خاص بآفاق البيئة والتنمية
ظهرت في الآونة الأخيرة "كارثة" بيئية يُمكنها أن تبتلع غزة في جوف البحر في إثر عملية "تآكل الشاطئ" مُتواترة السرعة في السنوات الأخيرة. وتبدو الظاهرة واضحة في الصور الجوية للشاطئ وعلى مرأى من العين، فإذا ما استقللت مركبتك في شارع الرشيد -الواجهة السياحية للمدينة- والذي يُطِل على ساحل البحر مباشرة، ويمتد من المجدل شمالًا إلى رفح جنوبًا، سترى تآكلاً واهتراءً واضحًا لشاطئ البحر في عدة مناطق، وهي مخيم الشاطئ، ومنطقة الزهراء، ودير البلح، والقرية السويدية في رفح؛ ما يعني أن بؤراً عدة يهددها خطر الغرق من شمال الساحل حتى جنوبه.
|
|
خطة تطويرية لحل مشكلة تآكل الشاطئ في غزة |
اُشتِهر سَاحل فِلسطين بجمالهِ الأخاذ على مَرمى البحر الأبيض المتوسط، ولمّا أن اُحتلت فِلسطين عبرَ عاميّ 1948، و1967، بقيت "غزة" المدينةُ الفلسطينيةُ الوحيدة التي يمُكنها أن تَصحو على هديرِ البحر.
ويتمتع سُكانها المُحاصرون منذ عام 2007 والبالغ عددهم أكثر من مليوني نسمة، بهذا المُتنفس الوحيد، الذي يعد وجهًا أخيرًا للحرية والحياة، لكن ظهرت "كارثة" بيئية يُمكنها أن تبتلع غزة في جوف البحر في إثر عملية "تآكل الشاطئ" مُتواترة السرعة في السنوات الأخيرة.
وتبدو الظاهرة واضحة في الصور الجوية للشاطئ وللناظر بمرأى العين، فإذا ما استقللت مركبتك في شارع الرشيد -الواجهة السياحية للمدينة- والذي يُطِل على ساحل البحر مباشرة ويمتد من المجدل شمالًا إلى رفح جنوبًا، سترى تآكلاً واهتراءً واضحًا لشاطئ البحر في عدة مناطق وهي مخيم الشاطئ، ومنطقة الزهراء، ودير البلح، والقرية السويدية في رفح؛ ما يعني أن بؤراً عدة يهددها خطر الغرق من شمال الساحل حتى جنوبه.
ظاهرة تآكل الساحل باهتراء شاطئ البحر أو زواله ما هي إلا نتيجة للعديد من الأسباب البيئية والبشرية المختلفة، وقد بدأت هذه المشكلة في التفاقم في قطاع غزة مع إنشاء الميناء البحري في عام 1994، ومن المعروف بيئيًا أن الأشكال التي تُنشئها هذه الظاهرة "سريعة التغير نسبيًا"، فمعظم الشواطئ لا تبقى على حالها لأن تذبذب حركة المد والجزر والرياح والأمواج تهدمها، إضافة إلى الجروف التي يُصيبها التساقط خاصة إذا كانت مكونة من صخور مفككة.
وقد يبدو مشهدًا مُخيفًا للسكان أن ترى بأُم العين انجراف الشاطئ سواء في لحظات محددة بعينها أم بشكلٍ تدريجي عبر السنوات؛ الأمر الذي تسبّب في الوقت الحالي بانعدام مظاهر الاصطياف في هذه البقع الجغرافية التي كانت تَعمُر بالاستراحات البحرية وتنشُط بالباعة المتجولين وغيرهم من المظاهر الصيفية على الشاطئ، فضلاً عن خطر المنخفضات الجوية شتاءً والأمطار الشديدة مع ارتفاع الموج، وما قد يترتب عليه من مشاكل إيواء للسكان وغيره.
مخاطر هذه الظاهرة تمتد لمختلف الجوانب البيئية، والاقتصادية، والاجتماعية، والسياحية كذلك، والتقرير التالي يلقي الضوء على بعضٍ منها.
|
|
خطة تطويرية لساحل النصيرات |
شكل الساحل المتوقع بعد حل مشكلة تآكل الشاطئ في غزة |
حلول إغاثية لا تفي بالغرض
على مرّ السنوات الماضية، طُرحت حلول مؤقتة لاحتواء المشكلة من ضمنها ما قامت به وكالة غوث اللاجئين (الأونروا) في عام 2002، من إنشاء جدار حماية مكوّن من العديد من الأقفاص الحديدية المليئة بالصخور، ولكن بمرور الوقت قضى البحر على هذه الصخور وعمل على تحطيمها وتفككها.
وقد قدّم العديد من السكان في قطاع غزة من المناطق السابقة الذكر مُناشدات للجهات المختصة بما فيها وزارة الأشغال العامة والإسكان، والبلديات المختلفة المنبثقة عن وزارة الحكم المحلي، وكذلك لجهات دولية أخرى كـــ الأونروا، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي(UNDP) .
ومن هذه المناشدات ما قدمه المواطن أحمد زايد، بقوله: "أسكن في مخيم الشاطئ، وقبل أيام شاهدت انهيار جرف على شاطئ البحر، خشيت أنا وأهالي المنطقة أن يصل إلى الأسفلت العام، ويتسبب بانهياره إذا لم يُعالج، حيث لم يتبقى سوى متر ونصف المتر حتى ينضم الأسفلت العام لشارع المشاة، وهي ليست المرة الأولى التي يحدث فيها هذا الأمر؛ لذلك تواصلنا مع اللجنة الشعبية للمخيم والمسؤولين كافة".
وبدورها طالبت اللجنة الشعبية لمخيم الشاطئ الجهات المعنية بالتوصل إلى حلٍ جذري لهذه الظاهرة.
يقول رئيس اللجنة يوسف الزعلان: "شُكّلت لجنة من وزارة الأشغال ووكالة الغوث والبلديات، التي اقترحت حلولًا تحتاج إلى ميزانيات باهظة، وفي النهاية كل ما توصلوا إليه كانت مجرد حلول إغاثية لا تفي بالغرض، فالشاطئ يحتاج إلى حماية دائمة، لا مجرد حلول مؤقتة".
وأوضح في حديثه لـ "آفاق البيئة والتنمية": "نحن بحاجة إلى مشروع يمنع تآكل الشارع الرئيس الذي يفصل المخيم عن البحر، خاصة أن خطوط الصرف الصحي التي تمتد من منطقة الشيخ رضوان توجد تحت الأسفلت، ولم يتبقَّ إلا متر ونصف المتر حتى يصل البحر لأسفلت شارع الرشيد الذي كلّف الملايين، وإذا ما انهار سيغرق المخيم معه".
وعن اقتراب فصل الشتاء وترقب الأهالي لما قد تتطور إليه المشكلة "المستعصية"، أشار الزعلان إلى أنّه: "مع كل موجة يضربها البحر في الأسفلت يزداد خوف الأهالي أكثر، وفي كل شتاء من كل عام تكون القلوب وصلت الحناجر، ولولا رحمة الله لالتهم البحر المخيم مع أول موجة وفي أول منخفض جوي، في تلك الأوقات نعيش حالة قلق شديد".
ويردف قائلاً: "نحن في اللجنة الشعبية نراقب الأوضاع ليلاً ونهاراً، ونفكر كيف سنأوي الناس في حال أي طارئ عندما تتساقط الأمطار؛ لذلك نستمر في التواصل مع كل الجهات المختصة، وقد وضعت وزارة الأشغال مكعبات ورمال لكنها بطبيعة الحال لا ترتقي لحل المشكلة من جذورها، واقترحوا إنشاء ألسنة عامودية يُمكن بواسطتها أن يتراجع البحر، لكن هذا المقترح لم يرَ النور بعد".
وأكد رئيس اللجنة أنه بعد التوجه لوكالة الغوث، كان ردها: "المشروع يحتاج إلى ميزانيات باهظة".
|
|
شكل هندسي علاجي للساحل في غزة |
شواطئ بحر غزة المتآكلة |
أربعة أسباب
ومن جانبه، أكّد خالد الطيبي مدير دائرة صحة البيئة في وزارة الصحة أن حالات غرق عدة سُجلّت في قطاع غزة جرّاء ظاهرة تآكل الشاطئ، لكن السبب الرئيس لا يُذكر أو يُوثّق، وفق قوله، مبينًا أنه في صيف عام 2022 كان هناك 9 آلاف حالة عُرضة للغرق وتُوفي 4 منها.
وأضاف في حديثه لمراسلة "آفاق البيئة والتنمية": "كان الشاطئ الشمالي لغزة قبل نحو ( 5 إلى 10 سنوات) رمالاً لكن الآن لا يوجد البّتة، كنا نرى العديد من الاستراحات في منطقة السودانية وغيرها، والآن اختفت".
وفي سؤاله عن تأثير المشكلة على الثروة السمكية: "تأثيرٌ فادح، السمك لا يتواجد في البحر الراكد؛ لذلك نقترح أن تُنفذ مشاريع عاجلة لإنشاء مصدّات داخل البحر وليس على الشاطئ، أعتقد أننا بحاجة لعرض هذه المشكلة على جهات دولية، بعد أن لمسنا الغياب الحكومي الفاعل عن حلها".
قانون رقم (7) لسنة 1999 بشأن البيئة مادة (34) "يحظر إجراء أي عمل يكون من شأنه المساس بخط المسار الطبيعي للشاطئ أو تعديله دخولاً في مياه البحر أو انحساراً عنه إلا بعد الحصول على الموافقة البيئية من الوزارة".
http://muqtafi.birzeit.edu/pg/getleg.asp?id=13430
بدوره، أفاد وكيل وزارة الأشغال العامة والإسكان، ناجي سرحان، أن الوزارة صنّفت مناطق "مخيم الشاطئ، وشاطئ دير البلح، وشاطئ الزهراء، والقرية السويدية في رفح" بـــ "المناطق الخطرة"، وقد اختفت فيها الشواطئ وأصبحت المياه تصل للشوارع الرئيسة والأرصفة؛ تحديدًا في فصل الشتاء.
وعزا سرحان المشكلة لأربعة أسباب، الأول هو التغير المناخي الذي أثرّ بالدرجة الأولى في طبيعة الموج وارتفاع البحر.
والسبب الثاني هو المنشآت التي أُقيمت بطريقة "غير هندسية"، والكلام لسرحان، وتتمثل في الألسنة البحرية في كلٍ من "ميناء رفح، وميناء خانيونس، وميناء غزة"، حيث تعمل على تجميع الرمال من الجهة الجنوبية من تلك الألسنة؛ ما يُسبِب تآكلاً من الجهات الشمالية.
والألسنة البحرية هي تجمعات رسوبية تترسب من الرمال والحصى وتكون بارزة على سطح البحر، وقد اُستخدمت في قطاع غزة لأغراض سياحية فردية، ونتج عنها تركيز لأمواج البحر في الجهة الشمالية من اللسان؛ وفي الجهة المقابلة نحر لرمال الشاطئ.
أما السبب الثالث، وفق وكيل وزارة الأشغال، فهو عدم سماح الاحتلال الإسرائيلي بدخول الصخور، موضحاً: "هناك عدّة مشاريع نُفذّت لحل المشكلة، لاسيما مشروع أقامته وكالة الغوث لمخيم الشاطئ، وهو عبارة عن سلال بداخلها صخور وهي ألسنة تمتد في البحر سواء بشكلٍ عامودي أم موازٍ للشاطئ، لكن يا للأسف لم تستطع "الأونروا" بناء هذه الألسنة بسبب عدم سماح الاحتلال دخول الصخور لقطاع غزة".
وفيما يتصل بالسبب الرابع لمشكلة تقدم البحر باتجاه اليابسة، بحسب حديث سرحان، فهو ضعف التمويل، مؤكدًا أن الشاطئ بحاجة للحماية عن طريق تنفيذ برنامج مُتكامل من شمال قطاع غزة حتى جنوبه، ضمن مشروع قُدّرِت ميزانيته بما يقرب من 25 مليون دولار، داعياً إلى ضرورة إجراء دراسة متكاملة للشاطئ -قبل تنفيذ البرنامج- باستقدام خبراء، وذلك بميزانية تُقدّر بـــ 300 ألف دولار.
ولفت إلى افتقاد مناطق في الشاطئ إلى "كاسر أمواج" أيّ ألسنة موازية للشاطئ، والتي تعد أحد مكونات الحلّ اللازمة والتي تعمل على تخفيف حدّة الموج على الشاطئ، بينما تحتاج مناطق أخرى إلى "ألسنة عامودية"، وفق قوله، فيما تستلزم مناطق أخرى حماية الشاطئ سواء عن طريق مدرجات أم حائط خرساني، لأن الماء يصل إلى الشاطئ؛ الأمر الذي سيسمح بمنع تآكل الشوارع الرئيسة.
وعن دور وزارته، قال ناجي سرحان، إنها تعتمد في حماية الشواطئ على مُخلّفات البناء وهي القواعد والأعمدة التي يخلّفها الدمار الذي يُحدثه الاحتلال الإسرائيلي في عدواناته المتعاقبة على قطاع غزة، مبينًا أن فريق العمل في وزارة الأشغال يستخدم تلك القواعد "مصدّات بديلة عن الصخور" سواء كانت على الشاطئ مُباشرة من باب الحماية لتآكل الرمال أم داخل البحر عن طريق عمل ألسنة.
واستدرك قائلاً: "لكن بطبيعة الحال هذه كميات قليلة وغير كافية".
وزاد بالقول عن طبيعة عملهم: "في فصول الشتاء على مر السنوات الماضية عملنا في إطار "الطوارئ"، ودائمًا كانت طواقمنا متأهبة على الشواطئ لإنقاذ المناطق التي تُفتح تلقائيًا من جديد في كل مرة، بمعنى آخر نقدم حلولًا "ترقيعية".
لسان كاسر للموج كخطة علاجية لتآكل شواطئ غزة
تجاهل دولي "للمنطقة الساقطة"
وكان مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ العالمي الأخير (COP26) والمنعقد في غلاسكو ببريطانيا قد ذكر معظم المدن الساحلية في العالم التي تواجه خطر الغرق، إلا أنه تجاهل قطاع غزة، لذلك توجهنا بالاستفسار من وكيل وزارة الأشغال عن جهودهم في عرض المشكلة دوليًا، وكان جوابه: "معظم الجهات الدولية تعد قطاع غزة منطقة "ساقطة"، قدمنا تفاصيل عن المشكلة وعلاجها لليونسكو والأونروا، وUNDP والمؤسسة البلجيكية والتجاهل كان سيد الموقف، باعتبار أنّه مشروع تنموي، وكل المشاريع التي تُموّل هي في إطار الإعمار".
سألناه عن الخسائر المترتبة على تفاقم هذه الظاهرة، ولم يكن لديه أرقام دقيقة، وعزا ذلك لما أسماه بـ "الجهد الذاتي" في الوزارة، مبينًا أنّهم خسروا ما يُقدر بـ "مليون دولار" في السنوات الماضية رغم الإمكانيات المحدودة لعملية نقل الكتل الخرسانية وشرائها ووضعها في المناطق المتضررة.
ولفت إلى أن خسائر القطاع الخاص في هذا الصدد "أكبر بكثير"، مستشهداً بمثال على شركة فلسطين للاستثمار العقاري PRICO التي نفذّت عدة مشاريع استثمارية في قطاع غزة في مناطق ساحلية مختلفة، وقد أعلنت عن خسائرها البالغة في الربع الأخير من عام 2017 (13.3 مليون دولار) بنسبة 366.7% على أساس سنوي.
خطورة انجراف شارع الرشيد
ومن ناحيته، قال محمد النجار مدير عام المجلس الاقتصادي الفلسطيني للتنمية والإعمار (بكدار) إن هذه الظاهرة البيئية الخطيرة تمتد على طول ساحل الشاطئ المقدّر بـ (45 كم)، وتمتد جذور أسبابها إلى عام 1902 عند بناء السدّ المنخفض، مرورًا بعام 1964 عند بناء السدّ العالي؛ ما أدى إلى تقليل نسبة الرمال المتنقلة من نهر النيل إلى البحر، وتفاقمت عام 1994 عند بناء ميناء غزة، ومن ثم ميناء العريش".
وتسبّبت الظاهرة في انهيار جزء من مناطق الشاطئ تمثلت بانجراف 120 متراً في غضون 30 سنة خلت، بما يشير إلى تآكل ( 3-4 متر) سنويًّا، تبعاً لحديثه.
وحذّر من خطورة انجراف شارع الرشيد، مقترحاً تشكيل لجنة تتكون من عدّة وزارات لتتعاون معاً من أجل تنفيذ خطة مشتركة، وهي "الأشغال، والحكم المحلي، والبيئة، والصحة، والزراعة، والنقل والمواصلات".
ومن المعروف أنّه يطلّ على ساحل القطاع 10 بلديات فرعية؛ لذلك دعاها النجار لتولي دورها في عدم منح تراخيص عشوائية لكل بناءٍ غير مدروس هندسياً يمكنه أن يفاقم مشكلة تآكل الشاطئ، مشيرًا إلى ضرورة تنفيذ خطة إستراتيجية واضحة لحمايته من بيت لاهيا إلى رفح، والتي تكلّف نحو 15.500 ألف دولار، مؤكدًا أن المانع الوحيد أمام تنفيذ هذه الخطة هو التمويل.
وإلى أن تقوم الجهات المعنيّة بدورها اللازم لتنفيذ حلولٍ جذرية لهذه الكارثة البيئية سيبقى قطاع غزة يواجه خطر الغرق في كل شتاء، مُنتظرًا تكاتف الجهود المحلية والدولية لإنقاذه.
|
|
الشكل الحالي لظاهرة تآكل شواطئ غزة |
تآكل شواطئ قطاع غزة |