خاص بآفاق والبيئة
الدول الصناعية المتقدمة الأكثر ثراءً وتلويثاً تتخلف عن مدفوعات الدعم التي يتعين عليها تحويلها إلى البلدان النامية التي تكاد تكون غير مسؤولة عن الأزمة المناخية، لكنها الأكثر معاناة منها إلى حد كبير. وليس بالضرورة أن تأتي مساعدة البلدان النامية من ضخ مبالغ مالية ضخمة من البلدان الغنية التي هي ذاتها تواجه أزمات مناخية؛ إذ بإمكان الأخيرة التنازل على الأقل عن جزء من ديون الدول الفقيرة للبنوك الدولية ولبعض الدول الغنية. لهذا، يجب تغيير سياسة الهيئات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي. الموقف الاستعلائي للعديد من الدول الأوروبية وأستراليا وأميركا الشمالية، يعكس تجاهلاً لمسؤوليتها الكبيرة في تعويض غالبية البشرية التي تضطر إلى دفع ثمن باهظ نتيجة ثقافة الاستهلاك الفاحش غير المشروعة، واستغلال واستنزاف الموارد التي طورتها الدول الصناعية الغنية. المبدأ الذي يجب أن يحتل مكانة مركزية هو مبدأ "الملوِّث يدفع" وليس الملوِّث الذي يطلب سداد القروض بفوائد باهظة. المطلوب تحويل جزء صغير فقط مما يُستثمر اليوم في صناعة الأسلحة نحو القطاع الصناعي الخاص بالتعامل مع أزمة المناخ، ونحو تطوير البنى التحتية والتقنيات اللازمة للتكيف مع الأزمة، عندئذ سيطرأ تقدم كبير نحو الاستعداد للتكيف مع عالم من المتوقع أن يشهد سخونة بزيادة مطّردة في القرن القادم.
|
 |
أكد برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP) في تقريره المنشور عشية انعقاد قمة المناخ (COP27) في شرم الشيخ (نوفمبر الماضي)، أن العالم يعاني نقصًا خطيرًا في الاستعداد لمواجهة أضرار وعواقب أزمة المناخ، وأن الدول الصناعية المتقدمة الأكثر ثراءً وتلويثاً تتخلف عن مدفوعات الدعم التي يتعين عليها تحويلها إلى البلدان النامية التي تكاد تكون غير مسؤولة عن الأزمة، لكنها الأكثر معاناة منها إلى حد كبير.
وورد في التقرير نفسه المُعنون "القليل جدًا..." أن "الفشل في التكيف مع تغير المناخ يعرّض العالم للخطر، فالتمويل والتنفيذ لا يواكبان وتيرة تزايد المخاطر".
وذكر التقرير أن ثلث دول العالم فقط (البالغ عددها 197) لديها أهداف كمية ومحددة زمنيًا، في إطار خطط تأهبها لأزمة المناخ، بينما 84٪ من البلدان لديها خطط تكيف عامة.
ويشير التقرير إلى أن التمويل المطلوب لتنفيذ هذه الخطط والإستراتيجيات "غير موجود بعد".
معظم الخطاب الذي يتعامل مع المناخ مكرس لخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، في محاولة لمنع تجاوز الاحترار الخط الأحمر للاحتباس الحراري، أي أكثر من 1.5 درجة مئوية في المتوسط، مقارنة بما قبل المرحلة الصناعية.
لكن هناك أيضًا حاجة ملّحة للتعامل مع عواقب الواقع الحالي المتمثل في ارتفاع درجة حرارة الأرض بمقدار 1.1 درجة مئوية، ومن المتوقع حدوث احترار إضافي، علمًا أن المخاطر التي تشكلها أزمة المناخ تزداد مع كل عُشر درجة إضافية من الاحترار.
كما نعلم، يؤدي الاحترار إلى زيادة عدد الظواهر الجوية المتطرفة وشدتها، مثل موجات الحرارة، والجفاف، والفيضانات والعواصف، ما يتسبب في نقص الغذاء والماء، ونشوء موجات من لاجئي المناخ وتفاقم الأمراض.
تغير المناخ وجّه للبشرية ضربة تلو الأخرى، كما رأينا طوال عام 2022، وبخاصة الفيضانات التي غطت جزءًا كبيرًا من باكستان بالمياه.
ففي العام الماضي وحده، لقي آلاف الأشخاص مصرعهم وفقد الملايين منازلهم بسبب الفيضانات في باكستان وبنغلاديش والسودان.
وفي شرق إفريقيا، يعاني خمسون مليون شخص الجوع الناجم عن أسوأ جفاف شهدته المنطقة منذ أربعين عامًا، وتعامل البلدان النامية مع الكوارث المناخية يغرقها في ديون متزايدة باستمرار، وبالتالي يستنزف اقتصاداتها.
كما تعاني الدول الغنية آثار الأزمة، فعلى سبيل المثال، ضرب أخيرًا جنوب غرب أوروبا جفاف شديد، وهو الأسوأ في الـــ 1200 سنة الأخيرة وفقًا للعلماء.
وشهدت أوروبا الصيف الأكثر سخونة على الإطلاق في تاريخ القارة المسجل، إذ أسفرت درجات الحرارة المرتفعة عن وفاة آلاف الأشخاص، فضلًا عن الجفاف وتلف المحاصيل والحرائق الشديدة.
ففي الصيف الماضي تراوحت درجات الحرارة بين ( 40 و 43) درجة مئوية في بعض المناطق الأوروبية وكان أشدها في فرنسا، بل إن أعلى درجة حرارة (C47ْ) سُجلّت في البرتغال، وتحديدًا في 14 تموز الماضي (منطقة بينهاو). وفي بريطانيا تجاوزت درجة الحرارة الأربعين، وذلك لأول مرة في التاريخ المناخي البريطاني الموثق.
وفي الشتاء الحالي، صُدِمَت أوروبا بدرجات حرارة هي الأعلى في فصل الشتاء، إذ تجاوزت 20 درجة مئوية في العديد من البلدان الأوروبية التي عادة في هذه الفترة من السنة تكون درجات الحرارة فيها تحت الصفر.
الفجوة بين دول شمال الكرة الأرضية (الغنية) وجنوبها فيما يتصل بالتعامل مع أضرار الأزمة المناخية، شكلّت إحدى القضايا المحورية في مؤتمر المناخ في شرم الشيخ، إذ أن الدول الصناعية الغربية الغنية اكتسبت ثروتها إلى حد كبير، بنهب واستنزاف الموارد الطبيعية لدول الجنوب، وبفضل حرق الوقود الأحفوري الذي مصدره غالبًا دول الجنوب أيضًا، علمًا أن هذا الوقود يعد السبب الرئيس للاحترار العالمي، في حين أن مسؤولية الدول النامية والفقيرة عن الأزمة أقل بكثير، بل وغالبًا هامشية؛ ورغم ذلك فهي الأشد تضررًا من الأزمة والأكثر حاجة إلى المساعدة الاقتصادية.
سكان البلدان الغنية، بما في ذلك الولايات المتحدة الأميركية وكندا واليابان وجزء كبير من دول أوروبا الغربية، يمثلون جزءًا صغيرًا فقط من سكان العالم، لكنهم مسؤولون عن حوالي نصف إجمالي غازات الدفيئة التي انبعثت في الغلاف الجوي حتى الآن.
لهذا السبب، يدرك المجتمع الدولي بأن الدول الغنية تتحمل بالدرجة الأولى مسؤولية الحد من الانبعاثات بمدى أسرع من الدول التي لم تفعل ذلك، فضلاً عن مساعدة الدول الفقيرة مالياً على التكيف.

الدول الغربية تستهلك أكثر من نصف إجمالي اللحوم في العالم
فجوة كبيرة
جدير بالذكر، أنه منذ محادثات المناخ التي أُجريت في كوبنهاغن عام 2009، تعهدت الدول الصناعية المتقدمة أن تزود الدول النامية بمائة مليار دولار سنويًا لمساعدتها على التعامل مع الأضرار المناخية حتى عام 2020. وبحسب تقرير الأمم المتحدة الجديد، فإن الأموال التي حوّلتها البلدان المتقدمة ليست كافية لاحتياجات البلدان النامية "والفجوة مستمرة في الاتساع".
إضافة إلى ذلك، تقدّر الأمم المتحدة أن الاحتياجات الحقيقية اللازمة لاستعداد الدول النامية (لمواجهة الأزمة المناخية) تتفاوت من ( 160 إلى 360 مليار دولار) سنويًا حتى عام 2030، وبعدئذ، سترتفع الأرقام إلى ما لا يقل عن 315 مليار دولار.
لهذا السبب، تقول الأمم المتحدة "يجب الإسراع كثيراً في الحوالات المالية"، وبأن "مدى التنفيذ يزداد، لكنه لا يواكب تأثيرات التغيرات المناخية".
الحرب في أوكرانيا وجائحة كورونا ساهمتا في تفاقم أزمات الطاقة والغذاء، فضلاً عن ارتفاع تكاليف المعيشة والتضخم في العديد من البلدان.
ومع ذلك، لا يجوز السماح لهذه الأزمات بأن تدمر الجهود الدولية (ولو الضعيفة) المبذولة لزيادة مستوى التكيف؛ إذ تتعاظم الحاجة لإرادة سياسية غير مسبوقة واستثمارات طويلة الأجل في التكيف مع الأزمة، لوقف اتساع فجوة التكيف القائمة.

الولايات المتحدة والعديد من الدول الغربية دأبت منذ قرون على النهب اللامحدود للموارد الطبيعية في دول إفريقيا وأسيا وأميركا الجنوبية
أزمة ثقة
كما ذكرنا في مقال سابق، فإن أهم إنجازات مؤتمر المناخ في شرم الشيخ (COP27) تمثّل، لأول مرة، في الاتفاق على إنشاء صندوق جديد يمول معالجة الأضرار التي تسببت بها الدول الغنية والملوِّثة للدول النامية والفقيرة التي لم تخلق الأزمة المناخية، لكنها كانت عرضة لكوارثها بأسوأ أشكالها.
الصندوق عبارة عن "نصر رمزي" أكثر من كونه انتصارًا حقيقيًا؛ إذ هناك اتفاق مبدئي على وجوب القيام بذلك- لكن لم يُتخذ قرار بشأن من سيدفع، وكم ومتى، بل أُجلّت مناقشة التفاصيل إلى حد كبير حتى المؤتمر المقبل (COP28).
لطالما كانت مسألة المساعدات المالية من الدول الغنية لمنع الكوارث المناخية والاستعداد لعواقبها، في صميم اهتمام البلدان النامية.
في المؤتمر الأخير (COP27)، احتلت المساعدات المالية مكانة مركزية بسبب الأزمات التي واجهها العالم في السنوات الأخيرة.
أزمة الطاقة والصراعات بين القوى العظمى تثير تساؤلات حول مدى التزام الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين ودول أخرى بالتخلص من انبعاثات الكربون (تصفير الانبعاثات)، وهذا الواقع بطبيعة الحال يفاقم خوف الدول الفقيرة من اضطرارها إلى التعامل مع الأضرار الجسيمة بأنفسها.
ما يعني أنه من المرجح أن تضرب موجات الجفاف والفيضانات وكوارث أخرى البلدان الفقيرة وبقوة أكبر من أي وقت مضى، علمًا أن بعض تلك البلدان، وبخاصة باكستان ونيجيريا، عانت أخيرًا أضرارًا جسيمة، ففي باكستان غمرت الفيضانات في عام 2022 ثلث البلاد، واقتلعت 33 مليون شخص من منازلهم.
بالنظر إلى هذه المعطيات، وبدعم من منظمات بيئية عديدة، سعت العديد من البلدان في مؤتمر شرم الشيخ، إلى إعادة مبدأ الدفع مقابل "الخسائر والأضرار" (Loss and Damage) إلى محور المناقشات، علمًا أن هذا المبدأ اُتفق عليه في مؤتمر المناخ في بولندا قبل أكثر من تسع سنوات (COP19/ 2013).
ويتطلب المبدأ المذكور إنشاء آلية تمويل مالي تُخصص للأضرار التي تسببها أزمة المناخ والتي لا يمكن منعها.
وإجمالاً، تقول الدول النامية إن الدول الغنية هي التي يجب أن تتحمل الجزء الأعظم من التمويل؛ لكون الأخيرة هي التي ينبعث منها حاليًا معظم غازات الدفيئة، وتاريخياً هي التي تسببت في هذه الأزمة إلى حد كبير.
وما يعمق شكوك ومخاوف البلدان النامية تجاه الدول الغنية، هو أنها أخفقت في الوفاء حتى بالوعد الذي قدمته في الماضي؛ أي تحويل مائة مليار دولار سنويًا للمساعدة في إعداد البنية التحتية والتقنيات للتكيف مع أزمة المناخ، وفي معظم الحالات، الأموال التي حُوّلت قُدمت قرضًا وليس منحة.
مساعدة البلدان النامية ليس بالضرورة أن تأتي من ضخ مبالغ مالية ضخمة من البلدان الغنية التي هي ذاتها تواجه أزمات مناخية. إذ بإمكان الأخيرة التنازل على الأقل عن جزء من ديون الدول الفقيرة للبنوك الدولية ولبعض الدول الغنية.
لهذا، يجب تغيير سياسة الهيئات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي، كما أن التغيير مطلوب في طرق المساعدة التي تُعهّد بها.
واللافت أن أموال المساعدات تُحوّل حاليًا لأغراض التأمين، علمًا أن الشركات التي تدير هذا المجال هي في الغالب من الدول الغنية؛ لذا فهي التي تستفيد إلى حد كبير من الأموال المخصصة لفقراء العالم.
الموقف الاستعلائي لبعض الدول الأوروبية وأستراليا وأميركا الشمالية يعكس تجاهلاً لمسؤوليتها الكبيرة في تعويض غالبية البشرية التي تضطر إلى دفع ثمن باهظ نتيجة ثقافة الاستهلاك الفاحش غير المشروعة، واستغلال واستنزاف الموارد التي طورتها الدول الصناعية الغنية، في حين أن المبدأ الذي يجب أن يحتل مكانة مركزية هو مبدأ "الملوِّث يدفع" وليس الملوِّث الذي يطلب سداد القروض بفوائد باهظة.
المطلوب أيضًا مبادرات تتيح مقاومة أفضل للبلدان الفقيرة والنامية لمواجهة عواقب أزمة المناخ، وثمة أمور أخرى، منها أنه يجب الحفاظ على الغابات المطيرة، ما يتطلب تلقي دعم مهم من دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. إلى ذلك، يجب إضافة المساعدات التكنولوجية لغرض الاستخدام الفعال والأمثل للمياه، وزراعة الغذاء بما يتوافق مع التكيف مع الظروف المناخية المتغيرة، وتأهيل النظم البيئية التي يمكن أن تخفف من آثار الفيضانات.
ولتنفيذ هذه الإجراءات، من الأهمية بمكان تغيير الأولويات التي لا تتطلب بالضرورة الإضرار برفاهية الدول الغنية. فعلى سبيل المثال، لو حُوّل جزء صغير فقط مما يستثمر اليوم في صناعة الأسلحة نحو القطاع الصناعي الخاص بالتعامل مع أزمة المناخ، ونحو تطوير البنى التحتية والتقنيات اللازمة للتكيف مع الأزمة، فعندئذٍ سيطرأ تقدم كبير نحو الاستعداد للتكيف مع عالم من المتوقع أن يشهد سخونة بزيادة مطّردة في القرن القادم.