد برز الفرق واضحاً بين النظرة الدائرية الى نظام الطبيعة ومحاولة تقليده وبين اعتماد وجهة النظر الخطية التي تتخطى وتعاكس قوانين الطبيعة. هذه النظرة الخطية الأخيرة هي التي انتصرت في النهاية، مدعمة بأفكار التصنيع (مع الثورة الصناعية).. ومن ثم بأفكار التنمية والتقدم.
قد نجد في النصوص الدينية كافة بعض الآيات او الأفكار او الأقوال الرفيقة بالبيئة. ولكنها لا تبدو مركزية في أي نص، وقد يأتي ما يناقضها سريعاً وكثيراً. فطالما أن الانسان هو المحور على الأرض، والله المفارق هو المحور الكوني بصفته الخالق، في الأديان السماوية، فلن تكون الطبيعة محورية بالطبع. وهذا يختلف تماماً مع الفلسفة الصينية القديمة (على سبيل المثال) التي ترى الخير الأسمى في تناغم الانسان مع نفسه ومع السماء... والأرض ايضاً.
لم تكن الطبيعة محورية إلا في الفترات الميتولوجية... وقد تمّ تأليهها، او تأليه قواها. في هذه المرحلة، كان كل استثمار او نشاط او فعل في الطبيعة، ما فوق الحاجة الإنسانية (من اجل البقاء)، يعتبر مكروهاً جداً وبمثابة الجريمة... وهو بالتالي محرّم. اما في المرحلة الثانية (التيولوجية)، فقد حصل انقلاب في العلاقة، وساهمت المبالغة في التجريد والتوحيد على المستوى الإلهي والفكري، في القضاء على الخصوصيات الطبيعية. وتم منح الإنسان موارد الطبيعة للاستثمار بها واستغلالها إلى أبعد الحدود.
أما الآن، وبعد أن تبين أن قضايا البيئة باتت وجودية ومهدّدة لديمومة الحياة. تحاول بعض المؤسسات الدينية إعادة التفكير في هذا الموضوع، ولكن من دون التخلي عن المكتسبات التاريخية والمادية التي وفرها الفكر التوحيدي أولاً، ثم العلم والتقدم التكنولوجي، الذي لم يكن ليتقدّم لو لم يستبح كل مقومات الطبيعة.
في لبنان، يلاحظ اليوم أن المؤسسات الدينية لم تحافظ على وجودها بمجرد حفظها لتراثها، بل لاستثمارها في المادة كما في الروحانيات. صحيح أن تحريم بيع الأراضي التي ترعاها المؤسسات الدينية قد ساهم في ترك مساحات خضراء كبيرة وكثيرة في اكثر من منطقة لم تغزُها الاستثمارات او ما يُسمى "العمران"، إلا ان الفكر الديني الذي حملته او روّجت له كان متصالحاً مع الفكر الاستثماري، داخل هذه الاراضي او خارجها. ويقول البعض، إن السبب الرئيس لحفظ الاراضي لم يكن لدوافع بيئية، بل بسبب "حرم خارجي"، لأسباب متعددة، ليست "ايكولوجية" بأية حال.
كما يمكن ملاحظة نوع من التحالف والتعاون بين كبار المستثمرين والمؤسسات الدينية عند الذين فصلوا والذين لم يفصلوا بين الدين والدولة. فهذه المؤسسات الاستثمارية تتشارك او تحفظ نوعاً من الأسهم للمؤسسات الدينية، او هي تساعدها في بناء أو ترميم المؤسسات، أو هي تتبرّع وتدعم وتهب وتساعد... وتبيّض أموالاً ووجوهاً كثيرة. وهذا ما جعل مؤسسات دينية كثيرة تخرج عن رسالتها الأساسية في البناء في الإنسان... فتبني في الحجر وتستثمر في السوق كأي مؤسسة تجارية تبغي الربح! وهي بذلك، تساهم كأي مؤسسة ربحية أيضاً، في تحمل مسؤولية تهديد أسس الحياة على كوكبنا والقضاء على النوع الإنساني بدلاً من إنقاذه. لا بل يمكن القول، في الحالة اللبنانية، إن هذا النوع من التحالف الاستثماري قد أعاق بناء الدولة الراعية طوال الفترة السابقة وحتى اليوم، وأن على الخلوات والمبادرات الدينية (المنتظرة هذه الأيام)، ان تتطرق الى هذه المسائل، لناحية تحديد الموقف الحقيقي من بناء الدولة المالكة أو المتحكمة بإدارة الموارد والبيئة... لكونها مالكة ومستثمرة وشريكة في استثمارات كبيرة، تحدد مصير الدولة وأنظمة الحكم، بالإضافة إلى المواقع السلطوية...
وللحديث صلة.