خاص بآفاق البيئة والتنمية
قد نعتقد بأن أسواقنا وما فيها من تنوع لأشكالٍ وألوانٍ مختلفة من الخضار والفاكهة بأن فيها كُل شيء. الحقيقة أن هذا مجرد خيال ووهم بالوفرة، فالواقع أن الكثير من الأصناف المحلية التي استمتع أسلافنا بأطعمتها المميزة اندثرت، إما لأنها غير مُجدية اقتصاديًا وإما لأنها غير ملائمة للنقل لمسافات طويلة. هكذا اختفت البندورة "البعلية" لأن إنتاجيتها أقل بكثير من البندورة الصناعية "الهجينة" ولأنها لا تحتمل النقل والتخزين، ومع ذلك نجد ثلّة قليلة من المزارعين لا تزال تحارب من أجل بقاء هذه البندورة البلدية لسبب بسيط، لأن "الحبة منها بتسوى كيلو من البندورة الصناعية" فهي أغنى وذات طعم مميز، وهو ما يعترف به حتى المشتغلون في تطوير الأصناف الهجينة. في السطور التالية، سنقوم برحلة بحث عن مناطق اشتهرت بزراعة البندورة البلدية قديمًا ومناطق ما تزال تزرع وتحافظ على أصناف البندورة البلدية والبعلية التي عرفها أجدادنا منذ أن عرفوا البندورة قبل 200 عام تقريبًا، في مطلع القرن التاسع عشر.
|
|
مقارنة بين البندورة "الأصلية" والبندورة الهجينة |
قد نتخيل اليوم ونحن نتأمل أسواقنا وما فيها من تنوّع لأشكال وألوان مختلفة من الخضار والفاكهة بأن فيها كُل شيء. الحقيقة أن هذا مجرد خيال ووهم بالوفرة، فالواقع أن الكثير من الأصناف المحلية التي استمتع أسلافنا بأطعمتها المميزة اندثرت، إما لأنها غير مُجدية اقتصاديًا وإما لأنها غير ملائمة للنقل لمسافات طويلة.
هكذا اختفت البندورة "البعلية" لأن إنتاجيتها أقل بكثير من البندورة الصناعية "الهجينة" ولأنها لا تحتمل النقل والتخزين، ومع ذلك، نجد ثلّة قليلة من المزارعين لا تزال تحارب من أجل بقاء هذه البندورة البلدية لسببٍ بسيط، لأن "الحبة منها بتسوى كيلو من البندورة الصناعية" فهي أغنى وذات طعم مميز، وهو ما يعترف به حتى المشتغلون في تطوير الأصناف الهجينة.
في السطور التالية، سنقوم برحلة بحث عن مناطق اشتهرت بزراعة البندورة البلدية قديمًا، ومناطق لا تزال تزرع وتحافظ على أصناف البندورة البلدية والبعلية التي عرفها أجدادنا منذ أن عرفوا البندورة قبل 200 عام تقريبًا، في مطلع القرن التاسع عشر.
موجز تاريخ البندورة
في بداية الرحلة، لا بُد أن نسأل أنفسنا عن الموطن الأصلي للبندورة؟
قد يتخيّل المتأمل لعشق أهل بلادنا لهذه الحمراء المُغرية بأن علاقتنا معها تعود إلى ما قبل التاريخ، لكن هذا غير صحيح كما تقول مُعظم الدراسات.
البندورة وصلتنا متأخرة من موطنها الأصلي البيرو والمكسيك، فقد عرفها السُكان الأصليون لأميركا قبلنا بمئات السنين. وحتى اليوم لو بحثنا عن الأصناف القديمة من البندورة (Heirloom tomato) سنجد العديد من المسميات التي تذكرّنا بأسماء قبائل أميركا الأصليين مثل قبيلة "الشيروكي" التي زرعت واحدة من أصناف البندورة التي تحظى بسمعة ممتازة بين المزارعين الباحثين عن الطعم الأصيل واسمها "شيروكي بربل cherokee purple"، هذا غير أن لفظة طماطم نفسها مستوحاة من لغة الآزتيك في المكسيك.
رسم توضيحي لصنف البندورة المسمى على اسم قبيلة الشيروكي
بدايات "الغرام" بالبندورة
هناك شبه إجماع، على أن البندورة دخلت إيطاليا وإسبانيا في القرن السادس عشر وهناك سُميت "بومودورو – pomodoro" أو "التفاحة الذهبية" وذلك بعد "اكتشاف أميركا" ومن هناك انتقلت إلى بلاد البلقان والأناضول كما انتقلت إلى بلاد الشام ومصر ولا يُعرف كيف وصلت بالضبط.
ويكفينا أن نعرف أنها سميت أول الأمر في بلاد الشام بــ "الـباذنجان الإفرنجي" لأنها قادمة من بلاد الفرنجة (أوروبا) قبل أن تسمى بنادوري وبندورة، أما في مصر فقد سُميّت بـ"قوطة" كونها قادمة من مملكة القوط (أوروبا)، إضافة إلى تسميتها بالطماطم.
في البداية لم يُرحب بها، ومن أشهر ما يُتداول في هذا أن بعضًا أطلق عليها لقب "مؤخرة الشيطان"، وقد وصل الأمر أحيانًا لاستصدار فتوى تُحرّم أكلها ظنّا بأنها تتسبّب بالأمراض.
لكن كما يقول محمد كرد علي في موسوعته "خطط الشام" التي صدرت عام 1925: "فقد دخلت الشام في العهد الحديث عدة ضروب من الزروع والغرِاس لم تكن فيه من قبل.."، ومنها "البطاطا والبندورة"، ويضيف: "أصبحت البندورة والبطاطا من أهم أنواع الأغذية، وسرعان ما انتشر الغرام بهما، وعمّت البلدان القاصية والدانية زراعتهما".
دخول البندورة إلى القدس
بالبحث عن تاريخ دخول البندورة إلى فلسطين، لا نجد الكثير من التفاصيل كما يُمكن أن نجد في تاريخ دخولها إلى مدينة حلب من كتاب "نهر الذهب في تاريخ حلب" تحت عنوان "ظهور بقلة الطماطم إلى حلب"، حيث يُشار بأن بذورها دخلت عن طريق أحد التجار القادمين من مصر عام 1854 (وليس القنصل البريطاني كما يُقال في بعض المصادر). أما في فلسطين وتحديدًا في القدس فإن أقدم إشارة لدخول البندورة بحسب الباحث المقدسي بشير بركات، كانت في السجلاّت الشرعية ضمن قائمة بأسعار الخضروات والفواكه في شوال (1232 هـ/ 1817م)، وبالتالي فإن دخول البندورة للقدس سبقَ دخولها إلى حلب، ويرجع الباحث بركات السبب إلى تردد الحجاج النصارى إلى القدس.
بندورة "القدس" و"موشيه ديّان"
بالبحث أكثر، نجد القدس وتحديدًا قرية "أبو غوش" حاضرة في توثيق واحد من أصناف البندورة القديمة وهو صنف "مرمند" أحضره أحد الصهاينة المهاجرين إلى فلسطين (بحدود عام 1924).
وقد جاء في وصف هذا الصنف بأنه يُشبه أحد الأصناف التي كان يزرعها الرهبان في دير لهم في قرية أبو غوش وكانوا يسمونه "بنادورة"، وهو ما يذكره موقع إسرائيلي متخصص بالبذور البلدية القديمة.
نفس هذا الصنف "مرمند" شهد "حربًا" عام 1960 من قِبل "موشيه ديان" الذي كان "يحمل السلاح في يد والمعول في اليد الأخرى"، وأصبح لاحقًا وزيرًا للزراعة في الحكومة الإسرائيلية.
كان "موشيه ديان" يحاول أن يستبدل الأصناف المحلية البلدية بصنف جديد يُدعى "مني ميكر MoneyMaker" - أي صانعة النقود - وهي تشبه بندورة "القطوف" إلى حد كبير، وكانت الفكرة بأنها مربحة أكثر للمزارع وملائمة للتصدير لكن طعمها لا يُقارن بالبندورة البلدية.
وبعد احتدام النقاشات التي تعارض فرض هذا الصنف، صارت تسمى "بندورة ديّان".
هذه الحرب على البندورة البلدية، لم تكن بعيدة عن تاريخ بدء اختفاء البندورة البلدية من أسواقنا، فالكثير من كبار السن يتذكرون البندورة البلدية/البعلية بأنها تذكرّهم بسنوات الستينيات والسبعينيات.
فهذا "رياض تركمان" من مجموعة "حكي القرايا" يشير إلى أن البندورة البلدية كانت موجودة بكثرة قبل سنة 1967 (احتلال الضفة الغربية) وكانت "طبيعية مئة بالمئة ومن دون أسمدة ولا مواد كيماوية".
كما نجد بعض المزارعين مثل أبو طه من كفر كنا الذي لا يزال يزرع البندورة البلدية، يُطلق على الأصناف الجديدة مسميات مثل "بندورة صناعية" و"بندورة الحكومة".
هذه الأحاديث تشير - وربما تؤكد أن البندورة "البلدية" لم تختفِ بالصدفة، بل كانت هناك سياسات زراعية حكومية ساهمت في اندثارها.
البندورة الخليلية
الحرب التي شنّها "موشيه ديّان" على البندورة البلدية، بالترويج لأصناف "سيئة الطعم" و"مدرّة للأرباح" وجدت طريقها إلى أراضينا بل وموائد طعامنا، فالكثير من الأصناف البلدية البعلية اندثرت، ولم يشفع لها طعمها المميز، كما لم يشفع لها صمودها أمام الظروف المناخية الصعبة وتحملها للعطش ومقاومتها للكثير من الأمراض التي تصيب غيرها من البذور الهجينة التي نستوردها من شركات البذور (غالبًا من هولندا).
في عام 2012، قام بنك البذور في الخليل بحفظ الكثير من البذور من خطر الانقراض مثل البندورة البعلية وغيرها من الأصناف المحلية التي تصل إلى 37 صنفًا.
في مدينة مثل الخليل، حيث لا تزال أصناف العنب البلدية حاضرة ولا تزال الزراعة البعلية حاضرة حتى اليوم، نجد كذلك اهتمامًا بالبندورة البلدية في قرية مثل بيت أمّر التي تذكر الموسوعة الفلسطينية بأنها من القرى التي عُرفت بزراعة البندورة، ولا عجب فــ "بيت أمّر" تقع على ارتفاع 987 عن سطح البحر وهو - بحسب بعض المزارعين - الارتفاع الأكثر ملائمة لزراعة البندورة الجبلية البعلية، ولا عجب، فإن الجبال كانت - ولا زالت - أفضل الأماكن التي يُمكننا العثور فيها على "بقايا الزراعة البعلية".
وكي لا ننسى ورغم شح المعلومات عن الزراعة البعلية، فإن معظم الزراعة في فلسطين عبر التاريخ كانت بعلية والزراعة المروية لم تُعرف إلا في القرى الغنية بالعيون والينابيع.
بندورة سنجل وترمسعيا
إذا ما انتقلنا من القدس والخليل، إلى رام الله، وتحديدًا قرى سنجل وترمعسيا ومَزارع النوباني، ففي مزارع النوباني تقع المزرعة الإنسانية التي يقوم عليها المهندس سعد داغر وهو من أنشط الدعاة للزراعة البيئية في فلسطين وحفظ البذور البلدية، ويقوم على مشروع خابية لحفظ ونشر البذور البلدية.
في قرية سنجل، يزرع الأستاذ عدي عصفور الأصناف البلدية من البندورة ويسوّقها بنفسه في سوق الفلاحين الذي تنظمه مبادرة شراكة لحفظ الموروث الزراعي.
إلى الجوار من "سنجل" في قرية ترمسعيا يسكن نضال ربيع مؤسس مجموعة حكي القرايا، وهو نفسه من مزارعي "البندورة الزهرية البلدية" .
بندورة السافرية "أم البندورة"
في قضاء الرملة، كانت هناك قرى تُدعى السافرية أقيمت على أراضيها اليوم "كفار حباد" وكانت هذه القرية من أشهر القرى بزراعة البندورة حتى لُقّبت بـ"أم البندورة" لغزارة إنتاجها للبندورة بالأخص في الجهة الشمالية من أراضيها، حيث زُرعت بكميات تجارية، وبالتالي كانت من أهم الموارد الاقتصادية للقرية، فكانت بندورتها تُباع في يافا واللد والرملة.
وقد جاء في كتاب "في السافرية" لحسن محمد عوض بأن سحّارة البندورة من وزن ۲۰ كيلو غرام كانت تُباع في أوائل الأربعينيات بقرشين في سوق اللد.
أما الأصناف التي زُرعت في السافرية وإذا ما كانت بعلية، فهذا ما لم نستطع الوصول إليه في رحلتنا هذه.
بندورة "السافرية"، كانت تختلف - على الأغلب - عن البندورة الجبلية التي زُرعت في جبال القدس والخليل ورام الله، فالسافرية تقع في السهل الساحلي، ونجاح الزراعة فيها يجعلنا نتوقف عند نجاح الزراعة في قرى المثلث في السهل الساحلي.
وبحسب المرشد الزراعي عمر زيدان فقد كانت قرى المثلث مثل كفر قاسم وباقة الغربية عبارة عن سلّة خضار في السبعينيات، وقد زُرعت فيها البندورة الصناعية "تمار" زراعة مكثفة وبكميات هائلة، وكانت تُزوّد بها مصانع تعليب الأغذية وصناعة "رب البندورة"، ولكن انتشار الآفات الزراعية مع انتشار الزراعة المكثفة ساهم مع أسباب اقتصادية أخرى في تحول كُل هذه المناطق إلى مناطق صناعية ومخازن في يومنا هذا.
البندورة العبوشية وصلت مصر
إلى الشمال من الرملة نجد في قضاء طولكرم (وهو الذي يُعرف بالبندورة أيضًا) قرية كفر عبوش، قد اشتهرت بجودة بندورتها حتى أُطلق عليها لقب "البندورة العبوشية".
وفي الحديث مع بعض المزارعين في القرية وجدناهم يذكرون - بكل فخر - بأن سُمعة هذه البندورة وصلت حتى مصر، لكن المؤسف أنها لم تصمد أمام الأصناف الجديدة، وقد تلاشت زراعتها في الثمانينيات كما يذكر عبد السلام صيفي من القرية.
ويوضح بأن جهل الناس بمميزاتها أدى لاختفائها؛ فقد "كانت شيئًا خرافيًا وكانوا "الختيارية" يحدثوننا كم وصل حجم الحبة الواحدة، وهو شيءٌ لا يُصدق في بعض الأحيان".
يحدثنا مراد الزبن أنه لم يعد أحد يزرع هذا الصنف من باب التجارة، ومعظم ما يُزرع منه في ساحات البيت، ويحاول هو وآخرون استعادة زراعة هذا الصنف وحكاياته.
وفي السياق نفسه، يُذكر أن أهالي كفر عبوش امتلكوا قبل نكبة عام 1948 مناطق واسعة في السهل الساحلي تُعرف باسم "غابة العبابشة"، واستصلحوا بعض أراضي الغابة وزرعوها، فبحسب الباحث البروفيسور مصطفى كبها، فقد عُرفت منطقة بصة الفالق القريبة بالإنتاج الوفير من البندورة البعلية قبل النكبة.
بندورة بلدية من قرية عنبتا في قضاء طولكرم نشرها أبو طارق اعمر في مجموعة حكي القرايا
بندورة طمون "الذهب الأحمر"
بالتوجه نحو الشمال أكثر، نمر من نابلس ومن سهل أودلا الذي عُرف كذلك بزراعة البندورة البلدية، لكننا سنتجه إلى محافظة طوباس" التي تُعد مع محافظة طولكرم بمثابة "سلة الخضار الفلسطينية" قاصدين قرية طمون.
في "طمون" تعد زراعة البندورة حتى اليوم من الموارد الاقتصادية المهمة للقرية، لكن من الجدير بالذكر أن معظم البندورة المزروعة هي مما يصنفه الكبار "بندورة صناعية" أو "بندورة الحكومة" التي تُزرع في البيوت البلاستيكية التي تغطي سهل البقيعة.
وقد كُتب عن وصف بندورة طمون بأنها "الذهب الأحمر" وأحيانًا " النفط الأحمر".
لكن يا للأسف فإن البندورة البلدية اختفت إلى حد كبير، ولم تعد تُزرع بكميات تجارية حتى في هذه المنطقة، والحال لا يختلف كثيرًا في طوباس التي تشتهر أيضًا بالبندورة، وحتى قرى مثل قرى صير وجبع التي كانت تصدّر البندورة في الماضي.
بندورة الكرمل
من جنين ننتقل إلى حيفا حيث لم تُعرف قراها بالبندورة البعلية كما هو الحال في المناطق الجبلية والمرتفعة، ومع ذلك نجد قرية السنديانة في بلاد الروحا، تُذكر في الموسوعة الفلسطينية بأنها اشتهرت بزراعة الخضار المروية، ويذكر الكاتب أن أبرزها البندورة، وقد ساعد في ذلك كثرة الينابيع في القرية.
بينما في حيفا، وتحديدًا في منطقة "روشمية" على جبال الكرمل التي تعد أغنى المناطق الفلسطينية بتكوّن الندى ويصل عدد ليالي الندى هناك 250 ليلة (موسوعة فلسطين الجغرافية، 1969) ما يساعد على الزراعة البعلية بامتياز، حيث يُعد الندى من مصادر المياه الأساسية للنباتات في فصل الصيف الجاف.
وهذا ما يؤكده حديث الكاتب عبد الله عوده في كتابه عن قرية الكبابير عن البندورة التي كانت تُزرع في منطقة روشميا قائلًا: "يصف شيوخ القرية ممن لا يزالون يذكرون تلك الفترة خصوبة أرض رشميا بقولهم إنها كانت تأتي بأحسن المحاصيل الزراعية من بين أراضيهم كلها... البندورة البعلية كانت تظل تعطي ثمارها حتى موعد الحرث الجديد في أيام الخريف، فكانوا يقلعونها ويجمعوا ما عليها من الثمر الذي لم ينضج بعد، ثم يدفنونه في التبن إلى أن ينضج وهكذا يأكلون البندورة حتى فصل الشتاء، وهكذا كانت تؤتي أُكلها مرتين".
في الكرمل اليوم، لم تعد روشميا تَزرع البندورة، لكن برزت قرية عسفيا في أعالي الكرمل بزراعة البندورة التي صارت تُعرف ببندورة عسفيا، فهي تُزرع في مناطق مرتفعة والأجواء ملائمة جدًا لزراعة البندورة التي تنزل إلى الأسواق في شهر آب وأيلول، وتتميز بطعم ممتاز كما حدثنا المرشد الزراعي عمر زيدان في مقابلة هاتفية معه.
وقبل أن نغادر حيفا، إلى بلاد الناصرة، لا بُد أن نذكر أن إحدى الشركات الإسرائيلية المتخصصة بالبذور البلدية تسوّق اليوم بذور بندورة بلدية تسمى "بندورة الكعبية"، والكعبية هي إحدى قرى قضاء حيفا سابقًا، ويسكنها عرب الكعبية وتتميز بلونها "الزهري" وطعمها الحامض والغني كما جاء في موقع الشركة والتكلفة هي "12 شيكل لكل 20 بذرة" وهو سعر مرتفع جدًا إذا ما قورن مع أسعار البذور البلدية في أي مشتل من مشاتلنا الفلسطينية.
المزارع بركات طه من كفر كنا - تصوير عمر عاصي
البندورة "الكناوية" وصلت حوران
من حيفا إلى الناصرة، وتحديدًا في بلدة كفر كنا في الجليل التي اشتهرت بالرمان، نجد أن البندورة كان حضورها قويًا في اقتصاد القرية في ثلاثينيات القرن الماضي كما حدّثنا المزارع بركات طه (77 عامًا) فقد كان والده يزرع البندورة الجبلية في "جبل شويخة" قرب العين البيضا، حيث التربة البيضاء ملائمة لزراعة البندورة الجبلية البعلية وتحديدًا في شهري نيسان وأيار.
وكما يقول طه فإن كميات الندى كانت تساعد على ذلك (وهو ما يُفتقد اليوم) ومما يساعد في الزراعة استخدام الأسمدة العضوية مثل "روث الحيوانات" الذي يقول فيه بأنه "لا يُعلى عليه".
مؤكدًا أن زراعة البندورة البعلية كانت مُجدية لوالده الذي كان يزرع 50 دونمًا من البندورة وكانت تُصدّر إلى حوران في سوريا.
معظم ما يُزرع من بندورة في سهل كفر كنا ليس بعليًا 100%، بل يكون مرويًا أحيانًا، وبحسب المزارع طه فإنه لا يعرف أحدًا في بلده يمارس زراعة البندورة البعلية حسب أصولها القديمة، ومعظم المزارعين اليوم للأصناف البلدية يزرعونها للاستخدام العائلي وقد تُباع في أطر ضيقة للمعارف مثلًا.
في السنوات الأخيرة، انتقلت بذور البندورة الأصلية إلى القرى المجاورة وزاد الاهتمام بها، كما هو الحال في قرية طرعان التي ينشط فيها مزارعون مثل الشيخ عصام دحلة الذي يزرع البندورة البلدية التي تعتمد على الأصناف البلدية القديمة، لكنه يقوم بالري وإضافة الأسمدة غير العضوية، ومع ذلك فإن الزبائن الذين يشترون البندورة البلدية يدركون الفرق الكبير بين طعمها وطعم الأصناف الحديثة، وبالتالي فإنه لا يوجد إشكالية في تسويقها.
أيضًا في قرية صفورية في قضاء الناصرة، نجد أن بعض أهالي صفورية ما زالوا يزرعون هذه الأصناف البلدية وتُباع في سوق صفورية الموجود على أراضي القرية وتُباع بأسعار أغلى من البندورة "الصناعية" ومع ذلك فإن الطلب عليها كبير جدًا كما حدثنا البائع زيد بركة.
بندورة البطوف تناضل من أجل البقاء
من كفر كنا ننتقل إلى مرج البطوف القريب، وهو الذي يُدعى في المراجع التاريخية بـ "مرج الغرق"، وهذه التسمية عرَفتها بعض مروج وسهول فلسطين مثل مرج صانور، وكذلك مرج الغرق قرب قرية صفصاف قضاء صفد، وهناك أيضًا سهل دير بلوط الذي "يغرق" بعد كل شتاء، وهذه كلها مناطق عرفت الزراعة البعلية تاريخيًا.
أكثر ما اشتهر به مرج البطوف (يُعرف أيضًا بسهل البطوف) هي زراعة البطيخ و"المقاثي"، كانت البندورة البعلية تُزرع بكميات كبيرة وينتج عنها مئات الأطنان من البندورة التي كانت تُستخدم لتحضير عصير البندورة كما حدثنا عمر واكد نصار رئيس بلدة عرابة البطوف، مشيرًا إلى أن زراعة البندورة والبندورة البعلية قد تراجعت تراجعًا كبيرًا جدًا، وتُزرع الآن للاستهلاك المنزلي طلبًا لطعمها الذي يتميز بشيء من الحموضة التي تعطي الأطعمة نكهة خاصة.
الجدير بالذكر، أن التحول من الزراعة البعلية إلى الزراعة المكثفة قد ساهم في ازدياد الآفات الزراعية التي لم تكن معروفة من قبل، كما أكد لنا المرشد الزراعي عمر زيدان الذي عاصر هذه التحولات الزراعية وبالأخص انتشار نبات مثل الهالوك، وحشرات مثل العنكبوت والمن بكميات لم تكن معهودة في الماضي.
بندورة بلدية من أراضي قرية البعينة في سهل البطوف - تصوير محمد السعدي
البندورة الرصاصية قبل "الشيري الإسرائيلية"
قرية لوبية قضاء طبريّة (طبريا) اشتهرت كذلك بصنف من البندورة يُدعى "الرصاصية" وهي "ذات ثمار صغيرة جدًا" كما يذكر ابراهيم يحيى الشهابي في كتابه "لوبية قبل النكبة"، وهي تذكرّنا بالبندورة الكرزية "شيري" إلا أن شكلها مثل حبّة البلوط أو حتى "الرصاصة".
وفي مقالة لجمال علي حول الحياة الاجتماعية في لوبية، يذكر بأن أهالي لوبية كانوا يشترون بندورة طبريّة لأنها "كبيرة" بينما بندورة لوبية حباتها صغيرة، ولعل بندورة لوبية تستحق أن نبحث بشأنها أكثر، لا سيما أنها تؤكد لنا أن البندورة الصغيرة الكرزيّة ليست اختراعًا إسرائيليًا كما يُحاول الإعلام الإسرائيلي أن يروّج بين الفينة والأخرى، فالأصناف الصغيرة معروفة مُنذ القدم وهي ليست من "الاختراعات الإسرائيلية التي غيرت العالم".
البندورة الصفدية
ما دُمنا في طبرية، فقد اقتربنا من صفد وقراها وجبالها الشاهقة، التي كما يبدو كانت من أشهر البلاد بتصدير البندورة الجبلية" المعروفة بأنها "ذات حجم أكبر وذات لحم أشد" وكانت تُصدّر إلى الجوار، فحتى سامي اليوسف من لوبية يذكر في كتابه "تلك الأيام" بأنه عملَ في تجارة البندورة مع والده، وكانوا يشترون القمح أو العدس (70 كيلو غرامًا) من سخنين أو عرابة ويبيعونه في الصفصاف، وفي المقابل كانوا يشترون البندورة من الصفصاف ويبيعونها مجددًا في عرابة وسخنين.
وكانوا يفعلون الأمر نفسه في قرى أخرى من قرى صفد مثل "الرأس الأحمر" التي اشتهرت بتربتها الحمراء وتقع على ارتفاع 825 متراً عن سطح البحر، وعُرفت بكثرة خيراتها كالتين والعنب، وكانت كذلك تصدّر البندورة إلى مدينة صفد.
وبما أن رحلتنا تنتهي في بلاد صفد، لا بُد أن نذكر بأن البندورة البلدية لا تزال حاضرة بقوة وخصوصًا في لبنان، ويُحتفى بها حتى اليوم وعبر وسائل التواصل الاجتماعي وتحديدًا في المجموعات المهتمة بالبيئة والزراعة بشكلٍ يستدعي الاهتمام.
نجد مثلًا في مجموعة "بلدتي بيئتي" اللبنانية صورة لبندورة "كف الجمل"، كما نجد "طريقة سرية لزراعة البندورة البعلية" في مجموعة "ازرع"، وكل هذا الإرث حاضر في التقارير التي تتحدث عن عكّار باعتبارها من أشهر بلاد لبنان في صناعة رب البندورة.
كما نجد حديثًا عن صنف من البندورة يدعى "الشحماني" في كتاب "طريف النداء في دمشق الفيحاء" كان يُزرع في حاصبيا في جنوب لبنان، ولا شك أنه وصل إلى فلسطين قبل أن تفرّق الحدود بين الأهل في بلاد الشام، والبندورة اشتهرت في سوريا وتحديدًا في محافظة القنيطرة وسهل حوران التي تعرف بندورتها بــ "الحورانية".
أما في الأردن فقد اشتهرت بالبندورة بلدة إرحابا حتى أصبحت علامة تجارية مميزة. إضافة إلى لبنان وسوريا والأردن، فقد انتشرت في فلسطين في مرحلة ما، بندورة كانت تسمى "البندورة المصرية" لكن لم نجد معلومات وافرة عنها.
بندورة كف الجمل الجبلية من صفحة بـلـدتــي بيـئتـــي
أخيرًا، قد تبدو مسألة الحفاظ على صنف من أصناف البندورة البلدية ترفٌ بيئي لا حاجة لنا به في فلسطين، لكن في فلسطين بالذات نحن أحوج ما نكون إلى الحفاظ على الأصناف المقاومة للعطش والجفاف الذي يهدد بلادنا على وجه الخصوص في عصر التغيرات المناخية والاحتباس الحراري.
فضلًا عن أن هذه الأصناف الملائمة للزراعة البعلية تحفظ لنا مواردنا المائية لأنها تكتفي بالندى صيفًا والمطر في الشتاء، كما أننا أحوج ما نكون لنؤمّن بذورنا لأنفسنا بعيدًا عن شركات البذور العالمية لنضمن الأمن الغذائي الحقيقي لأنفسنا.
وحريٌ بنا أن نحافظ على الزراعة البعلية والأصناف المحلية "موروثًا ثقافيًا" يرتبط بتحقيق الاستدامة البيئية والاجتماعية والاقتصادية في بلادنا، الذي كان أحد أهم أسباب عمارة الأرض عبر التاريخ.