خاص بآفاق البيئة والتنمية
كثر الحديث في السنوات الأخيرة عن الزراعة العضوية وآفاق ممارستها في الضفة الغربية وقطاع غزة. وقد نشرت آفاق البيئة والتنمية بضعة تقارير ومقالات تحليلية بهذا الخصوص. ورغم ذلك، لا نزال نسمع ونقرأ، بين الفينة والأخرى، لغطا وخزعبلات وفتاوى حول الزراعات العضوية؛ وصلت لدرجة زعم البعض بجواز استعمال مبيدات ومواد كيميائية معينة في الزراعة العضوية. لذا، ارتأينا في هذه العجالة، أن نطرح بعض أبرز وأهم المعايير الأساسية والبديهية المتعارف عليها علميا وعالميا في الزراعات العضوية؛ سواء في الإنتاج النباتي أو الإنتاج الحيواني.
بدايةً، لابد من التذكير بأن العديد من مفاهيم الزراعة العضوية "الحديثة" تنطبق في جوهرها، إلى حد كبير، على العديد من تقاليد وممارسات وتجارب الزراعات الفلسطينية والعربية البلدية البعلية والموسمية التي تميزت تقليديا بالتداخل والتنوع، ليس فقط في فلسطين، بل وفي سائر أنحاء بلاد الشام والوطن العربي إجمالا. وبالتالي فإن جزءاً كبيرا من هذه المفاهيم والمعايير شكلت، ولا تزال في بعض الحالات تشكل، مكونا أساسيا من الزراعات الفلسطينية البعلية والبلدية الموسمية. وربما ما يربك البعض هو التسمية الحديثة (زراعة عضوية) التي يمكننا اعتبارها إغناء وتطويرا للزراعة البلدية.
المسألة الجوهرية في الزراعة العضوية، كما في تراثنا الزراعي البلدي منذ مئات السنين، أنها (أي الزراعة العضوية) تعمل بانسجام مع الطبيعة وليس ضدها. وهذا يعني استخدام تقنيات تهدف إلى الحصول على إنتاج محصولي جيد، دون إيذاء البيئة الطبيعية أو الناس الذين يعيشون ويعملون فيها. ومن أبرز الأساليب والأدوات التي يركز عليها المزارعون العضويون هي الحفاظ على التربة وتخصيبها باستعمال المواد الطبيعية (الكمبوست والأسمدة البلدية والطبيعية)، والاهتمام ببنيتها الجيدة وخصوبتها الطبيعية الدائمة؛ لأن التربة الصحية الجيدة المتوازنة والمتماسكة والغنية بالأحياء الدقيقة والمادة العضوية تشكل خط الدفاع الأول لحماية النبات من الأمراض والآفات، والحصول بالتالي على نبات صحي وخال من الأمراض؛ بدلا من التركيز على النبات ومعالجته كيميائيا من الأمراض التي قد تفتك به نتيجة لفقر التربة المستنزفة بالسماد الكيماوي، وبالتالي ضعف خصوبتها الطبيعية.
وكما كان الحال دائما في تراثنا الزراعي الطبيعي والبلدي، ففي الزراعات العضوية أيضا لا وجود لشيء إسمه نفايات دون استعمال؛ بل هنالك عملية متواصلة لتدوير وتدبيل المخلفات المحصولية والروث الحيواني والتصنيع المحلي للسباخ (الكمبوست). كما يتم إيلاء الزراعة السليمة في الوقت المناسب أهمية خاصة؛ إضافة إلى الدورة المحصولية والبقوليات الخضراء وزراعة الأصناف التي يمكن استعمالها سمادا أخضر؛ إلى جانب استخدام "المَلْش" أو الغطاء الحيوي للتربة (القش، أوراق الشجر..إلخ)، والامتناع تماما عن استخدام البلاستيك.
وتكمن أهمية الدورة الزراعية في أنها تسهم في تقليل الآفات والأمراض الزراعية والأعشاب الضارة، إضافة إلى دورها في تفادي تآكل التربة وموازنة متطلبات المحاصيل المختلفة من مغذيات التربة. الأمر الذي يتطلب أيضا زراعة دائمة للبقوليات الضرورية لبناء المواد الدبالية والعضوية المتحللة في التربة، وبالتالي تخصيبها؛ ما يؤدي إلى زيادة مرونة النظام البيئي-الزراعي. كما أن البقوليات تعتبر مصدرا أساسيا لتزويد التربة بالنيتروجين الطبيعي. لذا، يحبذ أن تكون نسبة البقوليات في الزراعات العضوية مرتفعة نسبيا، وتحديدا بما لا يقل عن 20% (بقوليات)؛ وذلك عكس الزراعات الكيميائية الأحادية. كما يجب التقليل من نسبة الحبوب في إطار الدورة المحصولية، بحيث لا تتجاوز 50%، وإلا ستزداد الأمراض والآفات والعجز في المغذيات، إضافة إلى ضعف بنية المادة العضوية.
ويعد التحكم الطبيعي (دون كيماويات) بالآفات والأمراض الزراعية والأعشاب الضارة مسألة أساسية، إضافة إلى الزراعة بعناية وحذر والاختيار الصحيح للمحاصيل، وبخاصة الاهتمام بزراعة المحاصيل المقاومة للأمراض والآفات، فضلا عن تشجيع انتشار الحشرات والمفترسات المفيدة التي تلتهم الآفات والحشرات الضارة والممرضة، واستخدام المبيدات الطبيعية والامتناع تماما عن استعمال المبيدات الكيميائية، فضلا عن عدم استعمال الكبريت أو النحاس أو ما يعرف بمادة "بيريثروم" (pyrethrum) "للوقاية من الأمراض" لأن هذه المواد سامة وتتراكم في التربة وتهدد الحشرات النافعة وخصوبة التربة.
وفي المحصلة، الالتزام بالممارسات الزراعية السليمة والصحية والمتوازنة، بما في ذلك الحفاظ على التنوع الزراعي والمحصولي والوراثي الذي يعتبر ركنا أساسيا من أركان الزراعة العضوية؛ ما يعني التنويع في الأنواع والأصناف والأعداد المزروعة في القطعة الواحدة، ما يسهم إلى حد كبير في تقليل الأمراض والآفات، وانخفاض نسبة المخاطرة، وزيادة إجمالية في الإنتاجية بنسبة تفوق كثيرا الزراعات الأحادية الكيميائية التي يقاس الإنتاج فيها بكميات المحصول من صنف واحد أو صنفين.
التنويع الزراعي والمحصولي يعني أيضا زراعة الهوامش وعدم ترك مساحات عارية بين خطوط المحاصيل، إضافة إلى التنوع الحيوي حول المحاصيل (في الأطراف والهوامش)، وزيادة التنوع من خلال زراعة الأنواع النادرة أيضا، وترك الأعشاب البرية تنمو في الأماكن التي لا تعيق الزراعة، وعدم حرق الأعشاب. وفي المحصلة، يؤدي هذا النهج الزراعي إلى رفع مستوى الاستقرار البيئي-الزراعي المتمثل، على سبيل المثال لا الحصر، في تكاثر الكائنات النافعة، وفي حماية الموارد الطبيعية وتوفير البيئة المتوازنة للكائنات والحشرات النافعة، وبالتالي رفع مستوى المرونة البيئية.
وتحتل مسألة استخدام البذور البلدية أو المحلية وحمايتها وإكثارها وتوزيعها مكانة طليعية في النظام الزراعي العضوي. وهذا يعني الامتناع عن استعمال أصناف البذور غير المتأقلمة مع النظام البيئي-الزراعي المحلي، وبخاصة أن استهلاك الأخيرة للمدخلات الخارجية كبيرة، بعكس البذور المحلية المتأقلمة مع البيئة والمناخ المحليين والتي تتميز بمقاومة أكبر للأمراض والآفات، ويمكن إعادة إنتاجها من ذات البذور، وبالتالي إعادة زراعتها مع كل موسم جديد.
وتتضمن الزراعات العضوية أيضا الاستخدام الرشيد للموارد المائية والتربية الجيدة المتوازنة للحيوانات، من خلال الالتزام بمعايير خاصة للإنتاج الحيواني، سنتطرق إليها في الفقرات اللاحقة.
الزراعة البيئية تعتمد منهجية تغذية التربة وبالتالي فهي تحافظ على توازن الكائنات داخل التربة
معايير الإنتاج الحيواني
أما ما يتعلق بمعايير الإنتاج الحيواني في الزراعات العضوية، فيجب، في المقام الأول، العمل على تقليل الأمراض وبالتالي العلاجات البيطرية للحيوانات إلى الحد الأدنى، وذلك من خلال تقليل كثافة الإنتاج الحيواني والتركيز على الإنتاج الطبيعي والمتوازن، والعلف الطبيعي المنتج في المزرعة أو في مزارع قريبة. ويجب التركيز على تحسين ظروف معيشة الحيوانات؛ وتحديدا بأن تكون كثافة الحيوانات قليلة والمساحة واسعة، ما يتيح سلوكا طبيعيا للحيوانات؛ وإلا فسيزداد السلوك الحيواني غير الطبيعي مثل "نتف" الريش، وافتراس الحيوانات بعضها بعضا، كما في حال الدجاج البياض. كما يجب ترك الذكور داخل نفس المزرعة، أو في مزرعة قريبة، والسماح للحيوانات بالتزاوج الطبيعي؛ بمعنى توفير ظروف وفرص حياة طبيعية تتناسب مع فسيولوجية الحيوانات وسلوكها الطبيعي ورفاهيتها.
ومن الأهمية بمكان زيادة فترات الرعي الطبيعي في المراعي الطبيعية، لتوفير ظروف حياة طبيعية قدر الإمكان تتناسب أيضا مع فسيولوجية الحيوانات وسلوكها ورفاهيتها. ومن المعروف أن حركة الحيوانات وتمارينها، من خلال الرعي الطبيعي، تقللان من ظاهرة عرج الحيوانات.
وفي مزارع الحيوانات، يجب التقليل من استخدام المواد غير المتجددة وغير القابلة لإعادة الاستعمال أو التدوير، مثل الأغطية البلاستيكية، المطاط وغير ذلك.
يضاف إلى ذلك، أن التنويع والتداخل في الثروة الحيوانية مسألتان أساسيتان، سواء من ناحية المجترات، الدواجن، الطيور، الدجاج، الأغنام، النحل وغير ذلك، بهدف إتاحة فرص أفضل لتداخل الثروة الحيوانية مع الإنتاج النباتي، وبالتالي توفير التوازن بين الطلب والعرض في مصادر الغذاء الحيواني في إطار المزرعة. وهنا يجب تقليص المدخلات من خلال إعادة الاستعمال والتدوير والإدارة الفعالة للموارد والطاقة؛ بمعنى أن الإنتاج يجب أن يستند إلى العمليات البيئية والتدوير.
السماد البلدي الغني بالمواد العضوية يمد النباتات بالنيتروجين الذي تحتاجه بكثرة ويحسن خواص التربة وتماسكها وزيادة قدرتها على حفظ الماء
خلاصة واستنتاجات
تتميز الزراعات العضوية بالاستخدام الضئيل جدا لمدخلات الإنتاج الخارجية (الطاقة، الأسمدة، العلف والمواد المختلفة)؛ علما بأن الاستخدام الكبير للمدخلات الخارجية يرفع مستوى انبعاث أول وثاني أكسيد الكربون، ويزيد من استهلاك الطاقة الأحفورية. تقليل المدخلات الخارجية يكون بشكل أساسي من خلال إعادة الاستعمال والتدوير والإدارة الفعالة لمواد ومعدات المزرعة والطاقة، وذلك للحفاظ على، وتحسين، جودة البيئة وحماية الموارد.
الزراعات البلدية والعضوية تتميز مدخلاتها بأنها محلية، سواء على مستوى السماد البلدي المحلي أو السماد الأخضر أو الحيوانات أو الأيدي العاملة أو البذور البلدية غير الصناعية، أو العلاجات الزراعية الطبيعية والعضوية المشتقة من الموارد والنباتات المحلية. وهذا التوجه الإنتاجي الغذائي الاستراتيجي، يضمن بقاء وتدفق الثروة ورأس المال وتدويرهما داخل بلدنا؛ لأن الاعتماد على المستلزمات الزراعية التي يعيد المزارعون إنتاجها بأنفسهم محليا، يكون في إطار نفس دائرة الإنتاج والاستهلاك المحلية. وهذا يعني الاعتماد على الذات وتحقيق الاستقلال والسيادة على الغذاء وطنيا.
إن تطوير العملية الزراعية استنادا إلى الموارد والإمكانيات والممارسات والتجارب والمعارف الزراعية المحلية، يعد لب مفهوم الزراعة العضوية. واعتبار الزراعة العضوية بأنها "زراعة التقنيات العالية" كما كتب بعضهم، يعد مغالطة علمية، لأن تمام العكس هو الصحيح. حيث أن الزراعة المستندة إلى الكيماويات تحديدا، هي التي تعد ذات كثافة رأسمالية مرتفعة. بينما تقنيات واستراتيجيات المكافحة غير الكيماوية للآفات والأمراض الزراعية، تحتاج إلى المعرفة الواسعة والعمالة والمهارة والخبرة البشرية، أكثر من حاجتها إلى الرأسمال والتقنيات العالية، بمعنى أنها كثيفة المعرفة والعمل.
التعامل مع مفاهيم الزراعة العضوية في السياق الاقتصادي-السياسي الفلسطيني، لا بد أن يكون مبنيا على تجاربنا ومعارفنا وتقاليدنا الزراعية الطبيعية والبلدية غير الكيماوية، بحيث نراكم على هذه التجارب والمعارف ونطورها ونعممها.
وقد ثبت في بلد كبلدنا، "متخلف" تنمويا ورازح تحت الاحتلال الاستيطاني وفقير بالموارد الطبيعية، أن لا مجال ولا مستقبل للحديث عن تنمية اقتصادية زراعية سوى في إطار اقتصاد إنتاجي متمحور داخليا ومتحرر من التبعية للمدخلات الخارجية الإسرائيلية؛ أي اقتصاد مقاوم للاحتلال. وهذا ما نعنيه بالضبط، في السياق الفلسطيني، بالزراعة العضوية (أو البلدية) المتداخلة والمتنوعة والبيئية التي توفر الاحتياجات الغذائية الأساسية النظيفة للناس، بحيث نتحرر من رحمة الاقتصاد والسوق الإسرائيليين، وبالتالي نحقق السيادة الغذائية للناس، الأمر الذي يعد شكلا أساسيا من أشكال السيادة السياسية.