خاص بآفاق البيئةوالتنمية
الفلاح انسانٌ روحه معلقةٌ بالأرض، وعندما تتعلق الروح بالشيء ينمو الحُب ليُنجب الابداع في سبيل هذا الحُب، وهكذا الفلاح الذي راح يتفكّر في خيرات الارض بحثاً عن برّاد يحفظ له شيئاً من الماء البارد في أيام الصيف الحار، فابتكر "برّاد القرع" ولمّا بحث له عن وعاء يستوعب بركات الارض وثمارها وجد "عروق الزيتون" فصنع منها "القرطلة"، بل إن صاحبنا العاشق لم يتورّع ان يستغل "الخيشة" التي توضع فيها حبّات البطاطا والبصل، ليصنع منها ليفةً للاستحمام ليُعلم العالم أصول الرسكلة Recycling وصداقة البيئة كيفما تكون.
Thermos براد مياه
القرع .. برّاد صديق للبيئة!
للقرع فوائدٌ جمّة تناقلتها الأمم مُنذ القِدم، فهو مفيد في تقوية المعدة ومُزيلٌ للالتهابات ومسكن للحرارة وقد تحدثت عنه كُتب الأولين قبل الآخرين، وقد ذُكر في القران الكريم ولكن ما علاقته بإعادة التدوير؟
قرعة
تذكر لنا نور زكريا التي زارت قريّة بتير في بيت لحم وهي من القرى الفلسطينية التي تتميز بطبيعتها الساحرة وبساتينها العامرة بأن الناس تصنع مع "القرع" حكاية مُلهمة حيث أن بعض القرع يبقى ولا يُقطف فيكبر ويكبر حتى لا تعود القرعة صالحة للأكل لأنها تصبح فارغة من الداخل.
فتؤخذ القرعة ويُصنع فيها فتحة في الرأس ويتم تفريغها من البذور التي تُستخدم مرة أخرى في زراعة القرع، أما القرعة نفسها فيتم تخييط قطعة من القماش عليها من كُل جانب وهكذا تصبح جاهزة لتوضع فيها المياه كي تبقى باردة طيلة وقت عملهم في الحقل.
ولا شك أن هذا الكلام، يتوافق مع الكثير من مبادئ علم الديناميكا الحرارية والفيزياء، وذلك لسُمك جدار الثمرة (القشرة) والذي يُساهم في تقليل الحرارة المتبادلة بين الماء في داخل القرعة وبين الهواء خارجها، هذا الجدار السميك يجعل القرع قابل للتخزين من دون تلف لمدة طويلة، وفوق هذا فإنه ليس للثمار أي رائحة تجذب النمل والحشرات وهذه الصفات كُلها لا تتوفر في القناني البلاستيكية التي نستخدمها نحن اليوم.
من جدير بالذكر، أن الكثير من الرحالة والصيادين يستخدمون "خيشة الرز" لحفظ الاشياء التي تحتاج البرودة اثناء ترحالهم.
فتاة تفتخر بخيشة البصل
من خيشة البصل .. ليفة استحمام خارقة ؟
لعلّنا اليوم لا نُفكر مرتين ونحن نُرمي خيشة البصل او البطاطا في سلّة القمامة، وكأنها لم تُصنع إلا كي تحمل البصل من مصنع التغليف إلى الحانوت وإلى البيت لينتهي "عُمرها" إلى الابد، وبالعودة إلى الهندسة الصناعية وعلم ادارة دورة حياة المنتج (Product lifecycle management) فإن إطالة عُمر المنتج يُمكنه ان يساهم في تقليل الاضرار البيئية لهذا المُنتج، وهو بالضبط ما كانت تقوم به جدّاتنا وهي لا تدري.
في المانيا مثلاً، الاكياس لا تُعطى للناس في الحوانيت بشكل مجاني عادة ويبلغ ثمن الكيس حوالي 9 سينت (حوالي نصف شيقل) وهو ليس رخيصاً، وفي دراسة لوزارة البيئة الالمانية اكدّت ان هذه الأكياس البلاستيكية تضر بالكائنات البحرية كثيراً. وفي آخر دراسة لأثر هذه الاكياس على الحياة البحرية، وُجد أن معظم الاكياس التي عثر عليها في البحر هي اكياس غير مدفوعة الثمن وليست التي قام اصحابها بدفع ثمنها وهذا يكشف لنا حجم اهمية موضوع التخلص من "الأكياس" بشكل سليم وبأقل ضرر على البيئة. وبالنسبة لدولة مثل المانيا بل والإتحاد الاوروبي الذي يسعى جاهداً على تقليل الاكياس أحادية الاستعمال عامة والبلاستيكية بشكل خاص.
فما بالكم عندما يدور الحديث عن "خيشة البصل" او "كيس البطاطا" ؟ الناشطة آية صوفان من ريف مدينة نابلس ارسلت لنا إحدى ابداعات خالتها التي تعمل في الخياطة وقد صنعت ليفة استحمام من كيس البطاطا وتؤكد أن الفلاحين في نابلس يقومون بهذه الأمور البسيطة، وهو ما يدل على اننا لدينا ثقافة جيّدة في اعادة التدوير.
ليفة من خيشة بطاطا
قد يزعم البعض بأن رائحة البصل تؤثر على نظافة ورائحة الجسد عند الاستحمام، إلا ان إحدى المُدونات السعوديّات كتبت نص يبدو اشبه برسالة غزل في "ليفتها" الجديدة:" ليفة خيشة البصل تُنعّم الجسم بحيث انكِ ستجلسين لتأمل أرجلك، فتتساءلين: هل هذه رجلاي فعلاً؟ بعد الاستخدام الخامس فإن جسمك سيبدو عليه الصفاء وستزول الحبوب .. إذا فركت جسمك، سوف ترين الماء يقلب اسودًا كما لو انكِ لم تفركيه ابداً!"
من الجدير بالذكر، أن البعض يستخدم هكذا اكياس لغرض غسل الصحون وليس للاستحمام فقط!
قرطلة
القُرطلة .. سلة من عروق الزيتون
لعلنا اليوم لا نسمع بكلمة قُرطلة كثيراً، بل لعلنا لا نعرف معناها أصلاً، فكيف نعرف حكايتها وعلاقتها بالـ Recycling؟
القُرطلّة وبحسب المُعجم الرائد تعني "سلة من قضبان أو قصب" وبحسب ابو هاني من قرية كُفر نعمة فإن القرطلة تكون من "عروق" الزيتون، وفي حديث معه ضمن برنامج "الله يصبحكم بالخير" على قناة الفلسطينية اوضح كيف يذهب إلى أرضه ويقوم بـ"قشبرة" الزيتون أي استخلاص العروق منها ثم تقنيب هذه العروق بمعنى تهذيبها لتبدأ عملية تصنيع السلّة أو القرطلة بكل صبرٍ وإتقان. ويشير ابو هاني إن الاهتمام بهذه القرطلة في الماضي كان اكبر من الان، بالأخص كونها كانت تستخدم في عملية قطاف الزيتون والتين.
المهم في القرطلة أنها تصنع مما يُسمى علمياً "المخلفات الخضراء" (green waste او حتى garden waste ) وفي حالتنا هذه، هي عروق الزيتون التي تُزال من الشجرة بهدف تحسين المحصول الزراعي والتي يتم تدويرها من خلال استغلالها لصناعة منتوج جديدة وليس لمجرد حرقها لتحصيل الدفء والحرارة، وبحسب تصنيف الاتحاد الاوروبي لعمليات إعادة التدوير فإنه لغرض انتاج منتوج جديد يعتبر افضل من إعادة التدوير "الطاقي" والذي يهدف لإنتاج طاقة حرارية مثلاً من المخلفات، وبالتالي فإن ما يقوم به "أبو هاني" افضل مما تقوم به الكثير من شركات المعالجة الحرارية للنفايات في اوروبا.
المؤسف أن الصناعات البلاستيكية اكتسحت العالم، ورغم وجود اهتمام من بعض الجهات بشراء ما يقوم به ابو هاني وغيرهم من الصناعات، إلا ان أبو هاني نفسه الذي يبلغ من العمر اكثر من 80 عاماً، اكدّ انه وللأسف، لم يجد من أبنائه او احفاده من يأخذ هذه الحرفة عنه وبالتالي، فإن عدم تقدير الأجيال لهكذا تراث مُلهم، سيعرضه للإنقراض لا محالة!
مشروع شلة
ومسك الختام، شيءٌ من الأمل!
فتاة مقدسيّة، طُلب منها أن تقوم بوظيفة ما، فاختارت مجال اعادة التدوير واطلقت على مشروعها اسم "شتلة"، والشتلة هي اعادة لتدوير نفايات صلبة كعلبة النيس-كافيه وقارورة المياه البلاستيكية من خلال تزيينها وزرع وردة فيها، صديقتنا المقدسيّة لم تؤدِ وظيفة مدرسية فقط، بل انها ساهمت في الحد من كارثة "وادي النار" الذي تحولّ من منطقة طبيعية ساحرة إلى حاكورة للمياه العادمة التي تأتي من سلون ووادي الجوز وجبل المكبر في القدس، ولعلك عزيزي القارئ لن تدرك حجم الكارثة إلا اذا زُرت واحداً من اشهر الأماكن السياحية في بلادنا بالقرب وهو دير "مار سابا" لترى الكميّات الهائلة من النفايات الصلبة والمياه العادمة التي تُدمر روح المكان وسحره التاريخي، ولهذا فإن تحويل النفايات التي كانت ستلقى في سلة المهملات إلى تُحفة فنيّة هو ليس مُجرد عمل فني او ترف فِكري، بل اكبر من ذلك بكثير، رُبما يستحق ان يُسمى عمل حضاري أو حتى استراتيجي!
مسنة فلسطينية في برنامج الله يصبحكم بالخير تشرح عن فنون التدوير في التراث الفلسطيني