
حبيب معلوف
تضرب العالم فوضى مناخية لم يُشهد لها مثيل، ما من منطقة في العالم لم ولن تضربها الكوارث المناخية أو ما يسمى "المظاهر المناخية المتطرّفة".
ارتفاع معدلات درجات حرارة الأرض أكثر من 1.25 درجة حتى الآن، وتوقّع بأن تتجاوز الدرجة والنصف الدرجة قبل نهاية القرن، ذوبان الجليد في الأماكن المتجمّدة، وارتفاع منسوب المحيطات والبحار بمعدل 4 ملم كل سنة، وتوقّع ارتفاع منسوب سطح البحر في نهاية القرن الحالي بحدود 30 سنتيمترًا.
زيادة قوة الأعاصير وسرعة الرياح، زيادة في غزارة المتساقطات وزيادة الفيضانات، ثلوج في الخليج العربي وزيادة الجفاف في أماكن أخرى، زيادة الأعاصير والفيضانات في الولايات المتحدة الأميركية بعد زيادات في الحرائق قبل أشهر، وارتفاع معدلات الحرارة في أوروبا وحوض المتوسط في شهري يناير/ كانون ثاني وفبراير/ شباط اللذين كانا يصنفان بالباردين جداً.
كل هذه المظاهر تترافق مع توقع تقرير عن حالة المناخ في أوروبا بأن تزداد الحرارة صيفاً وشتاء وتسجل أرقاماً قياسية كل سنة، لا سيما منذ 8 سنوات، وأن تزيد معدلات الحرارة نصف درجة كل عشر سنوات.
وهذا ما يفسر تأخر فصل الصيف في بلد مثل لبنان إلى كانون الأول، فضلًا عن تفاوت معدلات درجات الحرارة لما قبل الأسبوع الأخير من شهر كانون الثاني من 15 إلى 19 درجة.
إضافة إلى كل ما سبق، أكدت الدراسات الأخيرة أن مقدار الخسائر والأضرار لأنموذج واحد من الكوارث المناخية التي حصلت في باكستان نهاية العام الماضي تجاوز 30 مليار دولار، وأن التكاليف السنوية لخسائر وأضرار أهم أنواع الكوارث المناخية كالفيضانات وارتفاع درجات الحرارة فقط، باتت تقدّر بمئات المليارات من الدولارات، مما يطيح بكل مكتسبات "التنمية" التي عرفتها البشرية.
في الإطار نفسه، أكدت الجولة الــ ـ27 من المفاوضات الدولية حول تغير المناخ التي انعقدت نهاية العام الماضي في شرم الشيخ أن المشكلة أكبر من عدم التزام الدول بتعهداتها، وقد أصبحت خارج الأطر التي تتمحور حولها المفاوضات.
المشكلة هي في الأنظمة السياسية والاقتصادية والمفاهيم المعولمة والمسيطرة المولّدة للكوارث، ومن المشكلات المسكوت عن تأثيرها المدمر، مفاهيم مثل التنمية والتقدم واقتصاد السوق والرفاهية.
ولعل المشكلة الأولى، التي لا تخلو منها أي فلسفة براغماتيكية سياسية، أو علم مسيطر، هي مسألة "التأكيد" وبخاصة تلك التي تعتمد مبدأ الحتمية. فكيف يمكن لإنسان يعيش وسط كم هائل من الأزمات والكوارث أن يكون أكيداً من شيء، أو أن لا يساوره القلق على كل شيء.
وأول ما يجب التشكيك فيه بعد كل هذه الكوارث "تأكيدات" أصحاب المصالح الكبرى وأصحاب السلطة والخبراء، لا سيما الدوليين منهم.
وأول المفاهيم التي يفترض نزع قدسيتها عنها بعد هذه الكوارث المناخية المدمرة والمكلفة هو مفهوم مثل "التنمية"، الذي يرتكز في جوهره على "الزيادة" في كل شيء وعلى حساب كل وأي شيء، أو من دون حساب لشيء غيرها، بوصفها زيادة.
لقد أثبتت الكوارث أن كل زيادة هي طوفان، تماماً كما يفيض الكأس ويطوف من أي زيادة فيه، وهذا ما يفسر زيادة الفيضانات حول العالم الناجمة عن زيادة المتساقطات بكثافة، لا بل جنوني، وهذا ما يفسر تشبيه العلماء لظاهرة أن تمطر في عشر دقائق ما كانت تمطره في شهر بـ"الظواهر المناخية المتطرفة".
فالزيادة في المتساقطات الناجمة عن الزيادة في الانبعاثات في الغلاف الجوي، ناجمة بدورها عن الزيادة في استهلاك الوقود الأحفوري والزيادة في إنتاج غاز ثاني أكسيد الكربون أو الزيادة في استهلاك اللحوم ومنتجات الزراعة الصناعية المكثفة وإنتاج غاز الميثان، وهي التي تتطلب اقتلاع الكثير من الغابات والتسبب بتدهور التربة وهدر المياه واستخدام الكثير من الأسمدة النيتروجينية والمبيدات الكيميائية، أو الزيادة في استخدام السيارات الخاصة، أو الزيادة في مساحات العمران والسكن على حساب الطبيعة، أو الزيادة في البصمة البيئية والكربونية عمومًا.
كل ذلك ناجم أيضاً عن زيادات في تراكم وتركز رأس المال المستثمر في كل هذه الدوامة المدمرة، التي لن تجد ما يخرجنا ويخرجها منها، سوى التراجع عن هذا الأنموذج الحضاري المسيطر؛ ما يعني عملياً، إنتاج تسوية أو صفقة تاريخية بين البلدان المصنفة بالمتقدمة وتلك النامية، تطلب من البلدان المتقدمة التراجع عن أنموذجها الحضاري التنموي المسيطر والتعويض على البلدان المتضررة، في مقابل تنازل البلدان النامية عن مطالبتها بالحق في التنمية "المدمرة" واعتماد أنموذج حضاري جديد - قديم أقرب إلى اقتصاد الطبيعة الدائري، على أن يكون جزءاً من التعويضات المطلوبة من بلدان الثورة الصناعية المتسبّبة بالكوارث لتمويل هذا الانتقال الحضاري، من حضارة التنمية وزيادة الإنتاج والاستهلاك واستنزاف موارد الطبيعة إلى الحضارة المتصالحة مع الطبيعة والضابطة لكل زيادة غير ضرورية.
فهل تنجح دولة الإمارات المتحدة التي بدأت في إعداد لوغو قمة "كوب 28" التي تستضيفها نهاية هذا العام، في وضع هذه الصفقة على جدول أعمال القمة المنتظرة، خصوصاً بعدما أعلنت أن مهمتها فتح حوار بين الدول لتقريب وجهات النظر وإنقاذ المناخ العالمي وتجنب المزيد من الكوارث المناخية؟