ذكريات خضراء: كاميرا وفيلم كوداك ومزارع برتقال
خاص بآفاق البيئة والتنمية
لا زلت أذكر ربيع العام 1982، عندما كنت في الثامنة من العمر، حينئذ استجمعت كل نقودي المتواضعة التي جاءت معظمها من مناسبة العيد، واتجهت إلى صاحب ستوديو للتصوير في المدينة المجاورة. وقتئذ كان المصور سمينًا وبدت ملامح وجه جادة جداً، بجوار النظارة السميكة التي كان يرتديها والسرعة في الكلام والنبرة الغليظة: "شو بدك يا ولد، صورة فورية...؟"، هكذا قالها لحظة دخولي لمكتبه في طرف جنين الشمالي، فأسرعت: "لا يا عمو، بدي استأجر كاميرا وفيلم، علشان.."، رد بسرعة البرق، قبل أن أتمم الجملة المرتبكة من فمي: "لا نؤجر كاميرات لأطفال يا حبيبي.."، خرجت إلى شأني لأفتش في موقف السيارات عن أخي الكبير ليستأجر لي بدوره الكاميرا، ولأحقق رغبتي في تصوير مشاهد الطبيعة الخلابة التي أحببتها، فموسم أزهار اللوز وشقائق النعمان والأرض الملونة فرصة نادرة لا تتكرر في العام إلا أسابيع وأياما معدودات، وسرعان ما تجف، فلا بد من توثيق سحرها.
عثرت أخيرًا على ضالتي، كان أخي عائداً من عمله، فاستغرب وجودي وطلبي، لكنه حقق لي رغبتي، وأستأجر لي آلة تصوير وفيلم"كوداك" الذي كان ذائع الصيت، فلطالما شاهدنا إعلانات ترويجية له عبر تلفازنا منزوع الألوان..
أسرعت إلى الطبيعة بجوار حقل زيتوننا، وأفرغت بسرعة معظم رصيدي من الصور، فقد شفعت لي بعض مهاراتي التي اكتسبتها من أبناء الجيران في إتمام المهمة بنجاح، ولم أبقِ غير ثلاث صور لعائلتي. أستغرب الجميع كل هذا الاهتمام بالطبيعة، فقلت لهم: الطبيعة أحسن من الأخبار وتصوير الناس، لأنها جميلة وليس لها لسان أو يد تؤذي من يشاهدها.
مرت الأيام بعجالة، وكبرت معها سنوات عمري، وأصبح باستطاعتي وأنا في الثانية عشرة أن أبرم بمفردي صفقة لاستئجار عدسة تصوير من نوع رخيص وفقير، فقد أعددت رصيداً معقولاً من مناسبات العيد المتكررة.
كان الصيف في العام 1986 مشتعلا، وكانت هواياتي تتشكل على نار أكثر حرارة، استأجرت كاميرا تصوير بنفسجية اللون، وذهبت إلى حقل مجاور مزروع بالبرتقال، كان صاحب البيّارة يشكو الحال، فالأشجار عطشى، والأسعار متدنية، والإنتاج شحيح، فقررت أن أكتب عن هذا الفلاح موضوعاً إنشائياً، وفعلت ذلك ولم أكتف بالكلمات، فالتقطت صورتين للفلاح ولأشجاره، ثم نقلته لمدرسي الذي فرح كثيراً بتعبيري، فأسرعت لاحقاً إلى مكتب لصحيفة "الفجر"، وقلت لهم أريد أن أنشر هذا الموضوع في صحيفتكم، وهذه الصور ملونة أيضاً، تلقف مدير المكتب الموضوع، وكان عنوانه: مزارعو البرتقال يشمون الأرباح ولا يذوقونها. بعد ثلاثة أيام صدرت الصحيفة وبها موضوعي، ولكن الفارق أن قصتي الإنشائية المتواضعة، لم تحتوِ على إسمي، وإنما جاءت موقعة باسم مدير المكتب، ومع ذلك فرحت لأنني شاهدت لأول مرة كلماتي مطبوعة في صحيفة محلية يومية. وصوري سيشاهدها الناس، وصاحب الحقل العجوز سيفرح بأنني نفذت وعدي له.
في اليوم التالي، أسرعت إلى مدير مكتب الصحيفة، وقلت له: أين اسمي يا أستاذ؟ فرد ببرودة أعصاب: عمو، أنا بعثت الموضوع من فاكسنا، وأرسلت الصور بسيارة للقدس، ودفعت الأجرة، يعني صار الموضوع إلنا..!
قلت له: طيب، الصورة التي التقطتها، والكلمات هي نفسها، لم تغير شيئا، فقط شطبت اسمي، ووضعت اسمك...طالت أسئلتي، وامتدت تبريراته العرجاء، خرجت من المكتب لصاحب بيارة البرتقال، لأخبره بأنني نشرت الموضوع.
كان الفلاح النشيط لا يجيد القراءة، فحمدت الله كثيراً، لأنه لن يفرق بين اسمي واسم الذي سرق جهدي، ففرح بمشاهدته لصورته، وطلب مني أن أحضر له عدداً خاصاً به لينقله لأولاده، فلبيت رغبته جزئياً، إذ اقتطعت له صورته ومنحته إياها، واحتفظت بالموضوع لنفسي.
منذ ذلك اليوم تعلمت درساً مفيداً، فلولا الصورة لانتفت مصداقيتي أمام المزارع النشيط، ولشكك أستاذي كما أسرتي بصحة روايتي، وربما تراجعت رغبتي في دراسة الصحافة والإعلام. أما حبي للبيئة فصار في تصاعد مستمر: أعشق ربيعها ومطرها، وأتمنى أن يطول زهرها الساحر، وأوثق ما أستطعت بعدستي الإلكترونية، ولا أجرؤ على حذف ما أرصده. فتزَاحمَ أرشيفي بنحو خمسين ألف صورة، من جبال فلسطين وسهولها وغورها وساحلها السليب.
aabdkh@yahoo.com