أم علي.. لقمة العيش.. والقدس
فاكهة بلدية تسوقها الفلاحات الفلسطينيات في القدس
خاص بآفاق البيئة والتنمية
في الصباح الباكر، تستعد أم علي "الفلاحة" لمحنتها اليومية من أجل كسب لقمة العيش، فإما أن تشتري بعض الخضراوات والفاكهة من مزارعي القرية، أو أن تأخذ من المحاصيل المزروعة في حقلها المجاور لبيتها. وكما هي العادة، تتفق مع سائق التاكسي على إحضار المنتج الزراعي إلى القدس حتى لا تتم مصادرته منها عند الحاجز إلى القدس إن هي أحضرته بنفسها. وتستطيع أم علي عبور الحاجز إلى القدس لأنها تناهز الخمسين عاما، وتنتظر الآن وصول المنتجات التي يتوجب عليها بيعها. وهنا يبدأ يوم هذه "الفلاحة"، كغيرها من النساء البائعات الآتيات من مناطق وقرى مختلفة في فلسطين.
يمر العديد بقرب النساء البائعات الجالسات على الأرصفة في البلدة القديمة بالقدس، كاللواتي يجلسن عند باب العامود. وربما يتساءل بعض المارة عن وضعهن. فمن أين يأتين كل يوم؟ وما هو مصدر هذه المنتجات الزراعية؟ ولا بد من أنهن تواجهن العديد من المصاعب اليومية للقدوم إلى القدس؟
تأتي معظم النساء من قضاء بيت لحم والخليل والقرى المجاورة مثل حلحول، وبيت أمّر، ودورا، والخضر، وبتّير، فتجلبن المنتجات الزراعية المراد بيعها من مكان سكنهن. وتقوم بعضهن بزراعة هذه المحاصيل بأنفسهن. ولكن معظمهن تشترين المنتجات من الباعة أو المزارعين في قراهن. وتحرص النساء على توفير باقة متنوعة من المنتجات الزراعية، ولا تستطعن زراعة جميع المحاصيل لديهن. ولذلك، تأخذ النساء المنتجات المتوفرة من أراضيهن، وتشتري أكثرها من البائع في القرية. فعلى سبيل المثال، تقوم أم علي، "الفلاحة" القادمة من بتّير في قضاء بيت لحم، ببيع الباذنجان "البتّيري" والكوسا والتين والتي قامت بزراعتهم، ولكنها تشتري المنتجات الأخرى، كالخوخ والملوخيّة، من مزارع في بتير.
وأما بالنسبة للأساليب الزراعية المستخدمة، فهي متشابهة لدى معظم "الفلاحات". وتقوم معظمهن باستخدام السماد العربي الطبيعي. بالإضافة إلى ذلك، تستخدمن المبيدات الحشرية أثناء فترة الإزهار فقط، أي أثناء تكون الثمار. ولا يُستخدم المبيد الحشري على جميع المحاصيل الزراعية، بل على محاصيل محددة فقط. وأوضحت أم علي من بتير أنها لا تقوم باستخدام المبيدات الحشرية الكيماوية على الباذنجان، ولكن يتم وضع السماد العربي على الأرض قبيل موسم الزراعة. وأما الخوخ الذي تبيعه أيضا، فيتم وضع المبيد الحشري أثناء فترة الإزهار - "رش النوارة" فحسب.
غالباً ما تكون أكثر المصاعب التي تواجهها النساء "الفلاحات" ليست بالمشاكل الاقتصادية، بل تتشكل من صعوبة دخول القدس. وبما أن معظم "الفلاحات" يتجاوز عمرهن الخمسين، فتتمكن من عبور حاجز الاحتلال الإسرائيلي للدخول إلى القدس. ولكن التحدي الأكبر يكمن في إدخال المنتج الزراعي "بالتهريب" داخل القدس حتى تتمكن من بيعه. فتروي إحدى "الفلاحات" من حلحول كيفيّة تغلبها على هذه المشكلة. قبيل مغادرة حلحول في الصباح الباكر، تتفق "الفلاحة" هذه مع سائق تاكسي بإحضار منتجاتها. وبعد أن تحرص على التقاءه في مكان محدد داخل القدس، تقوم بعبور الحاجز لوحدها وتنتظر وصول التاكسي متأملةً بنجاح السائق في "تهريب" منتجاتها. وأحيانا لا ينجح السائق في المرور، فتضطر الرحيل لمعاودة الكرة في يومٍ آخر.
فلاحة في شارع صلاح الدين في القدس المحتلة
الفرار من مفتشي البلدية
وفور تخطي هذه المرحلة، ينتظر نساء القدس "الفلاحات" تحدِ أكبر وهو الفرار من مضايقات بلدية الاحتلال لهن؛ إذ أن الأخيرة تعتبر من غير القانوني أن تبيع النساء المنتجات الزراعية في الشارع وعلى الأرصفة دون إذنٍ أو ترخيص. ولذلك، يقوم مفتشو البلدية بالمرور يومياً في شوارع القدس ومصادرة جميع منتجات "الفلاحات" إذ وجدن يبعن في الشارع. وبهذا يذهب عمل النساء بهذا اليوم سدى، فتضطررن إلى مغادرة المنطقة. وخوفاً من مضايقات البلدية، تأتي الكثير من النساء البائعات يوم السبت فقط، ذلك لأن يوم السبت العطلة الأسبوعية للبلدية. ولهذا السبب، نجد شوارع القدس تعج بالباعة المتجولين و"الفلاحات" مقارنة بباقي أيام الأسبوع.
هذه حالة أم علي التي تأتي مع زوجها من بتّير يومي الجمعة والسبت فقط. وفي اليوم الأول، تحرص على البيع في مكان واحد لفترة وجيزة ومن ثم الانتقال إلى مكان آخر حتى لا تقوم البلدية بملاحقتها ومصادرة منتجاتها.
بعد شراء بعض المنتجات من بائع القرية، ومرور الحاجز للقدس، وإدخال المنتج الزراعي، وتخطي المصاعب من البلدية، تجلس أم علي أخيراً في إحدى مناطق الظل على أرصفة الشارع، وتحيط نفسها بسلال الخضراوات والفاكهة، تبدأ بمنادة المارة للشراء منها. وفور اقتراب أحد المارة، تشجعه على الشراء مؤكدةً على جودة المنتجات لديها: سماد طبيعي، وغير مرشوش، و"من عندي أنا زرعته". وإذ وافق المتسوق على الشراء، تشجعه على أخذ كمية أكبر أو شراء نوعٍ آخر من الخضراوات والفاكهة لديها. "بس كيلو؟ يلّا خذ كيلو ونص أحسن!"
 |
 |
الفاكهة والخضار البلدية في شارع صلاح الدين بالقدس المحتلة |
فلاحة فلسطينية تسوق إنتاجها البلدي في القدس المحتلة |