خاص بآفاق البيئة والتنمية
المتجول في أزقة البلدة القديمة في نابلس يرى جدارية فنية معمارية تعاقبت عليها الحضارات، فتلك الحجارة الكبيرة المصفرة تخبرنا أن أصل الحكاية بدأ في عهد الدولة العثمانية التي كانت تعتمد في حكم نابلس على ثلاث عائلات في حينه، "عائلة عبد الهادي وطوقان والنمر". وبصفتهم حكموا هذه المدينة، فكان لا بد لهم من تشييد القصور لتكون مقرا لإدارة شؤونهم، فتميزت نابلس القديمة بوجود اكبر وأقدم القصور التي مازالت بعض غرفها مأهولة بالسكان حتى اليوم، فقصور العائلات الثلاث، تعتبر عنواناً حضارياً هاما لتراث وأصالة وعراقة نابلس، في الوقت الذي يعاني فيه قصرا طوقان وعبد الهادي من الإهمال والاندثار وسرقة حجارتهما، في ظل غياب دور المؤسسات المعنية، لا سيما وزارة السياحة والآثار.
|
|
احد جوانب قصر طوقان المهدومة |
الإهمال في قصر طوقان |
قصر طوقان بيت الشعراء
ما أن تصل إلى طلعة جامع البيك بين حارتي الياسمين والقريون، تجد نفسك واقفا أمام أقدم معلم تراثي في نابلس تجاوز عمره الـ 300 عام، انه قصر طوقان من أهم المباني التاريخية في مدينة نابلس ويزيد عدد غرفه عن المائة غرفة، يقع إلى الجانب الغربي من جامع البيك، الدكتور عبد الله كلبونة " باحث ومؤرخ نابلسي يقول: "بناه رئيس علماء نابلس إبراهيم بك بن صالح باشا طوقان بتمويل من والده وكان ذلك في القرن الثامن عشر الميلادي، ارتبط بشخصيات تاريخية وأدبية أعطته شهرة كبيرة، وعلى وجه الخصوص ارتباطه بالشاعر والأديب إبراهيم طوقان وأخته الشاعرة فدوى طوقان والشخصية الاعتبارية قدري طوقان.
وعن الطراز المعماري يتحدث: "معماريا يتكون القصر من مساحة ضخمة تقسمه إلى قسمين شمالي وجنوبي على طابقين من البناء، فيه قسم خاص للنساء ويسمى الحرملك وقسم خاص للرجال ويسمى السرملك، ويمتاز القصر بفخامته وتعداد غرفه وسعتها ومداخله المتعددة، مع نظام مائي متطور حيث تتوسط ساحاته البرك المائية، وأشار إلى أن القصر يمتاز بالبستان المحيط فيه ومساحته ثلاث دونمات يضم في زواياه جميع الأشجار المثمرة وخاصة الحمضيات إضافة إلى أشجار نادرة الوجود في فلسطين والعالم.
|
|
اهمال واضح في قصر طوقان |
تحفة تشهد على براعة العمارة العثمانية في قصر عبد الهادي |
قصر عبد الهادي.. حدائق معلقة
تتوسط باحته الواسعة نخلة تجاوز عمرها الـ 200 عاماً وشجرة خشخاش تمتاز برائحة أوراقها المعطرة ومذاق عصيرها الذي لا يقاوم، اختلطت جذورها بجذور شجرة توت عملاقة تستهوي كل الزائرين لالتقاط الصور تحت معرشها، وحسب " كلبونة " فان أصوله تعود إلى الإقطاعي محمود عبد الهادي الذي بناه في حارة القريون، عام 1865 إبان الحكم العثماني، وقد شيد على ارضٍ مساحتها هكتارين، وورث القصر لاحقا عبد الرحيم عبد الهادي.
"معين عبد الهادي" أحد مالكي وساكني القصر رافقنا في جولة في أرجائه وبين غرفه التي يزيد عددها عن المائة، موضحا "أن الطابق الأرضي كان إسطبلا للخيول، والطابق الأول ديوانا لاستقبال الضيوف، وفي عام 1948 تم تحويله إلى روضة أطفال بأسعار رمزية.
ومن عجائب الطابق الثاني انه يشبه الحدائق المعلقة في مصر لوجود أشجار النخيل والتوت والخشخاش والحمضيات، حيث قسم الرجال السرملك، والطابق الثالث "الحرملك" للنساء وهي عبارة عن غرف واسعة مساحتها كبيرة كانت للنوم والطبخ.
|
|
تصدع في اسقف قصر عبد الهادي |
داخل ساحات قصر طوقان |
تدمير التراث.. نهج إسرائيلي
ليس غريبا على إسرائيل استهداف الأماكن التراثية والأثرية في فلسطين والاعتداء عليها، فهذا نهج تتبعه لتغيير معالمها إن لم تستطع فرض سيطرتها عليها.
وقصر طوقان كغيره من المعالم التراثية لم يسلم من تلك الاعتداءات، الأستاذ المحامي طارق طوقان "ابن متولي القصر يقول:" في عام 1967 تم تفجير قسم من غرف الحرملك بحجة وجود مقاومين يتحصنون بالغرف، وقد نسفت قنطرة من قناطر القصر في الانتفاضة الأولى ما أدى إلى تصدع وتشقق وانهيار الكثير من جدران القصر، وخلال الاجتياح الإسرائيلي للمدينة تم قصف أجزاء أخرى من القصر بحجة وجود مطلوبين.
وعن التدمير الذي تعرض له قصر عبد الهادي تحدث كلبونة:" تعرضت أجزاء كبيرة من القصر للهدم من الجهة الغربية اثر الزلزال المدمر الذي تعرضت له نابلس عام 1927، كما تعرض لعملية تدمير وتخريب من قوات الاحتلال أثناء اجتياح البلدة القديمة، علما انه كان وما زال يأوي (11) عائلة، حيث كان القصر مركزا لعمليات جيش الاحتلال الذي شرع منذ بداية العملية على إخلاء القصر وإطلاق القذائف المدفعية نحوه، واستخدموا في عمليات الهدم والتخريب حفاراً ضخم، احدث تصدعات كبيرة في جدرانه وأساساته وتغيير معالمه القديمة، وامتد التدمير ليطال المقبرة الخاصة بآل عبد الهادي.
|
|
درج مهدوم في قصر طوقان |
زاوية من زوايا ساحات قصر عبد الهادي |
إهمال في الترميم
معين عبد الهادي أشار بيده إلى الفتحة الكبيرة التي خلفها القصف الإسرائيلي في الجهة الشرقية من قصر عبد الهادي والتي تحتاج إلى إعادة ترميم، موضحاً انه في كل شتاء يُهدم جزء من جدران وأسقف القصر نتيجة تشققها وتصدعها، وأنهم رمموا ما استطاعوا ترميمه حسب إمكاناتهم المادية، فالقصر بحاجة إلى أموال باهظة لإعادة ترميمه، وطالب وزارة السياحة والآثار ووزارة الثقافة بضرورة متابعة القصر وترميمه لإعطائه الطابع التراثي الذي يميز نابلس.
أما المستأجر في قصر طوقان محمد عبد ربه فوصف القصر بالخرابة موضحا أن مياه الأمطار تتسلل في الشتاء من السقف المتصدع وتسقط على أثاث بيته وأطفاله، وطالب المسؤولين أن يهتموا بترميم القصر ليس من اجل السكان فقط، بل من اجل السياح الذين يزورون القصر يوميا، ويضيف: "إهمال الجهات الرسمية وأصحاب القصر في متابعته وترميمه دفعت السكان إلى بناء جدران إسمنتية داخله، الأمر الذي أدى إلى تشويه جدرانه ومعالمه القديمة بسبب عدم التناسق".
من جهته يرى الباحث كلبونة أن سبب الإهمال في الترميم يعود إلى قلة الوعي بقيمة هذه الأماكن وما تتطلبه عملية الترميم من جهد ووقت ومال وخطط، مؤكدا على أهمية ترميمها إضافة إلى 67 موقعاً اثرياً يتعرضون للتهميش والإهمال.
|
|
سرقة حجارة احد الجدران في قصر طوقان |
سرقة حجارة قصر طوقان |
لصوص الحجارة
مناظر النفايات وأكوام القمامة الملقاة في نواحي ومداخل قصر طوقان وزواياه، تفضح مدى الإهمال الذي يتعرض له، ولم يتوقف الأمر إلى هذا الحد بل تعداه إلى مسالة تدمي القلب كونها أكثر خطورة، تتمثل بسرقة حجارة منقوش عليها تاريخ وتراث بلد ووطن وبيعها، وتشويه الجدران التي اقتلعت منها، وكأن هؤلاء اللصوص لا يعلمون إنهم عندما يبيعون تاريخهم وتاريخ بلدهم يرتكبون أعظم جرائم الخيانة بحق أنفسهم أولا ووطنهم ثانيا.
محمد عبد ربه يقول:" بين الحين والآخر يتعرض القصر لهجوم لصوص الآثار عليه بعد منتصف الليل والعبث بأجزائه وحجارته، وذات ليلة سمعت صوت الحفريات واستخدام معدات ثقيلة في اقتلاع الحجارة من الجدران وقمت بالاتصال بالشرطة ولكنهم نجحوا بالهروب والاختفاء من بين سراديب القصر بعد أن تمكنوا من تدمير نصف الجدار، ولم تتمكن عناصر الشرطة من ملاحقتهم.
|
|
سقف احدى غرف قصر عبد الهادي |
صورة التقطت لقصر طوقان من الاعلى |
تغييب دور الوزارة في نابلس
لعل الباحث في انجازات وزارة السياحة والآثار في بلدة نابلس القديمة لا يجد شيئا ملموسا من شأنه أن يرفع رصيد المدينة على صعيد السياحة العالمية، لا سيما أن نابلس القديمة تعرضت لعمليات تدمير وتخريب من قبل الجيش الإسرائيلي، وحتى اللحظة، لم تحظَ المعالم المتضررة من بينها القصور القديمة باهتمام من قبل وزارة السياحة والآثار، وبشأن ذلك يقول محمود البيراوي مدير دائرة آثار نابلس:" ترجع أسباب ضعف السياحة في نابلس إلى عجزِ في الميزانية مع الاعتماد الكبير على تمويل الدول المانحة فجهود الترميم تحتاج إلى ميزانيات هائلة لا تستطيع السلطة توفيرها في الوقت الذي لا تستطيع فيه تأمين رواتب الموظفين، إضافة إلى عدم توفر أدلاء سياحيين في نابلس يقف عائقا في وجه السياحة".
وحول إعادة ترميم قصور نابلس يضيف البيراوي بأن هذه القصور هي ملك خاص، ومن غير الممكن صرف المال العام في سبيل ترميم منفعة خاصة، كما أن المؤسسات المانحة تدعم ترميم ملكيات الاستخدام العام وليس الملكيات الخاصة، ولا يمكن إعادة ترميم قصر عبد الهادي وطوقان، إلا إذا أمكن استخدامها لصالح المجتمع المحلي كمكتبة أو نادي رياضي أو جمعية نسوية وذلك من خلال اتفاقيات ليصبح للخدمات العامة ".
|
|
فتحة في احدى جدران قصر عبد الهادي نتيجة صاروخ ابان الاجتياحات الإسرائيلية |
في قصر طوقان |
وقف ذري
المهندس نصير عرفات مدير مركز إحياء التراث ومستشار متطوع في بلدية نابلس يقول: "القصور القديمة في نابلس هي عبارة عن ملكية خاصة، وبحكم التشعب أصبح المالكون للقصر بأعداد كبيرة، فنواجه اليوم إشكالية في الإجماع على قرار من أصحابها، وأموال الدعم تأتي للممتلكات العامة وليست الخاصة، وأصحاب القصور يرفضون تحويل أبنيتهم أو أجزاءٍ منها للنفع العام".
وفي ذات السياق أكد المحامي طارق طوقان ابن المتولي على قصر طوقان أنه لا يوجد لديهم أي تحفظ من التعاون مع أي مؤسسة وطنية أو مانحة في سبيل إعادة إعمار الأجزاء المهدمة من القصر وترميمها، وبالتالي تخصيص هذا الوقف الذري "أي القصر" للمنفعة العامة ضمن الإطار القانوني المناسب.
|
|
قصر عبد الهادي |
مدخل درج في قصر عبد الهادي |
دور بلدية نابلس
وفي معرض سؤالنا عن دور بلدية نابلس في ترميم وإعادة تعمير القصور القديمة، بينت المهندسة المعمارية رانية طه العاملة في قسم إعادة إعمار البلدة القديمة، " أن ما يقال عن تقصير البلدية في هذا الجانب لا صحة له، فقد عملت البلدية على مشروع إعادة اعمار وترميم للمناطق الأثرية منها المدرج الروماني ومواقع أخرى بعد أن تم الاتفاق مع المالكين، على استبدال ملكياتهم بملكيات أخرى وتعويضهم وتحويل هذه المواقع للملكية العامة.
وعن الآلية التي تتبعها البلدية في الترميم تقول طه:" نعطي الأولوية في الترميم للمباني المتضررة بشكل كبير والمأهولة بالسكان، حيث يؤدي عدم ترميمها إلى تضرر المباني المجاورة والملاصقة، وقد قمنا بترميم واجهات قصر عبد الهادي لأنها تطل على الحق العام والشارع".
وعن المعيقات التي تواجه البلدية في الترميم أشارت طه إلى أن بعض القوانين لا تساعدهم على ترميم آثار البلدة القديمة حيث لا يسمح للبلدية بترميم مواقع لها ملاّك دون موافقتهم، إضافة إلى تعدد الملكية، فتقسيم الآثار بين الملاّك يمثل عائقا رئيسيا في الترميم، عدا عن الإهمال الكبير من الملاك أنفسهم وعدم وعيهم بأهمية الحفاظ على هذه المواقع الأثرية، موضحة أن البلدية لا تمتلك ميزانية ثابتة لإعمار هذه المواقع وتعتمد بشكل كبير على المنح والتمويل الخارجي."
|
|
مشاهد الدمار ابان الاجتياحات الاسرائيلية مازالت حتى اليوم في غرف قصر عبد الهادي |
مشهد داخل ساحة قصر طوقان |
مسؤولية الإعلام
بدوره أبدى عطوفة محافظ نابلس أكرم الرجوب استعداده لتبني خطة عمل بناءة وشاملة بالتعاون مع وزارة السياحة والآثار والمؤسسات صاحبة الاختصاص لإعادة أحياء وترميم معالم نابلس التراثية، مشيرا إلى المسؤولية الكبيرة التي تقع على عاتق الإعلام، فمن الضروري أن يساهم الإعلام الخاص والحكومي على ترسيخ هذه المعالم التراثية في عقول وقلوب الناس، وتقريب المواطن إلى تراثه ونقله إلى كل بيت من خلال الشاشة الصغيرة."
|
|
من داخل قصر عبد الهادي |
منظر غير حضاري في قصر طوقان |