خاص بآفاق البيئة والتنمية
في مثل هذه الأيام منذ ستة وخمسين عاما كانت قد انتهت دولة الاحتلال الإسرائيلي من تجفيف آخر بقعة من مياه بحيرة الحولة التي كانت تمتد على مساحة 14 كيلومتر مربع، أما المستنقعات حولها فامتدت على مساحة 60 كيلو متراً مربعاً تقريباً، وبلغ عمق البحيرة ستة أمتار في أعمق نقطة. ويعد مشروع تجفيف بحيرة الحولة واحداً من عشرات المشاريع المائية التي تندرج ضمن النهج الإسرائيلي المستمر حتى يومنا هذا، للاستيلاء على الأرض وإخلائها من سكانها والسيطرة على ثرواتها الطبيعية.
 |
 |
ضفدع الحولة الفلسطيني الملون |
طاحونه الخصاص وهي تقع في جنوب القريه وقد تمت سرقه كل محتوياتها والاتها وركبت في مستوطنه هاجوشريم التي اقيمت على اراضي القريه لجلب السياح الى المكان |
بحيرة الحولة ما قبل النكبة
كانت بحيرة الحولة تقع ضمن قضاء مدينة صفدعلى مسار نهر الأردن شمال بحيرة طبرية وجنوب منحدرات جبل الشيخ. وعاش في مياهها واحد وعشرون نوعا من الأسماك وخمسة وتسعون نوعا من القشريات، وثلاثون نوعا من الحلزونيات، وسبعة أنواع من البرمائيات والزواحف أهمها ضفدع الحولة الفلسطيني الملون والوحيد من نوعه في العالم. وجذبت البحيرة عشرات الأنواع من الحيوانات الثديية أهمها جاموس الماء وسنّور الأدغال والغزلان البريّة وابن آوى الذهبي والخنازير البريّة والنمس المصري (السمّور)، كما جمعت مئة وواحداً وثلاثين نوعا من الطيور من ثلاث قارات ومنها البجع والغطّاس. وكانت موطناً لنباتات افريقية قصبية أهمها نبات البردى الذي استخدمه السكان في صنع الحصائر الأرضية وتدعيم سقوف المنازل.
وعاش في سهل الحولة أهالي ثلاث وعشرين قرية فلسطينية منها العابسية وقيطية والخالصة والدوارة والمفتخرة والمنصورة والخصاص والزاوية والناعمة والشوكة التحتا ودفنه والزوق التحتاني واعتاش سكان سهل الحولة على تربية المواشي والأشغال القصبية وصيد الأسماك وزراعة القمح والشعير والأرز بأنواع مختلفة وبكميات كبيرة نظراً لتوفر المياه الحلوة. وكان يتم بيع ما يزيد عن حاجتهم لباقي مناطق فلسطين والقرى السورية المجاورة. كما زرعوا القطن وقصب السكر والذرة البيضاء والصفراء والخضروات بأنواعها وأشجار الحمضيات والرمان. وقد طمست إسرائيل هذه الصورة الحقيقية المليئة بالحياة تمهيداً لتهجير سكان هذه القرى من مواطنهم، ونفّذت هذا التهجير القسري من خلال مجازر الإبادة المخطط لها مثل مجزرة الحولة التي وقعت في 30-10-1948 حينما قامت فرقة تابعة لجيش "الهجانا" الصهيوني بمهاجمة القرية وجمعت 70 شخصا ممن لم يغادروا القرية وتم قتلهم بإطلاق النار عليهم.
شرعت إسرائيل للترويج لفكرة تجفيف البحيرة بعد النكبة مباشرة، وبدأت مؤسسة الصندوق القومي اليهودي بجمع التمويل المحلي والعالمي لتنفيذ المشروع الذي بلغت كلفته 22 مليون دولار، من خلال ترويج صورة مزيفة بأن البحيرة هي "مستنقعات" ومجمع للبعوض والحشرات وأنها مبعث للموت والأمراض. كما ادّعتبأن السكان الأصليين في سهل الحولة هم عبارة عن "قبائل بدائية" بائسة أنهكها مرض الملاريا ذلك لتأكيد كذبة "أرض بلا شعب". وقامت بالمقابل بالترويج لمشروع سيقوم بالاستفادة من الأراضي الخصبة مكان البحيرة لأغراض الزراعة وإنشاء الجنائن، في حين أنّ الأهداف الحقيقية هي إخراج السكان من موطنهم بالقوة، وإيجاد فرص عمل زراعية للمستوطنين الذين استقدموا من شتى بقاع الأرض. وكذلك توفير 100 مليون متر مكعب لري مناطق واسعة تستوعب هؤلاء المستوطنين. فحولت بذلك الأراضي السهلية للقرى الفلسطينية المدمرة إلى مستوطنات لاستيعاب المستعمرين وحولت بعضها الآخر الى "محميات طبيعية". بينما لجأ سكان سهل الحولة الأصليين الى مناطق قريبة من صفد ومن ثم هجروا ثانية الى مخيمات الشتات في لبنان وسوريا، حيث يتركزون اليوم في مخيم برج الشمالي في لبنان ومخيم جرمانا قرب دمشق.
 |
 |
عيد الأضحى قرب الحولة 1940 - مكتبة الكونغرس الامريكي |
نساء تحيك ورق البردى لصناعة - 1940الحصائر |
مشروع تجفيف البحيرة
تحت إشراف الصندوق القومي اليهودي تمّ جمع التمويل اللازم، واستغرق مشروع التجفيف سبع سنوات (1950- 1957) وتم في البداية تجفيف المستنقعات المجاورة للبحيرة واستغرقت العملية عاماً، ثم ابتدأت عملية تجفيف البحيرة نفسها وتضمنت: (1) توسيع وتعميق مجرى نهر الأردن بمقدار أربعة أمتار ليتم استيعاب مياه البحيرة وسمحت هذه الخطوة بتصريف أكثر من 300 مليون متر مكعب سنويا من بحيرة الحولة إلى مجرى نهر الأردن، (2) تم حفر ثلاث قنوات لتصريف المياه من البحيرة باتجاه النهر بتنفيذ شركة مقاولات أمريكية،(3) تم العمل على تصريف مياه البحيرة إلى مجرى النهر وإزالة السد الفاصل بين القناة الشرقية لبحيرة الحولة ونهر الأردن حتى جفت البحيرة تماما.
ظنّت إسرائيل بأن عملية تجفيف البحيرة سيعود عليها بالنفع من كل الجوانب إلا أنّه وبعد مرور سنوات اكتشفت أنها كانت فكرة سيئة ومكلفة بنفس الوقت، ولم تحقق من أهدافها سوى نهب الأرض من أصحابها. فقد تبين أن التربة الناتجة عن تجفيف البحيرة ليست جيّدة للزراعة بسبب نوع هذه التربة "الكابول" والتي تشكلت بعد تحجّر وتفحّم بطيء للنباتات والأعشاب بدون الأكسجين في قعر البحيرة، مما جعل هذه التربة قابلة للاشتعال بسهولة وخاصة في الصيف، كما أضعف فرص الاستفادة منها أو بيعها كما كان مخططا. وبالنسبة لاستهلاك الماء فإن أراضي سهل الحولة أصبحت بحاجة للري بعد تجفيف البحيرة، فهي تحتاج لضخ 140 مليون متر مكعب سنويا من مجرى نهر الأردن العلوي لري هذه الأراضي. كما أدت عملية التجفيف الى زيادة التلوث في بحيرة طبريا من خلال انجراف التربة المحتوية على كميات هائلة من الأسمدة العضوية التي أصبحت تستخدم في زراعة سهل الحولة بعد تجفيف البحيرة. ونُذكّر هنا بحوادث تلوث مياه مدينة عمّان والذي كان أولها في العام 1998، حيث وُجدت مُلوّثات غائطية وطحالب وديدان أسطوانية مصدرها بحيرة طبريّا، الأمر الذي أدّى آنذاك إلى إقالة الحكومة الأردنية، وتكررت حادثة تلوث مياه عمّان في العام 2009.
وبعد سنوات من تجفيف البحيرة وتحديدا في صيف 1993 وبعد أن ظهر جليا فشل المشروع في تحقيق أهدافه الزراعية، قررت دولة الإحتلال إعادة غمر 15000 دونم بالماء من جديد باستخدام مياه نهر الأردن. وقد برّرت هذا القرار بهدف إنشاء منطقة جذب سياحي كمصدر دخل مهم للمستوطنين، حيث تم إنشاء هذه المنطقة والتي سميّت "البحيرة الصغيرة". ويُستهلّ الموقع الالكتروني الإسرائيلي الخاص بالبحيرة الصغيرة بعبارات تتغنّي بمحافظة إسرائيل على البيئة والمعالم الطبيعية وبأن "سواعد المزارعين الإسرائيليين الأبطال جعلوا من الحولة جنة خضراء".
ولا يمكن إغفال حقيقة أن عملية تجفيف البحيرة أدّت إلى تغيير النظام البيئي والتركيبة الجيولوجية للمنطقة وتغيير التنوع الحيوي لها، وبأن النتيجة لذلك كانت كارثية. فقد انقرضت كائنات نادرة جداً كانت الحولة موطنها الوحيد في العالم وأهمها سمكة السيبنيد
cypinid fish من فصيلة السردينيات والتي اقترن اسمها العلمي بالحولا
hulensis Acanthobrama وسمكة من فصيلة سكاليد
intermedia Tristramella إضافة الى ضفدع الحولا الفلسطيني الملوّن
Hula painted frog (Latonia nigriventer)، الذي أُعلن عن انقراضه منذ 1955 بعد تجفيف موطنه، ولكنه اكتشف مرة أخرى في الموقع الجديد المغمور بالمياه في العام 2011، وقد أكدت سلطة الطبيعة والمتنزهات الإسرائيلية هذه الحقيقة، وتم اكتشاف عشر ضفادع من هذا النوع في نفس الموقع.
يُعتبر مشروع تجفيف بحيرة الحولة والمشاريع المائية العديدة التي نفذّها الإستعمار الصهيوني في الستينيات ومشاريع أخرى كثيرة ما زالت مستمرة حتى يومنا هذا، مثل وقف تدفق مياه نهر الأردن من الجهة الجنوبية لبحيرة طبريا، وتحويل مياه ينابيع مالحة إلى بحيرة طبريا، وتحويل مياه عادمة ومياه برك الأسماك في بيسان إلى مجرى نهر الأردن، وتغيير معالم البحر الميت، حلقات في مسلسل مشاريع إسرائيل لمصادرة الموارد المائية والطبيعية، ونهب أكبر كمية ممكنة من المياه وحرمان الفلسطينيين وشعوب الدول المحيطة منها.
ويشكل هذا العبث الإسرائيلي بالطبيعة تبعاً للأهواء والأطماع الصهيونية انتهاكاً وجريمة بحق البيئة ونظام التوازن البيئي والتراث البيئي الإنساني.
وفي مقابلة مصورة ضمن مشروع التاريخ الشفوي للنكبة الفلسطينية والذي أنشأه موقع "فلسطين في الذاكرة " يذكرنا الحاج علي الشلحاوي من قرية العابسية واللاجىء في مخيم جرمانا، ببحيرة الحولة ويذكر بـ "أيام الخير" وتعاون المزارعين في أيام الحصاد ويؤكد أن حلمه بالعودة للعابسيّة ما زال قائماً. فكما تصر الطبيعة على إعادة نفسها لشكلها الحقيقي، وكما تصر الطيور والضفادع والنباتات البرية المحلية والكائنات المائية المختلفة والتي سلبت منها الحولة على العودة. يفعل البشر الذين كانوا وسيكونون جزءاً لا يتجزأ من تلك المنظومة الطبيعية الجميلة المتوازنة.