ما علاقة المطالب البيئية بالسياسة؟ هو السؤال الذي تسأله بعض الاتجاهات المتحمسة والمتسرعة في الحراك الشعبي والمدني. ليس هذا الاتجاه مستغربا جدا في تاريخية الحركة البيئية. فثقافة الابتعاد عن السياسة واعتبار الاتكال على الحملات الخاطفة هي الثقافة التي روجت لها حملات "غرينبيس" العالمية عبر تاريخها، وقد تأثر بها شباب كثر في كل انحاء العالم.
فإذا كانت الحملات هي للفت الانظار إلى القضايا او المشكلات كما في الحراك المدني الأخير حول قضية النفايات وانتشار روائحها المتجمعة والمتراكمة في الطرق، فما كان هناك من حاجة الى ذلك، لأن الرائحة هي نفسها تقوم بهذا الدور. أما إذا كانت للإزعاج والإحراج، فهذا معقول ولكنه غير كاف للضغط باتجاه إيجاد الحلول، لا سيما المستدامة منها، أو للتغيير بشكل عام.
وقد نجحت منظمات مثل "غرينبيس" في لفت الأنظار في حملاتها الى قضايا صغيرة وإجبار مؤسسات على القيام بإجراءات صغيرة محسنة لنشاطها الإنتاجي، إلا أنها لم تنجح في تغيير الانظمة والاقتصاديات المؤثرة سلبا على الانظمة البيئية وعلى ديمومة الموارد، بدليل استمرار التدهور البيئي وحال الكوكب على جميع الاصعدة. فهل يعني ذلك أن من طالب بتغيير النظام في لبنان على الطريق الصحيح اكثر من الذين اكتفوا بالمطالبة برفع النفايات من الشوارع واستقالة الوزير المسؤول؟
يصبح اتجاه الطريق صحيحا فعلا إذا تنظّم الحراك أكثر بشكل ديموقراطي وأنتج أفكارا وخلفيات فكرية أكثر شمولية ودرس البدائل جيدا واقترحها بالتشاور مع اوسع شريحة من المفكرين والمناضلين المستقلين (دائما) وأصحاب الخبرات...الخ.
انتشرت الحملات والحركات في العالم كبديل عن الثورات والإيديولوجيات والأفكار والأحزاب المسماة شمولية. كما تم الترويج للأفكار الصغرى بديلا عن الأفكار الكبرى، لا سيما بعد ان اعتقد البعض ان تلك الافكار قد فشلت في ان تتحقق واقعا ملوثا في انظمة. إلا أن المشكلة بالأفكار الكبرى ليس لأنها كبرى ولا لأنها كانت فاشلة أثناء التطبيق وأثناء ترجمتها في أنظمة سياسية واقتصادية كما يظن البعض، بل لأنها لم تكن كبرى كفاية ولا شمولية كفاية ولا اخذت وقتها لتنضج بالطرق الديموقراطية القائمة على الحجة القوية والإقناع وبناء الثقة. وهذا ما عوضت عنه الايدولوجيا البيئية التي دافعت عن شروط الحياة وديمومتها والتي تهدف الى الحفاظ على مقومات هذه الحياة كمصلحة عليا للنوع الانساني والتي تتجاوز الصراعات والمصالح التقليدية. فأين هم حملة هذه الايدولوجيا البيئية في الحراك الأخير، هذه الايدولوجيا الثورية في طبيعتها وفي نشأتها التكوينية؟
حراك مدني
لذلك كان هناك من معنى للجدل الذي حصل بين المجموعات المكونة للحراك المدني الأخير حول علاقة البيئة بالسياسة وبين قانون الانتخاب وقضية النفايات على سبيل المثال. كما أن هناك علاقة بين حل مسألة النفايات والخيارات المركزية واللامركزية والدور المفترض أن تقوم به البلديات. ولكن بأي معنى هناك علاقة بين البيئة والسياسة وكيف؟ فلو لم يكن قانون الانتخابات النيابية وتقسيمات الدوائر الانتخابية مقسما على أسس مناطقية وطائفية لما حصل كل هذا الهرج والمرج في اختيار مواقع المعالجة. فليست الشروط الفنية هي التي حددت مواقع المطامر في بيروت وجبل لبنان، بل انتخابية. فبعد انتهاء الحرب الأهلية وإعادة اعمار الوسط التجاري وإقفال مكب النورمندي، تم اختيار مكب برج حمود على حدود بيروت لأسباب انتخابية في جانب كبير منها لأن دائرة المتن كانت منفصلة عن تقسيمات بيروت في تلك الفترة.
ثم ان اقفال مكب برج حمود والانتقال إلى مطمر الناعمة جاء العام 1997 لأسباب انتخابية ايضا. فضغط حزب الطاشناق بقدراته الانتخابية والتجييرية شكل العنصر الحاسم على الخيارات السياسية آنذاك، كما شكل رفض حزب الطاشناق نفسه (ومن ثم نواب المتن) لخطة وزير البيئة الحالي محمد المشنوق في معالجة مكب برج حمود وتحويله حديقة عامة وإنشاء معامل في المنطقة للفرز والتسبيخ كبديل مسبق وأساسي عن مطمر الناعمة، النكسة الأساسية للخطط البديلة والتسبب بتفشيله ووضع خطط متسرعة ومناقصات ودفاتر شروط فاشلة ايضا والتسبب بالقسم الاكبر من الازمة الحالية.
وزارة الييئة!
في الحصيلة، وبعيدا عن ضجيج الشارع والإعلام المرئي في الفترة الأخيرة، شكل انسحاب وزير البيئة من ادارة ملف النفايات نكسة كبيرة لدور وزارة البيئة في إدارة الملفات البيئية. وقد تذكر البعض عندما استقوى وزير الداخلية والبلديات ميشال المر وطلب إلغاء وزارة البيئة، لإحساسه بفائض القوة آنذاك (قوة سلطة الوصاية)، ولاعتقاده أن مشاكل البيئة في لبنان تختصر بمشكلة النفايات التي تدفع كلفة معالجتها من البلديات ومن الصندوق البلدي المستقل، ومشكلة المقالع والكسارات التي تراقب اعمالها وزارته... لم يتصدَّ له احد لا من النواب ولا من الوزراء آنذاك.
وزير البيئة في تلك المرحلة، ارتور نظريان، الذي كان قد وهب جزءا من صلاحياته لمدير عام البيئة برج هتجيان، لم يشأ هو أيضاً التعليق! آنذاك كتبنا مقالاً تحت عنوان "دفاعا عن الوزارة"، لقناعتنا أنها وزارة ضرورية وان مهمتها الرئيسية هي في وضع إستراتيجية للتنمية المستدامة، يكون لها وصاية على باقي الوزارات وليس العكس. وهنا تجدر الإشارة الى ما كنا قد حذرنا منه سابقا، وهو أن الخلاف بين الوزير والمدير العام في وزارة البيئة، وعلاقة الأخير السلبية مع معظم الموظفين تشكل خطرا كبيرا على ادارة الملفات كافة وستؤدي الى كارثة تجب معالجتها. وإذ لم يبادر احد الى معالجة هذا الخلل البنيوي داخل وزارة البيئة نفسها، فيؤكد البعض أن تحريض المدير العام ضد مشروع الوزير الأصلي في معالجة مكب برج حمود، كان له الأثر الكبير في إفشال الخطط وفي الوصول إلى الأزمة الحالية.
تأجيل
بالإضافة إلى ذلك، عنّد وزير البيئة كثيرا في تأجيل مناقشة الأفكار الإستراتيجية (كما كان يفعل الوزراء السابقون والمدير العام الدائم نفسه). كما لم يقصر بعض مستشاريه في عنادهم ايضا في اصرارهم على ان المسألة تقنية والحل كذلك، وقاتلوا كل من ناقشهم بضرورة الأخذ بالاعتبار المعطيات الاجتماعية والنفسية (كترميم عنصر الثقة المفقود) والسياسية بالإضافة إلى التقنية. كما لم يقتنع الوزير بأن الرهان على استراتيجية عادلة أهم من الرهان على وعود سياسية بتمرير مشاريع الحلول التي يسميها البعض "مشاريع صفقات"، ما أنتج خططاً ودفاتر شروط ومناقصات فاشلة، أوقعت البلاد في الأزمة...الخ.
نحن الآن أمام مرحلة يتم البحث فيها عن الحلول الأقل ضررا، في ظل حالة من الفوضى لا مثيل لها، كثر فيها "خبراء البيئة" وتحول الكثير من اصحاب الجمعيات البيئية إلى مستثمرين منافسين، وأصبح باعة الكرتون مخططين والمغنون منظري الثورة...! فما هو المقترح حاليا من خطط قريبة وبعيدة المدى؟ وأين سينتهي الحراك المدني اذا لم يتسلح بالأفكار الإستراتيجية والخلفية الفكرية الشاملة واللازمة؟