خاص بآفاق البيئة والتنمية
"استغاثة ابن جيرانه ببيطري لمعالجة قطته المريضة واستهتار الأخير بهذا الطلب، والنتيجة موت القطة لأنها وفق الطبيب لا تستحق الاهتمام...!" قصة منذ أكثر من أربعين عاماً لكنها تركت حينها أثراً في نفس الطفل طه الرفاعي الذي قرر فيما بعد أن يدرس هذا الطب ويتخصص فيه ويعمل لسنين طويلة في حقل حيوانات المزرعة. ولأجل القطط والكلاب، قرّر منذ عامين افتتاح أول عيادة متخصصة في رام الله، إضافةً إلى تأسيس جمعية للرفق بتلك الحيوانات التي ذاقت صنوفاً من العذاب بسبب الإساءة المتعمدة والإهمال.
من عيادته الكائنة في الطابق الأول من منزله في حي الطيرة غربي رام الله، كان هذا اللقاء المختلف عن أي لقاء آخر، فالجلوس في العيادة يعني إحاطتك بمجموعة من القطط الودودة جداً والمنفتحة على الضيوف، والتي تتسابق في الجلوس في أحضانك ومداعبتك برأسها، والسبب وفق الطبيب الرفاعي هي المعاملة الحسنة التي وجدتها بالعيادة، فجعلتها تؤمن بأن كل البشر طيبون.
الطبيب البيطري حتى النخاع
ويلفت نظر الزائر لعيادته التي تفوح منها رائحة المواد المعقمة، أنواع القطط المختلفة من بلدي، شيرازي، سيامي، ومصري...، كما يلحظ بعض الحالات الخاصة التي تبدو جليّة على القطط، فواحدة عرجاء بثلاثة أطراف فقط، وأخرى عمياء تجاورها قطة ساقها مشلولة وقطط أخرى رضيعة عمرها أيام، وأخرى عليها آثار جروح، ومن النافذة تلمح عشرات القطط تستلقي آمنة مطمئنة في حديقة المنزل.
من يقرأ سيرة د.طه الرفاعي يجدها غنية بالشهادات العلمية وسنوات الخبرة بهذا العلم، فمن البكالوريوس في الطب البيطري من جامعة حلب، والماجستير في الصحة العامة من جامعة بيرزيت، أضف إليهما سنوات من العمل في الطب البيطري في الولايات المتحدة، والمسلخ البلدي في بلدية البيرة، واتحاد لجان العمل الزراعي والإغاثة الزراعية كطبيب بيطري، مع العديد من الدورات التدريبية في الخارج، وأخيرا افتتاح عيادته المتخصصة الأولى على مستوى الضفة الغربية.
يشاركنا د. طه في بداية حديثه عن تجربته الأخيرة التي يعتبرها بالغة الأهمية حيث تلقى تدريباً لمدة شهر في مستشفى للكلاب والقطط في ألمانيا متخصص في علاج أمراض السرطان وجراحة العظام والمفاصل وعلم الفيزوثيربي (العلاج بالمياه). يقول عن تلك التجربة وهو يمسح بيده شعر قطة سيامية سمراء الوجه والأطراف، وسكرية الجسد: "كانت فرصة مهمة للتعرف على طرق حديثة في العلاج من مجتمعات متقدمة قطعت شوطاً كبيراً في علم الحيوان ورعايته".
حول الطب البيطري يقول د. الرفاعي" أساس الصحة العامة هو الطبيب البيطري المسؤول عن حيوانات المزرعة التي تؤمن النسبة الأكبر من غذاء العالم، وبالنسبة للكلاب والقطط فهي أصل الطب البشري، وعليها تتم تجربة العقاقير المختلفة لاستخدامها لاحقاً من أجل الإنسان، ولها تُخصص المستشفيات وتنفق الميزانيات. وأضاف د. طه أن للحيوان أهمية في الأدب العربي فقد ألّف عنه الجاحظ كتابا كاملا "الحيوان" كما في التاريخ العربي الإسلامي قصصٌ عديدة عن الرفق بالكلاب والقطط، ويكفي أن نتذكر الصحابي المسلم "أبو هريرة" الذي لقب بذلك لحبه للقطط التي كانت تتدثر في كمي عباءته.
"بعد افتتاحي للعيادة رسمياً، نقل الكثير من رواد عيادات القدس وإسرائيل علاج حيواناتهم من هناك إلى عيادتي، وحسب ما أسمع فهم راضون بالخدمة التي تؤمن لحيواناتهم كل أنواع العلاجات من البسيط إلى الجراحة". تساعد د. طه زوجته المهتمة بالحيوان، وهي سيدة لاتينية من نيكارجوا حيث تضيف مع خبرة زوجها ما تعلمته من علم بالحيوان في الجامعة، فتساعده في العيادة وتختار لقططه الذين تجاوز عددهم السبعين أسماءً مختلفة.
 |
 |
القطة الضريرة التي أسعفها د. طه |
د. طه مع قطته ذات الثلاث أرجل |
في خصوصية الكلاب والقطط الفلسطينية
يستهجن الطبيب صاحب الخبرة التي تزيد عن 35 عاماً، احتقار الكلب البلدي وتوجه البلديات لقتله وتسميمه ورغبة الكثير في انتقاء الكلاب الدخيلة علينا ككلاب "الهسكي، الشيبرد، شي واوا...، مشيراً إلى أن الاحتلال وحين استعمر فلسطين وأعلن دولته ما بعد النكبة، اظهر لهذا الحيوان اهتماماً كبيراً فدرس صفاته وأسماه بـ "كنعان..كلب إسرائيل الوفي"، حيث وجدوا فيه الشجاعة واستخدموه في الحراسة الأمنية واقتحامات المناطق ونقل الألغام من منطقة لأخرى، وهو ذات الكلب الذي وصفه العرب بأدبياتهم وأشعارهم "أوفى من كلب".
أما قطط فلسطين فهي من وجهة نظر د. طه من أجمل القطط، وما يميزها أنها مهجنة منذ مئات السنين من أنواع المختلفة فنجدها تجمع بين السيامي والشيرازي والبلدي والمصري، عدا عن اتصافها بالقوة والنشاط، وفي المقابل ونظرا لوجود الكثير من الأجانب في رام الله فيجدهم د. الرفاعي حريصين على تربية البلدي لتميزه، ولتقديرهم لهذا القط فعند رحيلهم يصطحبونه معهم إلى بلدانهم.
أثناء اللقاء، تقفز على مكتبه قطة شيرازية رمادية اللون من صاحبات الوجوه المربعة والأنوف العريضة، قصتها أنها كانت تبول لا إراديا فانزعج منها أصحابها فجاءوا بها إلى د. الرفاعي لكي يعالجها ولاحقاً يتبناها، فاعتقد بدايةً أن حالتها تلك بسبب موسم التزاوج وفطرة الحيوان في ترك اثر من خلفه، إلا أن المشكلة الحقيقية وبعد تصوير القطة بصورة أشعة فقد تبين أنها بسبب الرمل في المسالك البولية، ولذلك سيخضعها قريباً لعملية قسطرة في المثانة لعلاج حالتها.
القطط والكلاب يسعدون جدا بأصحابهم، والفرق بينهم أن الكلب لا يمكن في لحظة الغضب أن يؤذي صاحبه، فيما القطة سريعة الغضب وأحياناً تكون ردة فعلها مؤذية ومخيبة لصاحبها في حال كانت منزعجة من أمر ما.
 |
 |
د. طه يطعم القطة الوليدة التي فقدت أمها حليبا |
د. طه يتحدث مع قطته |
لا لقتل الكلاب الضالة
أثناء سنوات خدمته في بلدية البيرة ومؤسسات المجتمع المدني الأخرى، عمل في وحدة البيطرة واشرف على علاج حيوانات المزرعة، وفيما يتعلق بقتل وتسميم الكلاب الضالة -والتي كانت سياسة عامة يضعها المجلس البلدي بالتعاون مع وزارة الزراعة "الجهة التنفيذية"، وذلك حتى السنوات الأخيرة حيث أخذت البلديات عاتق مكافحتها بالقنص أو التسميم- فطالما ابدي اعتراضه على هذه الطريقة كموظف في بلدية البيرة، لكن دائماً ما كان يجابه بسؤال آخر "ما البديل، قدم لنا حلاً عملياً ونحن جاهزون!".
يؤكد د.طه أن عملية تحويل الكلاب الضالة إلى آمنة ليس بالأمر العسير لأي بلدية، وذلك عبر توفير قطعة أرض وتأمين عدة أطباء بيطريين يقومون بتطعيمها وتعقيمها لمنع تكاثرها أو اختيار طرق موت رحيمة للمريض منها.
عملية تسميم وقنص الكلاب وفق د. طه هي عملية غير إنسانية، تسبب العذاب للحيوان قبل موته، فالتسميم يسبب آلاماً مبرحة تشمل تقلصات في العضلات وضربات عنيفة للقلب تستمر لربع ساعة قبل وفاة الحيوان، فيما تؤدي عملية القنص إلى جرح الحيوان أحيانا وليس قتله مباشرة، ما يسبب له عذابا شديداً، كما وصلت د. طه شكاوٍ من أن بعضاً ممن ينفذون عمليات القتل يلجأون لضرب الكلاب بالعصي حتى الموت.
جمعية تنتظر التفعيل
ولفت د. الرفاعي وهو صاحب جمعية حديثة التأسيس تعنى بالرفق بالحيوان تنتظر توفير قطعة ارض ومصدر تمويل لإقامة مأهل للكلاب في رام الله: "يجب القضاء على موروث موجود لدى كثير من أطفالنا وهو حب تعذيب الحيوان وكأنه حشرة لا قيمة لها، سنسعى من خلال جمعيتنا إلى تخفيف هذا السلوك المؤذي للحد الأدنى خلال 10 سنوات القادمة". تحدث متفائلاً.
وتهدف جمعيته التي تتوفر صفحة لها على الفيسبوك إلى العمل على حماية البيئة، ورفع الوعي بها والمستوى الثقافي للمواطنين حول أهمية التعامل مع الحيوان بإنسانية ورحمة، والعمل على الحفاظ على الصحة العامة ومكافحة الأمراض التي تنتقل بين الحيوانات والبشر من خلال توفير الرعاية الإنسانية للحيوانات، والتعامل مع الحيوانات الضالة بطريقة تتفق مع المعايير المحلية والدولية للصحة العامة والإنسانية.
"أحزن حين اسمع أن طبيباً بيطرياً يدافع عن سياسة القتل والتسميم، فإن عجز عن إيجاد حلول فعليه إن يصمت ويحترم مهنته التي درسها". يقول الرفاعي وهي يسقي الحليب لقطة عمرها أيام وجدها مع أختها ملقاتين على قارعة الطريق بعد أن توفيت أمهما، فأخذهما ليراعهما في عيادته.
 |
 |
د. طه يعمل في عيادته البيطرية |
د. طه يعتني بأكثر من 60 قطة في حديقته |
عيادة وحاضنة في ذات الوقت
يربي د. الرفاعي قطتين في داخل منزله من النوع البلدي، وعشر في عيادته و60 في حديقته ، كما يربي على السطح كلبين، وجميعهم قام بعلاجهم وتبنيهم منذ الصغر، وكثيرٌ منهم أنقذها من الموت.
من تلك القصص، حادثة القطة العرجاء بسبب قطعٍ في طرفها الخلفي أحدثه ماتور سيارة تحرك بفعل اشعالها بالمفتاح، حيث كانت نائمة بداخله بحثاً عن الدفء أثناء العاصفة الثلجية التي ضربت المنطقة قبل عام، فجلبها أصحاب السيارة تنزف الدماء لـ د.طه، الذي قام على الفور بإنقاذ حياتها عبر بتر قدمها. القطة الآن تلهو سعيدة في المكتب بثلاثة أطراف.
وقصة أخرى عن عمياء أصيبت بفيروس ينتشر لدى قطط الشوارع، وذلك في سن صغير، حيث وجدها على قارعة الطريق تتألم وضعيفة فأنقذها من الموت، ولكنها فقدت بصرها لأن حالتها كانت مستفحلة. اليوم تعيش القطة سعيدة في العيادة التي تحفظ تفاصيلها غيباً، ولحياة بلا مشاكل فقد قام بإخصائها حتى لا تحتاج إلى الخروج من العيادة وتتعرض للأذى، وأخرى تعرضت لحادث سيارة في رجلها فقام بتجبيرها وهي الآن تسير وتقفز.
ينفذ د. طه الذي يستقبل كل يوم من 5-7 مراجعين بما نسبته 60% كلاب و 40% قطط، عمليات إخصاء للذكور وتعقيم للإناث كلاباً وقططاً، وعند سؤاله عن مدى أخلاقية تلك العمليات كونها تحرم الحيوان من ممارسة حقه الطبيعي في الحياة، أجاب: الحيوان لا يهتم بابن يحمل اسمه كالإنسان، لذلك الموضوع عنده ليس قراراً ورغبة، بل أمرا مفروضاً عليه أن ينفذه وإلا يتألم، وهذا ما يحدث حين لا يوجد شريك. وكذلك القطة في تربية صغارها فإنها تحضنهم لسن معين وبعد شهرين تطردهم وقد تؤذيهم ليعتمدوا على أنفسهم. وبالتالي فإن الحل لراحة الحيوان في تعقيمه حيث أن معظم وفيات الإناث في سن صغير من سرطان الرحم والمبايض، عدا عن مخاطر العيش في الشوارع والأذى المحتمل من الإنسان.
من أحد الأسباب التي جعلت د. طه يترك عمله في مؤسسات المجتمع المدني ويخصص وقته للعيادة، هو النقص في عدد الأطباء البيطريين المتخصصين بعلاج الكلاب والقطط ، حيث يتخصصون بعلاج حيوانات المزرعة من دواجن ومواشي، ما يجعل حيوانات المنزل الأخرى في دائرة التهميش.
 |
 |
عيادة د. طه الرفاعي |
كل قطة بحاجة الى رعاية في الحي، تجد مبتغاها عند د.طه
|
التوكسوبلازما والقطط
يشرح د. الرفاعي عن الفيروس المرتبط بالقطط مشيراً إلى أنه مرض طفيلي وليس فيروسي أو بكتيري يسببه طفيل وحيد الخلية، وهذا المرض يصيب الإنسان والعديد من الحيوانات وليس القطط فقط، ولكنه ارتبط بالقطط كونها العائل الوحيد المعروف الذي يستطيع الطفيل أن يكمل دورة حياته في جدار أمعائه، وان ينتج ملايين البويضات التي تخرج مع البراز، وتتحور وتصبح معدية للإنسان والحيوان في حالة وصولها إلى داخل جسمه عن طريق البلع من خلال الفم..
يصاب الإنسان والحيوان بمرض التوكسوبلازما ويشفى بالعادة بدون ظهور أية أعراض مرضية، ولكن المرض له خطورة على نوعين من البشر الأول: المرأة الحامل الذي قد يؤثر على صحتها وصحة جنينها، والثاني هو الإنسان الذي لديه جهاز مناعة عليل وضعيف كالإنسان المصاب بمرض الايدز مثلا أو الذي يتعاطى أدوية تثبط من فعالية جهاز المناعة لديه مثل الكورتيزون.
لا خطر حقيقي على الإنسان
واحتمالية أن تنقل العدوى من القطط المنزلية إلى الإنسان، وفق تأكيدات د.الرفاعي، هي احتمالات ضعيفة جداً، حيث أن القطط بالعادة تمرض بالتكسوبلازما من خلال تناولها للحوم حيوانات تحمل المرض أو اصطيادها لطيور تحمل المرض، الإنسان غالبا لا يصاب بالمرض عند لمسه قطة مريضة أو إذا تعرض لعضة قطة أو لخرمشة قطة، لان المرض لا ينتقل بهذه الطرق، بل ينتقل في حال بلعه للبويضات الخارجة مع براز القطط.
وأضاف بأن قطط البيوت التي لا تتغذى على اللحوم النيئة المصابة لا تصاب بالمرض، وبالتالي ليست بناقلة للمرض. وعلى العموم فإن احتمال أن يصاب الإنسان بالمرض نتيجة أكله اللحوم النيئة المصابة كلحم الضأن مثل،ا أو أكله للخضروات والفواكه الملوثة والغير مغسولة، هي أعلى بكثير من احتمالية إصابته عن طرق القطط المصابة، كما أنه ليس هناك لغاية الآن طعومات لهذا المرض، وإذا أصاب المرض القطط فهو قابل للعلاج والشفاء التام.
 |
 |
قطة في عيادة د. طه تحتاج إلى عملية جراحية في المسالك البولية |
قطة شارفت على الموت عالجها د. طه وهي تعيش حاليا حياة هادئة وسعيدة |
البيطرة والعطاء
"أضافت لي البيطرة من الإحساس بقيمة العطاء وفعل الخير الكثير، فكل مرة أنقذ حيواناً اشعر بنتيجة عملي مباشرة، حيث ينهض الحيوان ويلهو مع أقرانه سعيداً بعد أن يكون قد أوشك على الموت، ومن تجربتي وبعد أن اشتغلت بالبلديات والمؤسسات الأهلية فالانجاز أو النتيجة تأتي بعد أشهر، أو سنة أو ربما سنوات، ولكن في عملي فتشعر بنتيجة صنعك فوراً". يقول الرفاعي
ومن تجربة الرفاعي فهناك من يتذرع دائماً بسوء سلوكه تجاه البيئة والطبيعة والحجر والبشر بشماعة الاحتلال، ويتساءل بالقول: ما دخل الإنسانية بالاحتلال؟ لماذا نقتل الحيوان ونقطع الشجر ونلوث المياه بالمجاري، لماذا نتهرب من مسؤوليتنا تجاه ما حولنا، لماذا لا نربي أبناءنا على الرفق بالحيوان وتقدير جمال الطبيعة من حولنا؟". تساؤلات برسم الإجابة لدى كل أب وأم ومربي مسؤول ومشرّع، ينهي الرفاعي حديثه مع "مجلة آفاق" والقطط ما فتئت تقترب منه لتنال نصيبها من الدلال.