سلبوا الأرض.. والآن يسرقون الزهور
خاص بآفاق البيئة والتنمية
أليس حقٌ علينا أن نحفظ الزهور كما نحفظ الأرض؟ من منا لم يصنع في طفولته طوقاً من "روح الأرض" ليضعه إكليلاً على رأسه أو رأس والدته أو من يحب؟ من منا لا ترتبط ذكريات الوطن والصبا في ذهنه بزهور تنبت في الخريف والشتاء والربيع وحتى الصيف؟ أليس زهور فلسطين جزءاً من هويتنا وفلسطينيتنا؟ وبعد أن سرق المحتل الأرض وشوهَّ معالمها.. كيف يكون الحال ونحن نشهد بأم أعيننا سرقة منظمة للزهور وتسميتها بمسميات لم تحملها ذات يوم، منذ سكنت الحياة الأرض؟
|
|
الحنون أو شقائق النعمان لم تسلم من التهويد |
الزهور بنات الأرض، تحملهن داخل أحشائها، وتلدهنَّ لتتزين بهن وتتعطّر من شذى عطرهن.
ينثرن الحياة في كل مكان، لعلّهن يُزحنَ الحزن عن قلب الكسير العليل، ويدخلن الحبور على نفوس المتعبين؛ لذلك، أليس حقٌ علينا أن نحفظ الزهور كما نحفظ الأرض؟
من منا لم يصنع في طفولته طوقاً من "روح الأرض" يضعه إكليلاً على رأسه أو رأس والدته أو من يحب؟
من منا لا ترتبط ذكريات الوطن والصبا في ذهنه بزهور تنبت في الخريف والشتاء والربيع وحتى الصيف؟
أليست زهور فلسطين جزءاً من هويتنا وفلسطينيتنا؟
وبعد أن سرق المحتل الأرض وشوهَّ معالمها.. كيف يكون الحال ونحن نشهد بأم أعيننا سرقة منظمة للزهور وتسميتها بمسميات لم تحملها ذات يوم، منذ سكنت الحياة الأرض؟
تبلغ مساحة فلسطين 27027 كيلومترًا مربعًا، وبرغم صغر مساحتها إلا أنها تتميز بتنوع تضاريس السطح وتنوع التربة، الأمر الذي أدى إلى تنوع حيوي عام وتنوع في النباتات البرية والأزهار خصوصاً.
يقول عماد الأطرش المدير التنفيذي لجمعية الحياة البرية في فلسطين، إن التعدد في النباتات البرية في فلسطين يعود إلى تنوع عناصر النظم المناخية، ويُقدّر عدد أنواع النباتات البرية في فلسطين بـــ 2700 نبتة برية تقريبًا، لافتًا إلى أن النظم المناخية تمتاز بنباتات محددة تتأقلم مع عناصره، ويساعد التغير المناخي في عملية إزهار النباتات.
ويضيف الأطرش: "يميز التغير المناخي المناطق الغربية لسلسلة جبال القدس بكثرة الغطاء النباتي إلى حد كبير، مقارنة بالمناطق الشرقية، كأزهار شجر اللوز التي تزهر في المناطق الغربية على نحو أفضل منها في المناطق الشرقية لسلسة جبال القدس".
وأكد أن للعوامل المناخية تأثير واضح في ذلك، من حيث كونها مناطق ساحلية، تمتاز بوفرة الأمطار، وتعرضها للشمس.
زهرة سوسن فقوعة الزهرة الوطنية الفلسطينية
يتظاهر بحب البيئة
تنتعش القلوب عند ظهور الأزهار في بدايات موسم المطر، ويكون النرجس أول المطلّين علينا بعبقه الزكي وشذاه، ينبت في ثنايا الصخور وأمام سيقان أشجار الزيتون والخروب والسنديان، وعلى أطراف الوديان وجوانب السهول. زهوره الأنيقة ذات البتلات البيضاء المترّفعة شامخة الرأس تلّتف حول كأس أصفر فاقع تسارع لتزيين الأرض التي جفّفها حر الصيف.
تسير على خطاه أزهار قرن الغزال، وتسارع بقية زهور الأرض ذات الألوان الزاهية والعبق الذي لا يُنسى إلى اللحاق بالركب والانتشار فوق تراب الأرض المباركة بجرأة مؤكدة على فلسطينيتها.
تعوَّد الفلسطيني أن يأكل من خيرات الأرض ونباتها، ومنها الخبيزة، والرجلة أو البقلة، واللوف، والزعتر، والميرمية، والزعمطوط، واللسينة، والحميض، والهيليون وغيرها.
يقطفها من ثنايا الأرض ليسدّ بها رمقه، يلتقط أوراقها أو أزهارها أو حتى سيقانها ويجفّفها ليحفظها للاستخدام على مدار العام بحسب حاجته، ويحرص على إبقاء جذورها تتشبّث بالأرض وبذورها لتنتشر في كل مكان كي تنبت في العام المقبل.
وكيف له أن يكون في غنى عنها؟ وكيف لكأس شاي لا تعطرّه الميرمية أن يُشرب؟ وكيف لغداء شتوي لا تحضر فيه الخبيزة أو اللوف أو العِلِك أن يؤكل؟
ولكن، منذ أن اُحتلّت فلسطين عام 1948 تغيّر الحال إلى النقيض، أقبل وافدون جدد لم يألفوا طبيعة المنطقة وتضاريسها والحياة البرية فيها، ولا يعرفون قيمة هذه الأرض ولا قيمة كل ما يعيش فوقها من كائنات.
لذلك لم يكن لدى المحتل أدنى شعور بوخز الضمير وهو ينسف الجبال ليشق الطرق والأنفاق والجسور، ولم يشعر بسوء وهو يقتلع أشجار الزيتون والتين والخروب والبلوط والصنوبر التي سكنت هذه الأرض قبل ولادته وليس قبل قدومه إلى هنا، ولم يخالجه أي ندم وهو يقضي على أصناف بأكملها من النبات والحيوان والحشرات ويدفع بها إلى الانقراض، ويغيّر من طبيعة المنطقة ويُربك التوازن البيئي المتأصل فيها.
جاء إلى هنا وهو يعادي كل شيء، حاملاً في جوفه حقداً بشعاً أفرغه على كل ما يقابله في طريقه، فلم يسلم منه حجر أو شجر أو بشر، ويدَّعي أن إلهه قد وعده بهذه الأرض!
وبعد أن سيطر عليها، وغيَّر معالمها، انتبه إلى أن الاهتمام بالبيئة أمر ضروري ليظهر بمظهر العصري المحب للسلام.
وفي الوقت نفسه لاحظ أيضاً الثراء الكبير في الحياة البرية، حيوانات كانت أم نباتات، فبدأ في حصر أعدادها وأصنافها وأنواعها، وانطلق يُنشئ المحميات الطبيعية مدَّعياً أنه يحرص على الطبيعة ويهتم بها، مع أنه في نواحٍ أخرى يجرف التربة ويحفر الجبال ويلّوث الينابيع وعيون الماء ويجفف بحيرة الحولة ونهر الأردن والبحر الميت ويقضي على موائل الحيوانات والنباتات ليبني مكانها مستوطناته ومشاريعه الضخمة المتمثلة في إنشاء الطرق الالتفافية والجدران العازلة والمشاريع العمرانية والمائية الكبيرة فوق الأرض الفلسطينية غير آبه بأنواع النباتات والحيوانات التي يُعدمها ويؤدي إلى انقراضها.
سوسن فقوعة يقاوم التهود رغم المجازر التي تحاول الفتك به
الأزهار البرية في التراث الفلسطيني الموروث
يا زهرة السوسن السمراء ترّفقي*** فقلبي يهواك إن كنت لا تعرفي
ارتبط الفلسطيني دوماً بأرضه وما ينبت عليها، أحبها بل عشقها، وبما أن النباتات البرية وأزهارها كانت جزءاً مهماً من حياة الفلسطيني، نراها حضرت بوضوح في التراث، وتراءت في أمثال شعبية وغناء وحتى حكايات.
يقول الفلسطيني في الأمثال:
طلع الرنجس والحَنّون انظب بدارك يا مجنون".. وغنى في أعراسه
باب البوابة لأزرع لك رنجس*** خايف يا حلوة عمرك تينقص
يالله عالدبكي يا بنت نرقص*** ونغني سوا على دلعونا
وقال عن الزكوكو أو قرن الغزال أو عصا الراعي:
يا زريف الطول يا أبو عيون اوساع*** سارح ع الزيتون برفقة الملاح
يا زريف الطول ساري ع البرية *** راجع بالزكوكو للحلوة الصبية
وغنّى أيضاً:
على دلـعونا هي يا دَلعِـتنا*** ويـش اللي جابك على حارتنـا
أتمنى من الله تصيري جارتنا*** ويطلع الحنون في البساتينا
وقال:
يا بيت الشّعر يا بو الشقايق*** يا اللي حولك نابت زهر الشقايق
والله يا خَـلق كلامي لايـق*** من شـوف العذارا دورت مجنونا
قرن الغزال أو عصا الراعي أو بخور مريم.. حين يدَّعيها المحتل لنفسه
استهداف أزهار فلسطين بالتهويد
يقول أسامة السلوادي المصور الفلسطيني الذي وثّق أزهار فلسطين بعدسته، ورصدَ غالبيتها في كتاب خاص بعنوان "أرض الورد" الذي يعدُّ بمنزلة موسوعة مصوّرة "لقد بدأ الاحتلال في نشر أسماء النباتات المتأصلة في فلسطين باللغة العبرية على صفحات الإنترنت ونسبها إلى أصول إسرائيلية".
ومثالًا على ذلك زهرة "دم الغزال أو شقائق النعمان" التي غيّروا اسمها إلى "زهرة المكابين" لإضفاء الصبغة العبرية عليها.
ولكن اجتهد النشطاء لإفشال مساعي الاحتلال، وذلك عبر التغذية المعرفية والمعلوماتية على ويكيبيديا للحفاظ على الزهرة واسمها وموطنها نقيًا من التلوث العنصري والسرقات الممنهجة.
من جهته يشير عماد الأطرش رئيس جمعية الحماية البرية إلى أنواع متعددة من السوسن مثل "سوسن الناصرة" و"الشفا غوري" وهو من النباتات المهددة بالانقراض بسبب نقلها من موطنها ومنبتها لمناطق أخرى، كما أنها عرضة لرش المبيدات والتجريف والرعي الجائر وعدم وجود حشرات للتلقيح.
ولم يسلم الحنّون الفلسطيني من التهويد، ففي عام 2013 أعلنت سلطات الاحتلال شقائق النعمان "زهرةً وطنية"، وكانت قد استخدمت رسمها سابقاً في صكّ العملات وطوابع البريد وشعارات وحدات جيش الاحتلال.
لم يتوقف الأمر هنا، بل نرى الاحتلال يشجّع الاستيطان في شمال ديار بئر السبع (النقب) عبر إقامة فعاليات رياضية وموسيقية منذ عام 2007 ضمن ما يسمّى "مهرجان الجنوب الأحمر"، وهو احتفالٌ صهيونيّ سنوي بين شهري كانون الثاني وشباط، مع موسم تفتُّح الحنّون.
ويسلّط التهويد أطماعه على زهرة السوسن "الملكية"، التي تنتشر في قرى فقوعة وجلبون في محافظة جنين بالضفة الغربية على وجه التحديد، وهي المنطقة الوحيدة في العالم التي تنبت فيها هذه الزهرة الفريدة، ليرتبط اسمها باسم تلك المنطقة، حيث تشتهر باسم "سوسن فقوعة".
ويؤكد خبراء البيئة أن هذه الزهرة استوطنت في فلسطين منذ العصور القديمة.
ويقول الصحفي نواف العامر من نابلس إن شبح التهويد بات يلاحق زهرة سوسن فقوعة، "الزهرة الوطنية لفلسطين" في محاولة محمومة منه لسرقة الاسم والمعنى، وقد سعوا لتغيير اسمها من سوسن فقوعة إلى" ايروس هجلبوع"، وايروس هو ترجمة للاسم اللاتيني والعلمي،Iris
وجلبوع هو الاسم القديم الكنعاني لجبال فقوعة التي تنمو فيها هذه الزهرة.
كما حاول أيضاً خبراء التهويد والتنوع الحيوي إلصاق اسم" سوسن أريئيل" على أنواع أخرى من السوسن التي تستوطن شمال الضفة.
وتحاول سلطات الاحتلال تهويد السوسنة، لكن الجهد الفلسطيني والمؤسسي كان لهم بالمرصاد عام 2017 بتثبيته اسم الزهرة الفلسطيني.
في عام 2007 رشَّح الاحتلال ثلاثة نباتات فلسطينية معروفة لتمثيلها في حديقة الورود التي تعتزم الصين إقامتها بمناسبة استضافتها للألعاب الأولمبية، وهي زهرة قرن الغزال، وزهرة شقائق النعمان، وشجرة الزيتون، وقد اُعتمدت وثُبّتت باسم "إسرائيل في حديقة الصين.
زهرة شقائق النعمان هي نبتة ذات جذور تاريخية وثقافية في فلسطين، وتنتشر في أراضيها من الشمال إلى الجنوب، وقد كانت تغطي أرضها في العهد الروماني، ولهذه النبتة مكانة خاصة في الحضارة العربية والإسلامية والأدب العربي، ودخلت في الشعر والقصص والحكايات الشعبية الفلسطينية.
أما نبتة قرن الغزال فهي تدخل في التاريخ الغذائي للفلسطيني الذي يطبخها مثل ورق العنب في مواسم البرد والمطر. ويهدف الاحتلال من وراء ذلك إلى سرقة التراث والمصادر الطبيعية ويدَّعيها لنفسه، معتقداً أنه سيمحو التراث الفلسطِيني من الوجود، بعد أن سرق صحن الحمص وأقراص الفلافل وأرغفة المسخن والثوب الفلسطيني والدبكة الفلسطينية وأخذ يعرضها في الخارج على أنها تراث إسرائيلي.
واعتمد مجلس الوزراء الفلسطيني عام 2016 رسمياً "سوسن فقوعة" النبتة الوطنية لدولة فلسطين؛ تثبيتاً للحق الوطني والتجذر في الأرض، ودفعاً لمحاولات التزييف وسرقة التراث الطبيعي والثقافي الذي لا يتوانى الاحتلال عن ممارسته طوال الوقت.