خاص بآفاق البيئة والتنمية
يفترض بنا كشعب تحت الاحتلال، وفي سياق الاستراتيجية الإنتاجية المقاومة، أن نمحور ونركز جل نشاطنا وفعلنا الاقتصادي-التنموي حول الأرض التي تشكل جوهر صراعنا مع احتلال استيطاني اقتلاعي شرس. ومن البديهي أن مثل هذا التوجه، لابد أن ينطلق من القاعدة الشعبية أساسا، نحو الدفاع عن الأرض وحمايتها؛ ما يعني جوهريا توفير الحماية الشعبية للإنتاج الزراعي المحلي والبلدي النظيف المعتمد أساسا على مدخلات إنتاج محلية.
وبالطبع، لا يمكننا التعويل كثيرا في هذا السياق، على المؤسسات الرسمية التي لها وظائف وارتباطات أخرى أفرزتها الاتفاقات الموقعة مع الاحتلال، ولا علاقة لها بحماية الأرض والدفاع عنها، باستثناء حالات ومبادرات فردية. وما يؤكد ذلك كيفية توزيع بنود موازنة السلطة الفلسطينية. إذ في الوقت الذي تعاني فيه الأخيرة من "إفلاس" مالي وعجز عن دفع المستحقات والرواتب التي تقع تحت رحمة الممولين الأجانب والاحتلال الذي يحجب التحويلات الضرائبية للسلطة أو يطلقها متى يشاء- في ذات الوقت، نجد أن أجهزة الأمن تلتهم نحو ثلث إجمالي موازنة السلطة للعام 2014 (وهي تعادل ضعفي حصة وزارة الصحة على سبيل المثال)؛ بينما حصة وزارة الزراعة التي يفترض بها أن تكون وزارة استراتيجية تقف في طليعة المواجهة مع الاحتلال حول الأرض التي تشكل جوهر صراعنا معه أساسا، وبالتالي تخصص لها حصة الأسد في الموازنة- حصة هذه الوزارة لم تتجاوز 0.7% (27 مليون دولار من أصل 3,800,000,000).
أما حصة سلطة جودة البيئة فلم تتجاوز 0.3% من إجمالي الموازنة. هذا رغم أن السلطة الفلسطينية لا تشتري الأسلحة الثقيلة والدبابات والطائرات والسفن الحربية، بل إن معداتها العسكرية الخفيفة والبسيطة توفرها لها إسرائيل وبعض الدول العربية والأوروبية والولايات المتحدة الأميركية، كي تؤدي أجهزة الأمن المهام الأمنية المنوطة بها، كجزء من سلطة حكم ذاتي محدود جدا، وليس دولة قائمة بذاتها وذات سيادة.
على أي حال، تركيبة الموازنة الحكومية وكيفية توزيعها، تشير إلى الدور الوظيفي المنوط بمكونات الحكومة المختلفة.
الدعم الشعبي للأرض والإنتاج
يمكننا تشجيع أصدقائنا ومعارفنا وأقاربنا في المدن، أو على مستوى العاملين في المنظمات غير الحكومية والوزارات والشركات، على شراء الخضار والفاكهة مباشرة من المزارعين الشباب البلديين (أو العضويين) في مزارعهم وحقولهم. وبإمكان مجموعات شبابية طليعية من هؤلاء المزارعين إقامة شبكات تسويق ودكاكين خاصة بهم في المدن والبلدات والقرى والمخيمات بحيث يسوقون فيها منتجاتهم الطبيعية والعضوية.
ولضمان إنتاج زراعي نظيف صحيا وبيئيا، بإمكان مجموعات من المستهلكين تنظيم عملية مقايضة المال بالمنتجات الزراعية مع مزارعين بلديين - عضويين من الملاكين أو الذين يتعاملون بالمزارعة، أو مع مزرعة معينة في المدينة أو القرية. ويوجد حاليا، في بعض البلدان، نماذج عملية لمشاريع إنتاجية تعرف بالزراعة المدعومة مجتمعيا أو "الزراعة بالحماية الشعبية". وفي مثل هذه المشاريع المجتمعية المكونة من منتِج زراعي (أو أكثر) ومجموعة من المستهلكين (وقد تكون في أغلب الأحيان مجموعات من الأسر الشبابية في القرية أو المدينة)، يدفع المستهلك سلفا للمنتِج في بداية الموسم مبلغا ماليا محددا، لدعمه في عملية الإنتاج بمختلف مراحلها (وهذا نمط من الدعم الشعبي للإنتاج المحلي). وفي المقابل، يحصل المستهلك على نسبة معينة من الإنتاج. ويمتلك المستهلك رأيا مقرِرا في ما سيُزرع.
وفي العام 2003، خاضت مثل هذه التجربة نحو 17 أسرة فلسطينية، من بينها أسرة كاتب هذه السطور؛ ومعظم هذه الأسر عبارة عن أسر شابة في محافظة رام الله والبيرة، حيث ارتبطت تلك الأسر بشكل مباشر مع مزارع عضوي من البيرة، يمارس الزراعة البلدية وتربية الماعز والخراف والدجاج. وتميز إنتاج المزارع العضوي بكونه نظيفا وخاليا من الكيماويات الزراعية. وقد كان يزود مجموعة العائلات بتشكيلة منوعة من الخضراوات والفاكهة، فضلا عن الحليب والجبنة البلدية والبيض البلدي ولحم الخروف.
وهناك نماذج معينة من المشاريع المجتمعية التي تزود المستهلكين بالخضار والفاكهة العضوية، فضلا عن كمية غير محددة من البيض البلدي، وقد يشارك هؤلاء في ملكية بقرة أو أكثر ضمن المشروع، بحيث يستفيد من حليبها البلدي وغير المعالج كلا الطرفين (المستهلكون والمنتجون) على حد سواء. وقد تختلف آليات العمل والإنتاج من مشروع لآخر، ولكن في معظم الحالات يدفع المستهلك رسما محددا في بداية الموسم لمشاركة المنتِج في المخاطرة أو في الثروة الإنتاجية. وليس بالضرورة أن تكون المشاركة مالية دائما، فقد يساهم المستهلك من خلال عمله بالمشروع، سواء بالفلاحة أو بالحصاد أو بالتوزيع. وقد يكون المستهلك نفسه منتجا لمنتجات بلدية لا ينتجها المشروع الذي ينتمي إليه، وبالتالي قد تكون مساهمته، كليا أو جزئيا، عبارة عن مقايضة بعض منتجاته بمنتجات أخرى في المشروع. وتعد الزراعة المدعومة مجتمعيا أسلوبا فعالا لتسويق المنتجات العضوية (أو البلدية) في مواقع الاستهلاك بالمدن أو بالمخيمات الفلسطينية. وعادة ما يتم نقل منتجات المشروع أو التعاونية إلى نقطة تجميع متفق عليها، حيث يتم من هناك إعادة توزيعها محليا.
وقد يُعِد المنتج سلة غذائية (أسبوعية مثلا) لكل أسرة، حسب احتياجاتها الموثقة مسبقا في قائمة/ جدول؛ فتستلمها الأسرة من المزرعة أو يتم إيصالها للأسرة...وفي كل مرة يتم خصم سعر السلة من قيمة المبلغ المدفوع مسبقا من الأسرة في بداية الموسم...
وبالطبع، تحتاج العملية إلى منسقين يعملون في المناطق المختلفة على متابعة المبادرة وهي في بداياتها، وجمع المزارعين العضويين وترتيب العمل معهم ومع مجموعات المستهلكين؛ ومن ثم، بعد ضمان استمراريته يُترك المشروع للمشاركين فيه (منتجين ومستهلكين). ويمكن التعاون بهذا الخصوص مع بعض المبادرات والمجموعات المحلية من المزارعين العضويين أو البلديين والناشطين، مثل مجموعة "أكلي بلدي" ((Slow Food التي انطلقت مؤخرا في رام الله والبيرة وتعمل على التوسع في سائر أنحاء الضفة الغربية والداخل الفلسطيني (1948)، ومجموعة شراكة (سوق بيئي بلدي في رام الله)، وجمعية ميثلون التعاونية للزراعات العضوية، ومزرعة بيت قاد العضوية (التابعة لمركز العمل التنموي / معا)، وشركة "عدل" للتجارة العادلة، وغيرها.
وتحلّ هذه العملية مكان سلسلة المتاجر الكبيرة وأسعارها المرتفعة (بسبب تكاليف التغليف والنقل والتسويق وغيرها) وتدعم المزارع البلدي أو العضوي الصغير، بحيث تمنحه استقلالية أكبر عن إملاءات السوق والتجار وابتزازاتهم، وتضمن عمليا تزويد المستهلك مباشرة بالغذاء العضوي الطازج ذي الجودة العالية. أي أن مثل هذه المبادرات عبارة عن مصلحة مشتركة وقوية لكلا المنتجين والمستهلكين؛ فالمنتجون يحفزون على الإنتاج الزراعي النظيف وضمان تسويقه الأكيد وبأسعار معقولة، كما أن المستهلكين يضمنون الحصول على غذاء صحي وخال من الأوساخ الكيميائية.
الفلسفة خلف الزراعة المحمية شعبيا
الفلسفة التنموية الأساسية الكامنة خلف هذا النمط من الإنتاج والاستهلاك، هي أننا، في ظل وجودنا تحت احتلال استيطاني عسكري اقتلاعي يمارس سياسات الحصار والتجويع بشكل منظم ومنهجي، فإن الأولوية هي لضمان تحقيق السيادة الفعلية على الغذاء لأوسع الشرائح الشعبية وليس لصالح شريحة تجارية هامشية من التجار والوكلاء. ولا يتحقق ذلك إلا من خلال تغطية احتياجاتنا الغذائية الأساسية والاستراتيجية من إنتاجنا المحلي المتحرر من التبعية لمدخلات الإنتاج الإسرائيلية التي يتحكم بها الاحتلال وشركاته. وهذا يتطلب حراكاً من المزارعين الشباب والشابات، يُشَجَّعون من خلاله على العودة إلى الزراعات البلدية والعضوية التي تتميز مدخلاتها بأنها محلية، سواء على مستوى السماد البلدي المحلي أو السماد الأخضر أو الحيوانات أو الأيدي العاملة أو البذور البلدية غير الصناعية، أو العلاجات الزراعية الطبيعية والعضوية المشتقة من الموارد والنباتات المحلية.
هذا التوجه الإنتاجي الغذائي الاستراتيجي، يضمن بقاء وتدفق الثروة ورأس المال وتدويرهما داخل بلدنا؛ لأن الاعتماد على المستلزمات الزراعية التي يعيد المزارعون إنتاجها بأنفسهم محليا، يكون في إطار نفس دائرة الإنتاج والاستهلاك المحلية. وهذا يعني الاعتماد على الذات وتحقيق الاستقلال والسيادة الغذائيين وطنيا.