شذرات بيئية وتنموية.. عشق وتكافل وجنرال أبيض وسيدة استثنائية
خاص بآفاق البيئة والتنمية

مدينة جنين
اكتشفت شوارع جنين لأول مرة، حينما كنت في التاسعة، سرتُ فيها بمفردي، وتتّبعتُ دروبها وأزقتها وحواريها، دخلت الحي الشرقي، وتعمّقت في السيباط، وتّلمست حجارة المسجد الكبير، وقرأتُ كتابًا عن مدينتنا في مكتبتها العامة، كان دَرجها طويلًا وتعجّ بالموظفين والرواد، ثم انتقلت لمخيمها وريفها البهي.
قبلها، عرّفني والدي، رحمه الله، لممراتها وعيونها ومَرجها ورجالاتها وعائلاتها، وقصّت لي أمي- المغفور لها- عن لحظات نكبة المدينة ونكستها.
توقفت عند دوّارها الرئيس، الذي كان شاهدًا على بطولة ثلّة من عشاقها، والتقيت مؤرخها المرحوم والصديق "مخلص محجوب الحاج حسن"، الذي سرد لي مستعيناً بوثائق تؤكد أن جنين كتبت تاريخها بدمها.
تجولّتُ في السوق العتيق، وتوقفت عند باعتها، قرأت أسماء شوارعها، وجمعت معلومات حول الخليفة أبو بكر الصديق، والمحطة، والنهضة، والملك طلال، والسكة، وبور سعيد، والجامعة.
ذهبت إلى المراح وشارع المدارس، فتّشتّ عن بقايا طواحينها وتلّها التاريخي ونفقها، وبرتقالها وقمحها وبطيخها وزيتونها وصوّانها وبارودها وغضبها وباعة صحفها وأحراشها وجبالها.
درست بضعة أيام في مدرسة السلام، ووقعت في غرام المدينة، كتبت عن مرجها ومساجدها وأسواقها وباعتها ومخيمها وريفها ورجالاتها وتاريخها وآثارها، قبل أن أتخصص في الصحافة، ثم تعمّقت في البحث عن شهود حريتها وأعلامها ومعالمها وأزهارها وماجداتها وفرسانها وكل تفاصيلها.
دخلت أطراف المطار، والتقطت صورًا للتذكار الألماني والتل، والشيخ منصور، ومحطة القطار، وبقايا قناطر المياه؛ اِنحزتُ لمرج ابن عامر، ووثقّت النرجس والزعتر والأقحوان، وتغزلّت بالأقحوان الأصفر.
قبلها اصطحبنا أخي علاء الدين لسينما الهاشمي، وتابعنا فيلمًا وثائقيًا عن الحرب العالمية الأولى، وبعد أربع سنوات، انتفضت جنين، وصار السير فيها محفوفًا بالاعتقال.
عملت في جنين، وضحكت واُعتقلت، وغرقت عيوني بالدموع، ففيها خسرت أخي زيدان الغريق، ثم أبي فأمي رحمهم الله.
وثقّت فرحي برفيقة دربي وأبنائي الأربعة، وحزنت على اجتياحات المدينة ودمارها المتكرر، وكنت شاهد عيان على قتل أزهارها وسحق شبابها وحرق قلوب ماجداتها.
نتحسّر اليوم على استلاب سماء المدينة ومخيمها وتدمير بيوتها وتهجير أهلها وتخريب شوارعها وتسميم حياتها وتحويلها إلى جحيم، لكن المؤكد أننا لن نرضى بغير ثراها بقية لعمرنا واستراحة لأرواحنا، وحاضنة لفرحنا ولشواهد قبورنا، ومؤمنون بأن تربتها ستتكفل بلفظ كل بذرة خبيثة ودخيلة وغازية. ولكِ الله يا حبيبتنا.

لجان أحياء شذرات
طوارئ
تستدعي الظروف الراهنة تشكيلًا عاجلًا للجان التكافل والطوارئ المحلية في كل حي، وفكرة اللجان المقترحة غير عائلية ولا حزبية ولا سياسية، ولا تنتقص من مكانة المؤسسات القائمة، وتقترح تقسيم التجمعات إلى مربعات عديدة، وتكون هناك لجنة تتكون من 5-7 متطوعين في كل حي، ينشطون في الاستعداد لأي طارئ، ويقدّمون في رمضان المبارك العون للعائلات المتعفّفة داخل الحي، ويتكافلون فيما بينهم، ويتقاسمون الحلو والمر في هذا الظرف العصيب.
بوسع اللجنة المقترحة في كل حي أن تخزّن بعض المواد الإسعافية، والأدوية، والطحين، والماء، وحليب الأطفال لأوقات الطوارئ والحاجة، وتهدف زيادة عدد المربعات إلى تسهيل العمل وتقاسم الأعباء وسهولة التحرك والشمولية، وضمان الفاعلية، وليس من باب تكريس المناطقية.

ثلج جنين 1992
ثلج
زار الثلج برقين آخر مرة في 9 و22 شباط 1992، حين عصفت بفلسطين منخفضات قطبية حادة. وقتها كنا فِتية، أسرعنا إلى اللهو بكراته، ولم نصدّق أن الأرض تغتسل من خطايانا بفستان عروس محافظ.
وقتئذ، اقتحمَ جـيش الاحـتلال البلدة، وفرضَ حظر التجوال في إحدى الزيارات، وبالكاد استطاع أبناء الحاجة "خزنة خلف" دفنها. ولاحقاً، حينما ذاب زائرنا، نظمنا رحلة بجرار زراعي لجبال الهاشمية المجاورة. وقتها لم يكن هناك "فيس بوك" ولم ينتشر هوس "السيلفي"، وكان دفء القلوب أكبر.
عام 1950 زار "الجنرال الأبيض" بلدتنا العامرة بكثافة، أما سنوات الثلوج الكبرى في برقين فكانت: 1921 و1934 و1950 و1992.
من القصص التي تسكن في أذهاننا، ما نثره لنا والدي رحمه الله، أن الثلج كان عنيفاً بدايات القرن الماضي، لدرجة أنه أغلق أبواب البيوت على ساكنيها، ولولا "الأسلحة البيضاء"، لما استطاع الأجداد الخروج، وقد أطلق الناس على ذلك العام (سنة الثلجة)، وقالوا إن فلاناً أو فلانة وُلدوا فيها.
عاد في الثلث الأخير من شباط الحديث عن الثلج مرة أخرى، وننتظر حساب البيدر وحساب الحقل لنرى الجنرال الأبيض، أو لنشاهد الغيث الذي ما زال يأتي على استحياء.

التسعينية الفاضلة جميلة راغب عتيق
الجميلة
شكلت الفاضلة جميلة راغب إبراهيم عتيق، التي تقترب من إكمال 90 عامًا علامة فارقة في برقين، فهي العصامية وسيدة الأعمال، والبائعة، والساعد الأيمن لوالدها، والوفية لزوجها الراحل، والملهمة لابنتيها، والمثال على السعي في مناكب الأرض.
كانت من أوائل ماجدات برقين اللائي يعملن في التجارة، بجوار والدها المرحوم أبو الفضل، وصمدت أكثر من نصف قرن في حانوتها قرب المسجد الشرقي.
رحل رفيق دربها عام 1965، وظلت تعمل في تربية صغيرتيها اليتيمتين، وشقّت طريقها حتى أقعدها المرض منذ 15 عامًا.
هي من القلائل من بنات جيلها اللواتي تعلّمن على يد الشيخ طاهر، وما زالت ذاكرتها تُلّم بسيرة برقين التجارية والاجتماعية.
لمثل الفاضلة (أم منال) تُرفع القبعات، وتُمنح أرفع أوسمة التكريم، ومنها نستلهم سيرة مُكحلّة بالكفاح ومُعطّرة بالعطاء وحافلة بالصبر على نوائب الدهر.