بغض النظر عن التوصيفات السياسية التي أطلقت على "اتفاق باريس"، فقد أخفقت الدول المشاركة في قمة مناخ باريس مجددا في إيجاد اتفاق عالمي طموح وملزم للبدء باتخاذ إجراءات فورية لتخفيض الانبعاثات وإنقاذ المناخ، كما كان متوقعا.
قد يقال إن ميزة الاتفاق الجديد بالنسبة الى الاتفاق الإطاري الأول حول القضية نفسها الذي أُقر قبل ما يقارب الربع قرن (العام 1992) انه أكثر شمولا، اذ يفترض ان يطال بعد العام 2020 كل دول العالم، غير أن السؤال المطروح هو ما نفع شموليته اذا لم يكن عادلا وملزما ويتضمن تعهدات وقرارات وإجراءات ملزمة وعقوبات ويحمّل مسؤوليات؟ وما يضمن أن لا يكون مصير “اتفاق باريس” شبيها بـ "اتفاق الريو" العام 1992 و “بروتوكول كيوتو” العام 1997؟
قياسا إلى التجارب الماضية، فإن العالم تراجع بدل ان يتقدم في التخفيف من مشكلة تغير المناخ، وبعد أن طالب الاتفاق الأول بخفض انبعاثات البلدان الصناعية المتقدمة خلال عشر سنوات لكي لا ترتفع درجة حرارة الأرض، وهذا ما لم يحصل، أصبح طموح الاتفاق الجديد ان لا ترتفع اكثر من درجتين مئويتين... وان تبدأ الإجراءات التطبيقية العام 2020!
فماذا عن الفترة الفاصلة حتى العام 2020، ومن يضمن معالجة الفجوة الكبيرة الفاصلة بين الأثر الإجمالي لـ "وعود" التخفيف التي تتعهد الأطراف بتحقيقها بحلول 2020 ومسارات الانبعاثات التي تكفل الإبقاء على ارتفاع متوسط درجة الحرارة العالمية دون درجتين مئويتين فوق مستويات ما قبل العصر الصناعي؟
هذا ما لا تجيب عنه “اتفاقية باريس”، خصوصا أن "المساهمات" والتعهدات المقدمة من الدول، بحسب خبراء "اليونيب"، لا تحقق اهداف التخفيف لوقف ارتفاع درجات الحرارة عن حدود درجتين فقط، هذا إذا تم الالتزام بالوعود، فكيف إذا لم تكن ملزمة؟
من الواضح أن الاتفاقية انقذت المتحاورين والدول والمحاور المفاوضة والمنقسمة تقليديا بين البلدان النامية وتلك المتقدمة ولكنها لم تنقذ المناخ. وقد تم تدبيج نص طويل (45 صفحة "فولسكاب" بالعربية) تضمن عرضا للنيات والتمنيات وغابت عنه الالتزامات. نص تسوية يظهر ان الكل رابح ولم يتنازل، إلا أن الخاسر الأكبر هو المناخ والشعوب التي ستعاني من التغيرات المناخية المنتظرة. فالدول المتقدمة ربحت من خلال عدم تضمين الاتفاق الجديد عبارات مثل "المسؤولية التاريخية" للبلدان المتقدمة والتي كان سيترتب عليها دفع تعويضات كبيرة للبلدان النامية وشعوبها. وفي المقابل، ربحت البلدان النامية بمجرد انها لن تكون ملزمة في تخفيض انبعاثاتها إلا بما يناسبها وبعد العام 2020!
الاتفاق "يحث بشدة" البلدان المتقدمة على "رفع مستوى دعمها المالي مع وضع خارطة طريق ملموسة لتحقيق الهدف المتمثل في الاشتراك في تقديم 100 بليون دولار سنويا بحلول عام 2020 لأغراض التخفيف والتكيف"، من بينها دعم تطوير التكنولوجيا ونقلها وبناء القدرات. هذا يعني أن البلدان المتقدمة، إذا قدمت من دعم، فإنها ستدعم نفسها وتكنولوجياتها اكثر من أي شيء آخر، كون الاتفاق لا يذكر ان ذلك سيحصل من ضمن مسؤولياتها التاريخية وضمن تعويضها للدول النامية عن انبعاثاتها التاريخية وأثرها، وان عليها اليوم ان تقدم هذه التكنولوجيا مجانا!
وقد ورد حرفيا في النص الباريسي: "سينفذ هذا الاتفاق على نحو يجسّد الانصاف والمسؤولية المشتركة وان كانت متباينة وقدرات كل طرف في ضوء الظروف الوطنية المختلفة". أي أنه عمليا سيحصل تطبيق حسب ما يسمى "المساهمات الوطنية"، لتجنب اعتماد "إجراءات ملزمة"، على أن يبلِّغ كل طرف عن مساهماته الوطنية كل خمس سنوات، بحسب ما ينص عليه الاتفاق. كما يجوز لأي طرف أن يعدل مساهمته، مع الإشارة دائما الى استخدام كلمة "الطوعية".
وإذ لا يرد أي ذكر للعقوبات في هذا الاتفاق، كما هي الحال في الاتفاقية الإطارية لعام 1992، كرر الاتفاق الجديد العبارة نفسها الواردة في “بروتوكول كيوتو” العام 1997 لناحية إمكانية الانسحاب منه بعد ثلاث سنوات اذ ينص على التالي (في المادة 28 منه): "يجوز لأي طرف ان ينسحب من هذا الاتفاق في أي وقت وبعد مضي ثلاث سنوات من تاريخ بدء نفاذ الاتفاق، بإرسال إخطار كتابي إلى الوديع (الأمم المتحدة)". هكذا انسحبت كندا من “بروتوكول كيوتو” بعد أن أبرمته، وهكذا يمكن ان تنسحب أي دولة يمكن ان تتعارض بنود هذا الاتفاق مع مشاريعها التنموية والاقتصادية. يعني ذلك الفشل في ان يكون الاتفاق شاملا وعادلا وملزما، و"نجاحه" في أن يكون فارغا في مضمونه ولا يحرج أي طرف، لا من ناحية التمويل بالنسبة الى البلدان المتقدمة ولا من ناحية خفض الانبعاثات بالنسبة إلى كل دول العالم، لا سيما النامية منها، كما كانت تتخوف. وهذا ما يمكن ان يفسر الرضا الدولي التام على الاتفاق الذي يرفع مندوب أي دولة اصبعه للاعتراض على أي حرف من حروفه، بالرغم من تدبيجه بأكثر من 40 صفحة وبالرغم من عدم ردمه أي فجوة من فجوات الانبعاثات العالمية... مما يعني زيادة غير متناهية للحرارة والأعاصير والظواهر المناخية المتطرفة!
فجوة الانبعاثات
ما الذي يمكن توقــعه عمليــا بعد “اتفاق باريس” بالنسبة لقضية تغــير المناخ، أي بالنسبة لخفض الانبعاثات التي تسببت بهذه الكارثة العالمية؟
للإجابة عن هذا السؤال، لا يمكن إلا العودة الى تعهدات الدول التي أطلق عليها اسم "مساهمات" والمقدمة إلى اتفاقية الأمم المتحدة الاطارية لتغير المناخ والتي وعدت فيها الدول بتخفيض انبعاثاتها. كانت "اليونيب" قد أعدت تقريرا لتقييم هذه المساهمات المقدمة من الدول تحت اسم "فجوة الانبعاثات" وقد اعتبر بمثابة "تقييم رسمي" أجراه فريق من العلماء البارزين وخبراء من شتى أنحاء العالم. وهو يقدم تقييمًا للمساهمات المقررة المحددة وطنياً البالغ عددها 119 مساهمة والمقدمة إلى اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ قبل تشرين الأول 2015، والتي تُغطِّي 146 بلدًا (تشمل الاتحاد الأوروبي الذي قدم مساهماته بصورة مجمَّعة) ونسبة تصل إلى 88% من انبعاثات غازات الدفيئة العالمية في 2012.
وتمثل المساهمات المقررة المحددة وطنياً خفضًا في انبعاثات غازات الدفيئة بمقدار 4 إلى 6 مليارات طن من مكافئ ثاني أوكسيد الكربون سنويًا في 2030 مقارنة بالانبعاثات المتوقعة بموجب مسارات السياسات الحالية. وتعد تقديرات 2030 بناءً على السياسات الحالية ذاتها أقل بمقدار 5 مليارات طن من مكافئ ثاني أوكسيد الكربون سنويًا من القيمة التقديرية البالغة 65 مليار طن من مكافئ ثاني أوكسيد الكربون والذي يستند إلى سيناريوهات تقرير التقييم الخامس للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ ولا يفترض تنفيذ أية سياسات مناخية إضافية بعد عام 2010.
خلاصة كل ذلك تشير إلى أن جهود التصدي لتغير المناخ، وهي تشمل تلك التي بُذِلَت قبل "اتفاق باريس"، وفي حال حصل تنفيذ كامل للمساهمات المقررة المحددة وطنياً (وهذا شبه مستحيل بحسب التجارب السابقة)، يمكــن أن تُثمر تخفيض 11 مليار طن من مكافئ ثاني أوكســيد الكربون من الانبعاثات المتوقعة في 2030. ولكن هذا يساوي تقريبًا نصف الإجمالي المطلوب للوصــول بمســتوى الانبعاثات العالمية إلى 42 مليار طن من مكافئ ثاني أوكسيد الكربون في 2030 والذي يتسق مع وجود احتمال قوي (أكثر من 66%) للبقاء تحت قيمة درجتين مئويتين المستهدفة في 2100، بحسب خبراء برنامج الأمم المتحدة للبيئة (اليونيب).
ويتمثل التحدي بحسب "اليونيب" أيضا، في تعديل مسار الانبعاثات إلى الأسفل في أقرب وقتٍ ممكن لضمان أن يكون هدف الوصول صافي الانبعاثات إلى الصفر في 2060-2075 ممكن التحقيق. إلا إن "المساهمات المقررة المحددة وطنيا"، هي طوعية في طبيعتها ومن الصعب مراقبتها والتحقق منها، ولطالما اشترطت البلدان المتقدمة على البلدان النامية إيجاد آلية لمراقبة تخفيض انبعاثات الدول كشرط لتقديم المساعدات المالية للتكيف. ولا تزال هذه الدول تمارس التكاذب السنوي في كل مؤتمر ولا تعرف كيف تتقدم في أية خطوة الى الامام. بالإضافة إلى ذلك، لا معنى لهذه "المساهمات" إذا لم تكن مقترنة بالسياسات على مدار السنوات القادمة، والتي تبرهن على مدى التزام الدول الأعضاء في التصدي لهذا التحدي العالمي. ومن يراجع هذه السياسات يكتشف بكل بساطة انها تذهب في عكس الاتجاه الذي يريده المناخ. وتجدر الإشارة الى ان دوائر الأمم المتحدة والدول المؤثرة في المناخ، لا تناقش هذه السياسات المطلوب تغييرها في مؤتمرات المناخ.
لا أمل بخفض الانبعاثات
في الخلاصة، إن تقييم المساهمات المحددة وطنياً على صعيد الجهود الدولية لتحويل مسار منحنى الانبعاثات المستقبلية، ليس كافيا في حد ذاته للحد من ارتفاع درجات الحرارة العالمية إلى مستوى درجتين مئويتــين الموصى بهما في نهاية هذا القرن.
إلا أن اللافت للانتباه في تقرير الخبراء هو القول انه "إذا تم تنفيذ المساهمات المقررة المحددة وطنياً بالكامل، فسوف تظل فجوة الانبعاثات في عام 2030 تبلغ 12 مليار طن من مكافئ ثاني أوكسيد الكربون، مما يضع العالم على مسار يؤدي إلى ارتفاع درجة الحرارة بمقدار 3 درجات مئوية بحلول عام 2100، ويؤدي إلى آثار كبيرة على المناخ". هذا السيناريو يفترض أن الأمم لن تراجع جهودها في السنوات التالية، وتسرع بها، أي في 2025 أو 2030. كما يبين التقرير أوجه عدم اليقين الموجودة في مختلف السيناريوهات بناءً على أفضل الأدلة العلمية المتاحة.
سيناريوهات متشائمة
وبالنسبة لمختلف السيناريوهات الممكنة لفجوة الانبعاثات في 2025 و0203، يمكن استنتاج التالي:
يبلغ مستوى الانبعاثات العالمي الذي يتسق مع وجود فرصة للبقاء دون هدف الـدرجتين مئويتين وباتّباع المسارات الأقل تكلفة بدءًا من عام 2020، 48 مليار طن من مكافئ ثاني أوكسيد الكربون (النطاق 46 إلى 50) في العام 2025، و42 مليار طن من مكافئ ثاني أوكسيد الكربون (النطاق: 31 إلى 44) في العام 2030.
من المتوقع أن تبلغ الانبعاثات 54 مليار طن من مكافئ ثاني أوكسيد الكربون (النطاق 53 إلى 58) في العام 2025، و56 مليار طن من مكافئ ثاني أوكسيد الكربون (النطاق 54 إلى 59) في العام 2030، إذا تم تنفيذ جميع المساهمات المقررة المحددة وطنياً غير المشروطة. وهذا يؤدي إلى فجوة انبعاثات تبلغ 7 مليارات طن من مكافئ ثاني أوكسيد الكربون (النطاق 5 إلى 10) و14 مليار طن من مكافئ ثاني أوكسيد الكربون (النطاق 12 إلى 17) في 2025 و2030 على الترتيب.
إذا تم تضمين المساهمات المقررة، المحددة وطنياً والمشروطة، فإن توقعات الانبعاثات العالمية تبلغ 53 مليار طن من مكافئ ثاني أوكسيد الكربون (النطاق 52 إلى 56) في العام 2025، و54 مليار طن من مكافئ ثاني أوكسيد الكربون (النطاق 52 إلى 57) في 2030. وهذا يؤدي إلى فجوة انبعاثات تبلغ 5 مليارات طن من مكافئ ثاني أوكسيد الكربون (النطاق 4 إلى 8) و12 مليار طن من مكافئ ثاني أوكسيد الكربون (النطاق 10 إلى 15) في 2025 و2030 على الترتيب.
إذا أرادت البلدان التي لم تقدم بعد المساهمات المقررة المحددة وطنياً أن تخفض انبعاثاتها بالنسبة المئوية نفسها للبلدان التي قدمت مساهماتها بالفعل، فإن الفجوة ستضيق بمقدار 0.5 مليار طن من مكافئ ثاني أوكسيد الكربون في العام 2025، ومليار طن واحد من مكافئ ثاني أوكسيد الكربون في العام 2030.
السياسات المطلوب تغييرها
من السياسات المطلوب تغييرها والتي يفترض رصدها في المستقبل كمؤشر على التزام الدول في خفض انبعاثاتها المؤثرة على تغير المناخ:
- تحسين كفاءة الطاقة، مع التركيز بصفة خاصة على الصناعة، والمباني والنقل والتوسع في استخدام تقنيات الطاقة المتجددة لإنتاج الطاقة.
- رصد كيفية حماية الغابات والسياسات الزراعية وإدارة النفايات... التي تعتبر من بين القطاعات الرئيسية الأخرى التي ركزت عليها الدراسات.
- المبادرة لخفض الانبعاثات الناجمة عن إزالة الأحراج وتدهور الغابات، فالتقارير تشير إلى أن فقدان الغابات، وصل إلى 7.6 ملايين هكتار سنويًا، وان الفترة الممتدة بين 2010-2015 تمثل الجزء الأكبر من الانبعاثات الناتجة من استخدام الأراضي.
- تربط التقارير بين إجراءات خفض الانبعاثات الناجمة عن إزالة الأحراج وتدهور الغابات واستعادة مساحات الغابات المتدهورة على نطاق واسع، يمكن أن يُعطي دفعا كبيرا أيضا لإنتاج الطعام ويدعم التكيف مع تغير المناخ.
كما تراهن بعض المراجع في الأمم المتحدة على الإجراءات التي تقوم بها المبادرات التعاونية الدولية مثل "مجموعة المدن الكبرى (C 40) للريادة في مجال المناخ" و "اتفاق رؤساء البلديات" و "مبادرة استدامة الاسمنت"... أن يكون لها أثر كبير على خفض الانبعاثات، مع الإشارة إلى ان الرهان على بعض البلديات والمدن، وان كانت كبيرة، يؤشر من ناحية أخرى على فشل الحكومات والدول، وعلى قطع الأمل منها... وهو مؤشر خطير جدا على مستقبل تحديد الجهود الكبيرة المطلوبة لإنقاذ المناخ.