غزّة المحاصرة بين 2008 و2024.. تاريخ من القصف والسيول!
خاص بآفاق البيئة والتنمية
من يتابع تاريخ غزّة في آخر 15 عاماً فقط، قد يظن واهماً أن القصف والحصار الإسرائيلي، هما السببان الوحيدان لمعاناة أهل غزة، بيد أننا عندما نتتبع تاريخ الفيضانات في القطاع، نجد أن هذا البلد، إن لم يسلم من الحروب والعدوان جاءته الفيضانات والسيول. وما أحوجنا في هذه الأيام أن نُسلط الضوء على هذه الحقائق، عسى أن يدرك العالم ما يُعانيه هذا البلد مُنذ أعوام طويلة؛ من القصف والحصار والفيضانات والسيول!
|
 |
خريطة إسرائيلية للمنشآت المائية المؤديّة إلى وادي غزة - من موقع govmap |
من يتابع تاريخ غزّة في آخر 15 عاماً فقط قد يظن واهماً أن القصف والحصار الإسرائيلي المتواصلين هما السبب الوحيد لمعاناة أهل غزة، بيد أننا عندما نتتبع تاريخ الفيضانات في غزّة نجد أن هذا البلد إن لم يسلم من الحروب، جاءته الفيضانات والسيول. وما أحوجنا في هذه الأيام أن نُسلط الضوء على هذه الحقائق، عسى أن يُدرك العالم ما يُعانيه هذا البلد مُنذ أعوام طويلة: قصف وحصار.. وفيضانات وسيول!
النزوح من القصف إلى الغرق
في الحرب الجارية (2023 - 2024)، تدّمر بعد مرور 100 يوم، أكثر من 300 ألف منزل، وهذا رقم مُذهل إذا ما علمنا أن الزلازل المُدمرة في تركيا وسوريا في مطلع عام 2023 دمّرت حوالي 250 ألف منزل (شقة)[1]، ثم حتى عندما نزح أكثر سكان قطاع غزّة من منازلهم إلى مخيمات اللجوء في مناطق مختلفة بالقطاع وجدوا خيامهم تغرق، بالأخص خيام النازحين في جباليا شمال القطاع.
تقارير دوليّة حول الكارثة "المائية في قطاع غزّة حذّرت من تبعات موسم الأمطار والفيضانات على السكان في ظل الحرب، بل أكدت أن دمار البنى التحتية خلال الحرب، سوف يتسبب بفيضان الصرف الصحي مع مياه الأمطار، ما يعني "أرضيّة خصبة" لانتشار الأوبئة والأمراض، تحديداً الالتهابات في الجهاز التنفسي. [2]
بالعودة إلى الوراء، قبل حرب 2008 بعام واحد فقط، في آذار/مارس 2007 نجد واحدة من أخطر الكوارث البيئية الصحيّة[3] التي وقعت بعد انهيار السواتر الترابية الحامية لأحواض الصرف الصحي في بيت لاهيا شمال قطاع غزة، وأدت إلى مقتل أربعة أشخاص وإصابة عشرات، وكذلك نزوح كل سكان القرية البدوية "أم النصر"، ويقدر عددهم بـ 5 آلاف شخص.[4]
السدود.. بدلاً من الصواريخ؟
لم تمض أشهر قليلة على الكارثة البيئية في بيت لاهيا وقرية أم النصر حتى عانى الأهل في غزة من ويلات حرب 2008 – 2009، التي خلفت أكثر من 1400 شهيد، بينهم أكثر من 400 طفل!
حتى بعد الحرب، نجد أن الأمطار في شهر كانون الثاني/يناير 2010 تسببت في فيضانات كبيرة دمرت حدود وادي غزة وأغرقت منازل 217 عائلة في منطقة المغراقة، وهي تعتبر من أبرز الفيضانات المدمرة في قطاع غزة.[5]
في البحث عن أسباب حدّة أضرار الفيضانات، نشر المركز الفلسطيني للإعلام بتاريخ 19 كانون الثاني/يناير 2010 تصريحاً عن حكومة غزة جاء فيه أن الاحتلال الإسرائيلي يفتح السدود، دون سابق إنذار على المنطقة السكنية في وادي غزة، وأكد أن هذه "جريمة متعمدة لإلحاق أبلغ الأضرار بالمواطنين وممتلكاتهم".[6]
وفقاً لنفس التقرير، فقد وصل ارتفاع المياه في الوادي إلى خمسة أمتار، ما أدى إلى غرق عشرات المنازل، وسط مناشدة المواطنين إخلاء المنطقة التي تبعد نحو 500 متر عن الوادي.
استخدام السدود كأسلحة لا يتوقف على الفيضانات، بل يمتد إلى السيطرة على الموارد المائية، فبحسب الخبير البيئي جورج كرزم، فإن الأحواض والمصائد المائية المنصوبة من قبل الاحتلال على حدود قطاع غزة، تهدف إلى منع تسرب مياه الضفة إلى هناك، وبشكل خاص المياه المتدفقة من جهة جبال الخليل.
وتاريخياً، كان يمكن حل جزء لا يستهان به من أزمة غزة المائية المفتعلة أصلا من قبل الاحتلال، من خلال وقف نهب إسرائيل مياه الأمطار المتدفقة في وادي غزة من جهة الأرض المحتلة عام 1948، من خلال الأحواض والمصائد المائية الإسرائيلية على حدود قطاع غزة لمنع تسرب مياه الضفة إلى هناك. في الواقع، فإن الاتفاقات الإسرائيلية - الفلسطينية (أوسلو وملحق المياه) شرعنت عملية النهب هذه التي كانت قائمة قبل إبرامها.
2013: الفيضان الأبرز!
فيضان 2013 يُعتبر الأبرز، وكان ذلك خلال "عاصفة أليكسا" التي تضررت منها مناطق عديدة، لكن الضرر في قطاع غزة كان مختلفاً؛ إذ كان قد مر عام تقريباً على العدوان الإسرائيلي الذي استمر ثمانية أيام في تشرين الثاني/نوفمبر 2012، ثم ما إن انتهى العدوان وزال الفيضان اندلعت حرب ضروس استمرت 51 يوماً. وبين هذه وتلك حصلت الفيضانات بعد أن استمرت الأمطار الغزيرة ثلاثة أيام أدت إلى مقتل شخص وإصابة ثلاثة آخرين وتضرر نحو 200 منزل وتهجير 650 شخصاً.
وفقًا للباحث أحمد الجُعيدي وزملائه في بحث حول الفيضانات في قطاع غزة، فإن فيضان 2013 كان "أسوء" فيضان يضرب المنطقة (قطاع غزة) مُنذ عام 1953، وتسبب في أضرار واسعة على البُنى التحتية وحتى الزراعة. [7]ووفقاً لوزارة الزراعة الفلسطينية، بلغت الخسائر من محصول الفراولة فقط نحو 5.5 ملايين دولار خلال أربعة أيام من العاصفة "أليكسا".[8]
كانت أضرار فيضان 2013 كارثيّة، ومرّة أخرى فُتح موضوع "سلاح السدود"، إذ أكد مركز ميزان لحقوق الإنسان أن قوات الاحتلال فتحت سد "النزازة" المهجور منذ سنوات والكائنة بدايته شرق جباليا والمنتهي عند حاجز بيت حانون (إيرز)، ما أضر بمنازل عديدة تقع على جانبيه خاصة في بيت حانون، وبلغ عدد المنازل المتضررة في شمال قطاع غزة 400 منزل، معظمها مسقوفة بالأسبستوس والزينكو.[9]
في نفس الفيضان، لم يغرق شمال القطاع فقط، إذ لم تبق منطقة إلا ونالت نصيبها من "الغرق"، فنجد التقارير تتحدث عن إخلاء منطقة كاملة في حي النفق بمدينة غزة، نتيجة ارتفاع بركة الشيخ رضوان، كما تم إخلاء عدد من المنازل في حي الجنينة في رفح.[10]

أكثر المناطق عُرضة للفيضانات في مدينة غزة وفقاً لدراسة (Flood hazard mapping using a multi-criteria decision analysis GIS case study Gaza Governorate, Palestine(
فيضانات ما بعد 2014
في حرب 2014 تضررت البنى التحتية بشكل كبير، وبالتالي لم تسلم غزّة من الفيضانات. وهنا لا بد أن نتوقف عند جُزئية يتفق عليها خبراء الفيضانات والهيدرولوجيا، وهي أنه من المستحيل منع الفيضانات بشكل تام. حتى لو كانت البُنى التحتية في أفضل حالاتها، فإن حدوث الفيضانات أمر متوقع، ولكن!
الفرق بين حدوث الفيضانات مع وجود بنى تحتية ملائمة وفيضانات مع وجود بُنى تحتيّة سيئة، أنه في الحالة الأخيرة يكون تكرار الفيضانات أكبر والأضرار ستكون حاضرة حتى عندما لا تحمل العاصفة المطريّة كميّات كبيرة جداً من الأمطار، بل أحياناً تكفي كميّة قليلة لحدوث الفيضان.
في قطاع غزة، ومع وجود هذا الكم من الحروب والعدوان المتواصل، فإن البنى التحتية لا يمكنها تحمل عواصف مطريّة يمكن أن تعتبر "عاديّة" وغير "متطرفة" كما حصل عام 2013.
في تشرين الثاني/نوفمبر 2014، غرقت الكثير من مناطق قطاع غزة، وأجبر السكان في العديد من المناطق على إخلاء منازلهم أو حتى الصعود إلى طوابق علوية، وتعرقلت حركة السير على الطرقات والشوارع كما تعطلت الحياة، كما لو كان السكان في حالة حرب مرّة أخرى.
في عام 2015، تكررت المشاهد ثانية، وغرقت المنازل والطرقات، بالإضافة إلى اندلاع الحرائق مع الفيضانات، إذ شب حريق بمصنع بلاستيك في بيت لاهيا، بفعل تماس كهربائي سببته الأمطار الغزيرة الهاطلة على المنطقة. [11]
في عام 2016، نُشرت تقارير تتحدث عن "غرق بالجملة" في منازل وشوارع محافظات غزة، وكانت أبرز المناطق "شارع النفق" بمدينة غزة وشوارع جباليا بالشمال، فدخلت مياه الأمطار إلى معظم المنازل المنخفضة نسبياً عن الشوارع، وكان أصحاب الكرفانات (البيوت الحديدية المتنقلة) أكثر عرضة. [12]

خريطة الإرتفاعات وأنواع التربة في جنوب قطاع غزة )من دراسة Evaluation of flood susceptibility mapping using logistic regression and GIS conditioning factors(
آثار صواريخ GPU تنكشف بعد أعوام!
معاناة غزة مع القصف والحصار مثل معاناتها مع السيول والأمطار، لم تتوقف. لكن بعد العدوان على غزة عام 2021 كان لا بُد من التوقف عند مسألة مهمة، فآثار هذا العدوان لم تنكشف بشكل تام إلا بعد أشهر مع موسم الأمطار، إذ اتضح مدى الضرر على البنى التحتية.
وفقاً لصحيفة الأيام، فقد سبق وحذر خبراء وبيئيون من وجود أضرار غير مرئية للعدوان الإسرائيلي، خاصة مع استخدام الاحتلال صواريخ GPU، التي تنفجر في أعماق كبيرة داخل الأرض، وينجم عنها إحداث فراغات غير مرئية، تتسبب في حدوث هبوط في التربة مع الأمطار أو تسرب مياه إلى الداخل.[13]
آثار العدوان على مدار 11 يوماً في أيار/مايو 2021، لم تظهر في فيضانات العام نفسه فقط، بل بقيت تؤثر وتزيد من معاناة أهالي القطاع حتى في شتاء العام التالي، ما يؤكد حجم الدمار الهائل الناتج عن القصف الإسرائيلي للمنشآت المائية، خاصة شبكات تصريف المياه في غزة.[14]
ختاماً، لم يكتمل إصلاح ما يُمكن إصلاحه مما سبق من سيول وفيضانات وقصف حتى عادت الحرب مجدداً إلى غزة، وبلا شك فإن حجم الدمار في الحرب الأخيرة لم يكن مسبوقاً بشهادة من عاشوا الحروب السابقة. ومع هذا الدمار المروع سيكون لانهيار البنى التحتية آثار وخيمة. ليس بالضرورة الآن، بل ربما بعد شهر أو بضعة أشهر أو سنة، كما حصل في حالات سابقة. وبالتأكيد، هذا الموضوع يجب أن يكون في سلم أولويّات إعادة إعمار غزة.. كي لا ينزح الأهالي مرّة أخرى من بيوتهم بسبب عاصفة أو فيضان!
[1] انظر تقرير الجزيرة : زلزال تركيا.. عدد القتلى يتجاوز 40 ألفا و6 آلاف هزة ارتدادية وتوقعات بوقف أعمال البحث مساء اليوم
[2] انظر تقرير Palestine: water crisis in the Gaza Strip – ACAPS الصادر بتاريخ 13.12.2023
[3] Hawajri, Omar. "Natural disasters and complex humanitarian emergencies in the occupied Palestinian territories." Emergency and Disaster Reports 3.1 (2016): 4-51.
[5] Ajjur, S.B. and Mogheir, Y.K., 2020. Flood hazard mapping using a multi-criteria decision analysis and GIS (case study Gaza Governorate, Palestine). Arabian Journal of Geosciences, 13, pp.1-11.
[7] Al-Juaidi, A.M., Nassar, A.M. and Al-Juaidi, O.E.M., 2018. Evaluation of flood susceptibility mapping using logistic regression and GIS conditioning factors. Arab J Geosci 11: 765.
[8] الجزيرة.نت: "أليكسا" تلحق خسائر بمزارعي الفراولة في غزة – 29/12/2013