خاص بآفاق البيئة والتنمية
يعتبر "النمو" الاقتصادي أمرا هاما، لكن ليس أساسيا؛ إذ ما يجب أن يثير اهتمامنا هو جودة حياة الناس. فـ"النمو" الاقتصادي بالمفهوم الرأسمالي يهدف إلى التوسع في الأسواق بهدف زيادة الاستهلاك وإنتاج السلع، بغض النظر عن الأبعاد البيئية والاجتماعية، وعن تآكل الموارد الطبيعية وتدميرها؛ وهو ما يتسبب به تحديدا مثل هذا "النمو" الذي لا يساهم بالتأكيد في تحسين جودة الحياة.
من هنا تنبع أهمية العمل على تبني وتطبيق نموذج آخر بديل يعرف بـِ"الاقتصاد الدائري" الذي يأخذ في الاعتبار صحة الناس والبيئة في آن معا؛ بحيث يتم إعادة استعمال الموارد الطبيعية وترشيد استخدامها، بدلا من مواصلة استهلاكها وهدرها بشكل متسارع. عندئذ، سيكون الاقتصاد والبيئة كلاهما رابحين.
في الواقع، نموذج "النمو" الاقتصادي الرأسمالي الحالي القائم على الارتفاع اللانهائي في إجمالي الناتج المحلي، من خلال الزيادة المستمرة في الاستهلاك- هذا النموذج يعتبر غير مستدام من الناحية البيئية. فبالرغم من تزويده فرص عمل معينة، ورفعه لمستوى المعيشة، إلا أنه تسبب أيضا في تدمير الأنظمة الطبيعية في العالم، وفي التغير المناخي، وشح في مصادر المياه واستنزاف الأراضي الصالحة للزراعة. ناهيك أن نموذج "النمو" الرأسمالي الحالي قائم على انعدام المساواة الرهيب في توزيع الأرباح المتولدة من الموارد الطبيعية.
علاوة على أن نموذج "النمو" الرأسمالي يتضمن ارتفاعا متواصلا في تكاليف إنتاج الوقود الأحفوري الذي أصبح الوصول إليه أكثر تعقيدا. ففي السنوات القادمة سيلزم المزيد والمزيد من مصادر الطاقة لإنتاج الطاقة من مصادر النفط والغاز والفحم. هذه الاستثمارات الهائلة قد تزج اقتصاديات العالم في ديون ضخمة. لذا، يجب الاستعداد، منذ الآن، لأوسع استفادة ممكنة من الطاقات المتجددة التي باستطاعتها تحرير الحكومات من الاستثمارات في مصادر الطاقة المكلفة والملوثة والمتآكلة.
نموذج "النمو" الحالي تم بلورته إثر الحرب العالمية الثانية، باعتباره الهدف الأساسي لاقتصاديات العالم (الرأسمالي)، ومن خلال منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)تحول هذا النموذج إلى هدف غير قابل للنقاش، بحيث ينبغي على جميع البلدان والمنظمات الدولية أن تتصرف بما ينسجم معه.
ورغم أن العديد من الاقتصاديين في العالم يعترفون بالآثار البيئية السلبية التي يتسبب بها نموذج "النمو" السائد حاليا، إلا أنهم يصرون على زعمهم القائل بأن لا بديل لهذا "النمو"؛ وفي ظنهم، أن بالإمكان التعامل مع الآثار البيئية الضارة من خلال زيادة الكفاءة وإدخال تحسينات تكنولوجية. بل إن دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بلورت استراتيجية أسمتها "النمو الأخضر"، والتي يمكن، بحسبها، الفصل جزئيا بين النمو والآثار الاقتصادية. فعلى سبيل المثال، وفق هذا المفهوم، ترشيد أكبر للطاقة والمياه يؤدي إلى أن يصبح معدل استهلاك الطاقة أقل من معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي.
لإصلاح الخلل القائم في نموذج "النمو" الحالي، يجب الفصل فصلا كاملا بين النمو والموارد الطبيعية. بمعنى أن معدل استهلاك الفرد للموارد الطبيعية يجب ألا يتسارع، بل يتم تثبيته في مستوى معين، وربما أيضا خفضه.
الكفاءة والتوفير، غالبا ما يجلبان نتيجة عكسية لما هو مرغوب فيه؛ ذلك أنهما يتيحان تحويل المداخيل لصالح استهلاك الموارد الأخرى. فعلى سبيل المثال، الشخص الذي تمكن من خفض استهلاكه للمياه في منزله، قد يستغل فائض النقود التي وفرها لشراء سلع أخرى. مثال بارز آخر يتعلق بالقارة الأوروبية التي تمكنت من ترشيد استهلاك الموارد الطبيعية داخل حدودها، وأخذت تعتمد بشكل كبير ومتزايد على استهلاك نفس الموارد من بلدان أخرى بتكلفة أقل. بل إن ارتفاعا بمقدار 10% في الناتج المحلي الإجمالي لدولة أوروبية معينة، يؤدي إلى ارتفاع مقداره 6% في كمية المواد الخام التي تستغلها.
فشل المؤشرات الاقتصادية التقليدية
يمكننا استبدال نموذج "النمو" الحالي بنموذج آخر يخفض كثيرا استخدام المواد الخام. وبالطبع، يمكن مواصلة الاستثمار في البنية التحتية العامة والتكنولوجيا، إلا أن المزيد من التمويل لا بد أن يوجه إلى قنوات نمو أخرى مثل الرعاية الاجتماعية، والصحة والتعليم والترفيه. المنتجات سيتم تصميمها على أساس "الاقتصاد الدائري" الذي يتيح إعادة استخدام نفس المنتج، أو استخدامه كخدمة (مثل تأجير الدراجات الهوائية).
في "الاقتصاد الدائري"، النفايات الناتجة من مصنع معين يمكن استخدامها مادة خام في مصنع آخر؛ وبهذه الطريقة تهبط كثيرا عمليات استخراج مواد خام أخرى. ومن منظور الاستدامة، المسألة الأساسية هي الحد من إجمالي استهلاك للمواد الخام والحد من استنزاف الموارد الأرضية وتدمير الموائل الطبيعية. يجب ألا نخجل من اتخاذ التدابير اللازمة بذريعة أن تلك التدابير سوف تحد من "النمو" الاقتصادي.
"الاقتصاد الدائري" لا يعتبر مشروعا لتغيير البيئة، بل أساسا لتغيير الاقتصاد؛ وبخاصة ما يتعلق بمسألة المؤشرات الاقتصادية، علما أن المؤشرات التقليدية فشلت في إعطائنا توصيفا صادقا لجودة حياة الشرائح الشعبية (غالبية السكان) ورفاهيتها ومدى تلبية احتياجاتها.
"الاقتصاد الدائري" الكفؤ يعني بالدرجة الأولى استخدام الموارد الطبيعية بحكمة أكبر وتقليص تلوث الهواء. وهنا يقع على عاتق الحكومات أن تلعب دورا مركزيا، من خلال إجراء التغييرات اللازمة في تشريعاتها وسياساتها، فضلا عن استثمار أموال عامة كبيرة في برامج تهدف بشكل أساسي إلى تحسين جودة حياة المواطنين وتحقيق رفاهيتهم. وهذا يعني التوجه نحو الزراعة الخضراء التي لا تبدد الموارد الطبيعية وتشجع العودة إلى العمل في نطاق الحيازات الزراعية الصغيرة. بالإضافة إلى قطاع الإنشاءات؛ وبخاصة لتحسين كفاءة استهلاك الطاقة.
ونتيجة تبني وتطبيق سياسات وآليات "الاقتصاد الدائري"، يمكننا توقع زيادة في القيمة المالية لإجمالي الناتج المحلي الفلسطيني بعشرات ملايين الدولارات؛ فضلا عن توفير عشرات الملايين الإضافية التي تستثمر حاليا لمواجهة العواقب الصحية والبيئية.
يمكننا القول إن طاقة اقتصادية عظيمة تكمن في السلوك البيئي الأخضر في إطار "الاقتصاد الدائري". فعلى سبيل المثال، يمكن لسوق العمل الفلسطيني أن يستوعب آلاف فرص العمل الجديدة في مجال سوق النفايات فقط، إضافة إلى استخدام المواد الخام التي تبلغ قيمتها مئات ملايين الشواقل وتبدد حاليا وتدفن في مكبات النفايات.
وفي هذا السياق، نشير إلى أن العديد من الأبحاث الحديثة، أثبتت أن تدوير النفايات الصلبة الجافة (المعادن والزجاج والبلاستيك والورق والكرتون...) مُجْدٍ اقتصاديا ويوفر فرص عمل خضراء، أكثر من عملية دفن النفايات. وحيث أن النفايات تتولد في إطار المجتمع المحلي؛ فإن تدويرها يوفر فرص عمل في نطاق ذات المجتمع أيضا، علما بأن التدوير كثيف العمل، وذو فعالية اقتصادية، ويزيد إنتاجية موارد الطبيعة، وبالتالي يساهم في رفع إجمالي الناتج المحلي.
ومن الناحية الاقتصادية، تدوير النفايات الجافة أفضل من دفنها؛ لأن في ذلك توليد عدد أكبر من فرص العمل الخضراء. وبالمقارنة مع دفن النفايات الجافة؛ فإن تدوير الأخيرة قد يزيد نسبة التشغيل بأكثر من 40%-50%.
وعلى سبيل المثال؛ دفن ألف طن نفايات جافة (معادن، بلاستيك، زجاج، وورق) بالمتوسط يولد نحو 17 فرصة عمل. وفي المقابل، تدوير كمية مماثلة من النفايات يوفر نحو 25 فرصة عمل؛ أي بزيادة 47%.
الجدير ذكره، أن عمليات جمع ومعالجة جزء هام من النفايات غير العضوية، مثل البلاستيك والمعادن والورق والكرتون والزجاج، تزدهر في مختلف أنحاء الضفة الغربية، علما بأن نسبتها لا تتجاوز 30 – 40% من إجمالي النفايات الصلبة.
"الاقتصاد الدائري" والاقتصاد المقاوِم
في السياق الفلسطيني، تنسجم فلسفة "الاقتصاد الدائري" مع نموذج الاقتصاد المقاوم الذي يستند أساسا إلى تدعيم البنية الإنتاجية الزراعية والصناعية الوطنية الشعبية التي تتميز بالتنوع الإنتاجي وتوفر الأمن الإنتاجي الغذائي للناس، وتتمحور داخليا في السوق المحلي، وتنتج الاحتياجات الأساسية للشرائح الشعبية بالاعتماد على مدخلات الإنتاج المحلية، وبالتالي تحررنا من التبعية لمدخلات الإنتاج الخارجية.
إن محاربة النزعة الاستهلاكية والتقليل إلى الحد الأدنى من مشترياتنا، والتركيز على شراء منتجات غذائية محلية، بلدية وموسمية تم إنتاجها من مواد طبيعية، والالتزام إجمالا باقتناء السلع المحلية التي تعرضت لأدنى قدر من التصنيع ولم تسافر مسافات طويلة، وأُنْتِجَت بطريقة عضوية وأخلاقية وتحتوي على حد أدنى من التغليف القابل لإعادة الاستعمال والتدوير- إن الالتزام بكل ذلك يعد أقل كلفة، ويقلل من نفقات المواصلات، ويدور نقودنا داخل بلدنا ويعزز التجارة المحلية، ويصب في طاحونة الحفاظ على مواردنا المحلية ويقلل من التلوث البيئي والصحي، ويساهم في الحد من استهلاك الطاقة، ناهيك عن انسجام هذا التوجه مع اقتصاد الصمود والمقاومة.