خاص بآفاق البيئة والتنمية
تخشى شمس الشتاء، ولا تستطيع حتى مجرد تخيلها وهي تسرح وتمرح في سماء زرقاء، أو بعض السحب العابرة، وكأنه الصيف. تزداد رعبًا حين نبدأ بالتهام النصف الثاني من كانون الأول (الأجرد) والمطر لم يسقط بعد في الكثير من المواقع، مع أن البشرى كانت كبيرة وسارة بداية الموسم، حين هطل أول المطر مبكرًا. كانون دون مطر، وبلا غيوم تتنقل برشاقة فوق مدننا كلها أمرٌ يدّب القلق في الأوصال، ويبعث على الحزن.
يقول المعمرون إن الكانونين (الأول والثاني) لب الشتاء، وفيهما يجري (لقاح الأرض) وتعقيمها من الآفات والحشرات، ويتم تغذية المياه الجوفية، قبل أن تبدأ الأرض بارتفاع الحرارة، ويرددون المثل الشعبي ( شباط الخبّاط، ورائحة الصيف فيه).
الجفاف الفلسطيني في كانون أول 2015
انحباس ومحلية
طيلة الشهر الأخير من عام 2015، لم تفتح أبواب السماء إلا في 3 مناسبات مطرية، اتسمت بـ"المحلية" و"المناطقية"، بحيث لم تهطل الأمطار بشمولية، وكانت قصيرة نسبيًا في طول فتراتها.
تنقل حديث الشتاء لغير مكان، البداية مع الفلاحين الذين استعدوا مبكراً لبذار حبوبهم، ففعل معظمهم، لكن الأمطار انحبست طويلًا، ومضى الأجرد حتى يومه الأخير دون منخفضات عامة وشاملة.
يقول مزارعون في مرج ابن عامر، إن هذا الموسم غريب عجيب، فقد أمطرت في الخريف، وكان شهر كانون الأول بائسًا وحزينًا. "زرعنا القمح، وأمطرت قليلاً، وضرب جذوره في الأرض ثم جفت الدنيا، ونبت قسم منه، وتلفت أغلبيته" هكذا قال حسان الحاج يوسف، الفلاح في قلب المرج المحاط بالاسمنت. غير أن المربي المتقاعد محمد محمود أبو فرحة، والشغوف بتوثيق أحوال المناخ في بلدته الجلمة شمال غرب جنين، أكد أن المرج ظل طيلة كانون الأول دون خضار وزرع شتوي، وبالكاد يشاهد المار منه بعض الحقول التي يرويها أصحابها.
الجفاف في كانون أول
ظمأ الشتاء
تتجول في الهزيع الأخير من الشهر داخل أراضي المرج، ويقص عليك فلاحون أنهم يسقون اللفت والسبانخ والفجل والشومر والملفوف، بالرغم من أنها محاصيل شتوية نضجت أو أوشكت على النضوج، وهي بالعادة تعتمد على مياه المطر، كما يقول المزارع علاء الدين خلف. في حين ينهمك الستيني أحمد الأقحش، الذي يحافظ على بقعة صغيرة تتوسط حي البساتين، أحد المناطق التي كانت أخصب الأراضي في المرج ثم صارت بنايات إسمنتية وشوارع عريضة، في ري حقل الخس، بعد أن طال انتظاره للمطر، فيما آثر ري مساحات القمح الصغيرة التي زرعها نهاية تشرين الثاني.
الحال ليس بالمختلف كثيرًا في سهل البقيعة، بمحافظة طوباس والأغوار الشمالية أو سهل الكفير ( جنوب جنين)، فقد انتظر السهلان باب السماء طويلاً لكنهم تعرضا لموجة صقيع في الثلث الأول من الشهر، بعدها صار المزارعون يسقون محاصيلهم خشية جفافها. ومما قاله المزارع عبد الناصر عبد الرازق، فإن البقيعة كانت الأقل مطرًا في معظم أنحاء الوطن، وبالكاد هطلت زخات خفيفة ومحلية، ولم يشعر المزارعون بها إلا في اليوم الأخير من الشهر. والصورة مماثلة وفق العاملين في سهل الكفير القريب من بلدة عقابا.
يروي فلاحون من طمون التي تجاور البقيعة، أنهم زرعوا البازلاء في أوائل كانون الأول، غير أن المطر غاب، ولم يصل المنطقة إلا في الأيام الأخيرة من الشهر ذاته، وهذا وفق المزارع أبو فهد بشارات، ما سيتسبب على الأغلب في تشويه جودة المحصول.
بالتزامن مع الجفاف في الثلث الأول من كانون ثاني الماضي تعرض سهل البقيعة في الأغوار الشمالية وسهل الكفير جنوب جنين لموجة صقيع
جفاف
في جولة ببعض الجبال المحيطة بجنين، يمكن ملاحظة الأعشاب والأزهار البرية التي بدت فقيرة، فيما بانت علامات العطش عليها. وترافق هذا مع تراجع لتكاثر نبات الفطر (المشروم) أو الفقع كما يطلق عليه المواطنون، مع نمو الخبيزة والخردل على استحياء، وبخاصة في مجاري الأودية والقنوات المائية.
وترصد عدستك ملامح عطش كانون الأول، فقد بدت النباتات والأزهار، وحتى المحاصيل الشتوية المزروعة في الحدائق المنزلية متراجعة، واضطر بعض أصحابها لري تكميلي لها لتنمو، وشمل هذا أشجار الليمون، وورق اللسان (اللسينة)، والكزبرة، والبقدونس، وحتى الفول والبصل، أما العوينة فقد تراجع حضورها من المشهد، وغابت أوراقها التي تستخدم في صنع شطائر تراثية.
بسبب الجفاف في كانون أول 2015 عمد بعض المزارعين الفلسطينيين إلى ري مزروعاتهم
أرقام تاريخية
برصد لمواسم المطر في منطقة مثل جنين على مدار ثمانية عقود، نجد التذبذب الواضح في الهطول من سنة لأخرى، وبشكل واضح ولافت. فمثلا، كان الشتاء عام 1927 بالميلميترات 598، وبعد عام واحد تراجع إلى 429، وفي سنة 1929 بلغت الكمية 788، ولكن في عام 1932 تراوح المعدل 329 ميليمتراً. أما عام 1945 فكان 717 مليمتراَ، وعام 1947 انخفض إلى 253 ميليمترا فقط. بينما ارتفع عام 1950 إلى 722 ليتراجع بعد عام واحد إلى 215 ميليمتيراً، وفي عام 1960 كان الشتاء 261 ميليمتيراً، ليزيد عام 1961 بنحو 425 ميليمتيراً. فيما كانت الهطولات عام 1979 بمعدل 289 ميليمتيراً زادت عام 1980 إلى 700 ميليمتيراً، وعام 1991 هطلت الأمطار بنحو 400 ميليمتيراً، لترتفع برقم قياسي عام 1992 إلى 1037 ميليمتيراً، أما عام 1998 فكان المجموع التراكمي للأمطار 535 ميليمتيراً، وبعد عام واحد قلت النسبة إلى 256 ميليمتيرًا.
نبتة تزهر وسط الجفاف الفلسطيني في كانون أول
توزيع وتذبذب
ووفق موقع الأرصاد الجوية الفلسطينية، فقد بلغت نسبة الأمطار في القدس حتى (11 كانون الثاني 2016) 42 % من معدلها العام، و40% لنابلس، و28% في طوباس، و46 % لجنين ( مع تذبذب عال في بعض قراها 18 % فقط في رمانة شمال غرب المدينة، وهي الأقل في الضفة وغزة)، أما في رام الله والبيرة فوصلت 47% مقابل 76 % لبيرزيت، و73% لقلقيلية، و40% لطولكرم، و47% للخليل، و115 % لرفح وهي الأعلى في الضفة وغزة و%68 لبيت لاهيا و81% لبيت حانون.
أما توزيع الأمطار التاريخي فهو وفق الأشهر وفي الأحوال الطبيعية، يكون أكبر كمية في كانون الثاني، يليه شباط، ثم كانون الأول، بعده آذار، فتشرين الثاني، ثم نيسان، وصولاً إلى تشرين الأول، فأيار الأقل مطراً.
aabdkh@yahoo.com