المخابز لا تبرحها فوضى التلاعب بالأوزان.. والأسعار تطحن المَطحونين
خاص بآفاق البيئة والتنمية

حسين حردان الذي ورث مهنة صناعة الخبز عن والده وجده
ورث الخباز حسين حردان مهنته عن والده وجده أبو جميل، إذ اشتهر الأخير في مدينة جنين بـ "الفرّان" قبل عقود.
اليوم، يحافظ حفيده على ثباته دون الاكتراث بأخبار الارتفاعات المتتالية في أسعار الخبز والمواد التي تدخل في تحضيره، فلديه كما يقول "معادلته الخاصة في حساب الربح والخسارة".
يتمسك حردان بسعرٍ ثابت للخبز منذ تصاعد موجة الغلاء، مبقيًا على وزنٍ ثابت لربطة الخبز تتفاوت من 1380 إلى 1450 غرامًا، ويبيعها بخمسة شواقل، أما الكعك فيبيع كل 550 غرام بـالسعر نفسه أيضًا.
ويؤكد أنه لم يغير حجم الرغيف، بالرغم من ارتفاع سعر الطحين، الذي يُنتج كل كيس منه كمية تتفاوت من 60 إلى 65 ربطة، محققًا صافي أرباح بـ 100 شيقل.
يُشغّل هذا الخباز 16 عاملًا، ويدفع لكل واحد 150 شيقلًا يوميًا، مشيرًا إلى أن الأفران تحقق بأسعار الدقيق الحالية أرباحًا معقولة.
وفي الوقت نفسه يبدو مستاءً من غياب رقابة "الاقتصاد الوطني" عن المخابز، والفوضى التي ترافق عمل هذا القطاع، خاصة مع انتشار ثقافة البيع دون استخدام الميزان، والاعتماد على عدد الأرغفة.
ويضع يده على الجرح حسب رأيه: "نفتقد إلى وجود نقابة للمخابز للبّت في هذه المسائل، وإن وُجدت فأنا "لم أشارك في انتخابها".
تسعيرة مدروسة
ترصد "آفاق البيئة والتنمية" عدة مخابز في جنين، وتوثق أوزان ما يُباع بـ 5 شواقل، فتجد في الأول 1,465 كيلو، وفي الثاني 1,322 كيلو، وعند الثالث 1,340 كيلو، أما الرابع فيبيع 1,145 كيلو، ويحدد الخامس 1,090 كيلو، ولدى السادس 1,381 كيلو، ويقرر السابع 1,020 كيلو.

وزن ربطة الخبز
من جهته، يُجدد إبراهيم القاضي مدير عام حماية المستهلك في "الاقتصاد الوطني" التأكيد على أن الأصل بيع الخبز بما يعادل الكيلو، دون النظر لعدد الأرغفة وحجمها، على أن تباع بأربعة شواقل، وفق التسعيرة الرسمية لمجلس الوزراء، الذي ربط بين إعفاء الطحين من ضريبة الـ 126%، وانعكاسها على المستهلكين.
وذكر أن وزارة الاقتصاد لم تخالف البائعين بـ 4,5 شيقل، لكن كان لها وقفة مع المخابز التي تبيعه بـ 5 شواقل، وتُشدّد الرقابة أكثر على المخابز المخالفة للتسعيرة وشروط البيع، بينما تقل في التي تبدي التزاماً.
وأوضح القاضي أن تسعيرة بيع الخبز "لم تكن اعتباطية"، فقد جرى احتسابها من الوزارة ووفق دراسة أجرتها جامعة النجاح، راعت كل ما يضاف لإنتاج الخبز من عناصر، كما اُحتسبت التكاليف الثابتة كالإيجار الشهري، وأجور التراخيص والمهن، وبدل الاشتراك في المياه والكهرباء، عدا عن العناصر الثابتة.
ويستطرد في الشرح: "جرى تقسيم التكلفة على كيس طحين بوزن 50 كيلو ينتج 62,5 كيلو خبز، ما يعني أن تكلفة إنتاج الكيلو 3,46 شيقلًا، وإذا ما أضيف إليها الإيجار السنوي ترتفع إلى 3,6 شواقل، بينما أفادت دراسة جامعة النجاح أن التكلفة 3,2 شيقل.
وأقرَّ مدير عام حماية المستهلك بارتفاع أسعار بعض العناصر، التي تدخل في إنتاج الخبز، وهو ما رُوعيَ في تحديد السعر، مشيرًا إلى أن التجار يقولون أن التكاليف أعلى، و"هذا غير دقيق"، بدليل أن المخابز تقدم عطاءات للوزرات والمؤسسات بـ 2,9 شيقل" تبعًا لحديثه.
وأفاد أن الوزارة أطلقت حملات لترويج ثقافة بيع الخبز بالكيلو، لكن لم تلق تجاوبًا، إلا أن هذا النمط يؤخذ به في نابلس فحسب.

ابراهيم القاضي مدير عام حماية المستهلك
17 خبازًا أمام القضاء
17 تاجرًا تلاعبوا بأوزان الخبز أُحيلوا إلى القضاء في مايو/ أيار الماضي، أحدهم حُكم عليه بالسجن 3 أشهر وغرامة بـــ 3 آلاف دينار، فيما ادّعى أحدهم أنه "لا يستطيع الاستمرار في عمله إلا باحتساب الكيلو 900 غرام".
وبيّن أن مصدر الطحين معلوم، وتثبته الفواتير الضريبية، وبالتالي فإن كل المخابز تتعامل مع المصادر نفسها، وتشتري الدقيق بسعر موحد.

خليل عارضة مدير جمعية حماية المستهلك
الوزن إلزامي ولكن..
فيما أكد د. خليل العارضة مدير جمعية حماية المستهلك في "الاقتصاد الوطني" استمرار الضريبة الصفرية على الطحين المستورد، بينما ارتفع "الإسرائيلي" بـ 20%، ويُباع بـ 195 شيقلَا في المطاحن المحلية، وهناك 4 مركزية منها، والشائع في السوق الروسي والأوكراني.
وذكر أنه "بوسع المشترين إلزام الباعة بالوزن وليس بعدد الأرغفة"، إذ تباع الربطة زنة 1300 غرام بستة شواقل.
وأوضح العارضة أن المشكلة في المخابز ذات الإنتاج القليل التي ترفع الأسعار، مقدراً نسبة الملتزمين في جنين بـ 90 %.

خبز من نفس المخبز قبل ارتفاع الأسعار وبعده
حمّى الغلاء
بدوره، قال جبر كلبونة، وهو صاحب مخبز في نابلس، إن الغلاء عمَّ، ووصل إلى الطحين الذي ارتفع سعر الكيس من 105 و110 و120 و150 و180 شيقلًا، وأبلغه التجار بصعوده إلى 220 شواقل، كما ارتفعت أسعار الزيت والسكر والخميرة، ومع ذلك يواصل البيع بالتسعيرة الرسمية وأحيانًا بأقل منها، ويلتزم البيع بالكيلو.
وطالب كلبونة الذي يعجن 15 كيسًا "الاقتصاد الوطني" بتوفير الدقيق بثمن معقول، حتى تنخفض أسعار الخبز.
ويصارحنا بقوله: "الأسعار الحالية لا تتسبب بالخسارة لأصحاب الأفران، لكنهم في الوقت نفسه لا يجنون أرباحًا كبيرة جراء موجات الغلاء".
المشكلة تضخم عدد المخابز
يقول زياد نافع، الناطق باسم أصحاب المخابز، إن الخبز يتكون من 13 عنصرًا، منها الزيت والخميرة والسكر والأيدي العاملة والضريبة والغاز والكهرباء والبلاستيك، وكلها ارتفعت، فالسكر قفز من 100 إلى 150، والطحين ارتفع إلى 180 شيقلًا.
وأضاف أن كل كيس طحين زنة 50 كيلو ينتج 62.5 كيلو خبز، وإذا بِيع بتسعيرة الحكومة (4.5 شيقل)، فإنه ينتج 270 شيقلًا.
وأوضح أن كيس الطحين إذا كان بـ 180 شيقلًا يحتاج إلى 136 شيقلًا
تكلفة تشغيلية، وبأسعار اليوم يخسر كل كيس 30 شيقلًا، ما يعني خسارة أصحاب المخابز.
ولا يخفي نافع أن "تضخم عدد المخابز أنهك هذا القطاع، وتسبب بـ"حرق المهنة" حسب تعبيره.

حقل قمح قضاء جنين
القمح المحلي غير مناسب
وفي السياق نفسه، قال طارق نصار مدير المطاحن العربية في نابلس، إن أسعار القمح لم ترتفع في البلاد المنتجة له، فثمن الطن الواحد في روسيا 180 دولارًا، لكن تكلفة النقل أصبحت 250 دولارًا له.
وأفاد أن القمح المحلي، رغم قلة كمياته غير مناسب لإنتاج الدقيق الأبيض، "فــ لونه أصفر من الداخل، وغير مرغوب"، ومع ذلك لا تمتلك نابلس أي مخزون من الطحين، وتعتمد على الاستهلاك اليومي.
وواصل نصار حديثه: "كيس الطحين وزن 60 كيلو بـ 170 شيقلًا، وينتج كمية تتراوح من 80 إلى 85 كيلو خبز، ولو افترضنا كوسط حسابي أن كل مخبز ينتج 12 كيسًا يوميًا، ثمنها 2040 شيقلَا، يُضاف لها تكاليف الإنتاج والمواد بـ 840 شيقلًا (70 شيقلًا لكل كيس)، ما يعني أن صافي أرباح المخبز عن 22 كيسًا تبلغ 2000 شيقل.
وبيّن أن كل كيس يُضاف إليه 35 لتر ماء، وكلما زادت كمية المياه تضاعف عدد الأرغفة، وتُستخدم بعض المخابز
مادة لزيادة نسبة المياه في الخبز. Vita Plus .
ويزيد قائلًا: "كيس الطحين بوزن 30 كيلو ينتج 300 رغيف عربي، ثمن كل واحد 1,5 شيقل"، مؤكدًا أن هوامش أرباح المخابز عالية.

علي ابو بكر -يسار- رئيس جمعية حماية المستهلك في جنين
إحباط وتراخي وفوضى
يشعر علي أبو بكر رئيس جمعية حماية المستهلك في جنين بإحباط شديد من ردود الأفعال الشعبية على موجات الغلاء، قائلًا بحنق: "لم يشارك أي مواطن في مسيرة ضد الغلاء بنابلس!.. حقًا أعجز عن فهم ذلك"؛ وذلك خلافا لمدن فلسطينية أخرى.
ويستغرب من تحديد "الاقتصاد الوطني" لأسعار الخبز بـ 4,5 شيقل، ثم تراجعها عن تطبيقه، متسائلاً عن سبب ضعف التدخل الحكومي لضبط التجاوزات في الأسواق.
وينتظر أبو بكر تنفيذ طلب الجمعية بلقاء وزير "الاقتصاد الوطني"؛ للمطالبة بالجدية في ضبط الأسواق.
وذكر أن الجمعية ترتكز على التثقيف والتوعية في المدارس، ولا صلاحيات رقابية بيدها، وبدورها تحذر من أن "تصاعد الغلاء لن يتحمله الأغنياء والفقراء على حد سواء".
ويستهجن المبالغة في الأسعار التي طرأت على الكثير من السلع والخدمات، "لا يُعقل أن يكون اشتراك (الفايبر) المنزلي الشهري 192 شيقلًا، كما أن أسعار الكهرباء والدواء باهظة" يقول رئيس جمعية حماية المستهلك.
وتوّقع أبو بكر أن "يؤدي تراخي الرقابة على الأفران والأسواق إلى حالة فوضى"، مطالبًا بتنظيم حملات تفتيش دورية للمحافظة على أسعار الخبز، مشيرًا إلى أن التدخلات لكبح الغلاء ممكنة، كخفض ضرائب السلع، وخفض أسعار الدواء والكهرباء والاتصالات.

حقول القمح للمزارع بسام زكارنة
القمح يكشف عورة السيادة على الغذاء
يحرص بسام زكارنة على زراعة نحو 600 دونم قمح في أم التوت، وعرانة، ودير غزالة، واليامون في جنين، تذهب غالبيته للفريكة.
ويؤكد أن حقول جنين لو زُرعت كلها بالقمح لن تكفي الضفة الغربية أسبوعًا، كما أن معظم الأراضي إما تُخصص للخضراوات والبيوت البلاستيكية أو تحولت إلى بنايات، وفقاً لحديثه.
وينتج الدونم كمية تتراوح بين 250 و 450 كيلو من القمح، ويكلف نحو 900 شيقل، فيما بِيع الكيلو هذا الموسم بـ 1,8 شيقل.
ويكشف زكارنة عن "تراجع إنتاج القمح والفريكة إلى نحو النصف مقارنة بالسنوات الماضية"، فيما قُدّرت مساحة الأراضي المزروعة في جنين بـ 7 آلاف دونم.
مضيفًا: "علينا أن نتوقف عند التحولات في "ثقافة تخزين القمح والطحين في البيوت، وغياب وسائل إنتاج الخبز المنزلي بسبب انتشار الأفران".

مخبز
غزة تستهلك 400 طن قمح يوميًا
من جانبه، قال عبد الرزاق أبو طه، مدير المطاحن العربية في غزة، إن وزارة "الاقتصاد الوطني" حددت ثمن كيس الطحين سعة 50 كيلو بـ 120 شيقلًا، بينما كان في الماضي 97 شيقلًا، فيما لا يُخزّن القمح في مطاحن غزة الثلاث إلا لنحو 15% من احتياجات القطاع يوميًا.
ويشير إلى خيار الطحين المصري الذي يباع بـ 115 شيقلًا.
وقُدّر استهلاك غزة اليومي من الدقيق بمصادره المختلفة كمساعدات "الأونروا" والتركي والمصري والمستورد من داخل الخط الأخضر بـ 400 طن، إذ تحتاج العائلة الواحدة أسبوعيًا 50 كيلو طحين، وتنفق نحو 300 شيقل شهريًا.
وذكر أن كل 2,6 كيلو من الخبز تُباع حاليًا بـ 8 شواقل، بينما لا تتعدى نسبة الأسر التي تنتج الخبز المنزلي 5%.

محمد قبلان أخصائي إدارة الأعمال
مخابز غير ربحية
يقترح محمد قبلان، الذي سبق أن عمل صحافيًا، ويحمل ماجستير في إدارة الأعمال، خلق توجهات جديدة لإنتاج الخبز، لا سيما أن الحكومة غير قادرة على كبح الارتفاعات العالمية في الأسعار، وكذلك عاجزة عن زيادة الرواتب.
وأشار إلى أنه بالإمكان "تشجيع الجمعيات ولجان الزكاة على تأسيس مخابز غير ربحية تبيع منتجاتها بسعر التكلفة"، فكيلو الطحين في الأسواق بـ 2,5 شيقل، وفي المطاحن بـ 2,6 شيقل، وتنتج نحو 1,7 كيلو من الخبز، كما يمكنها استيراد السلع الأساسية وبيعها بتكلفتها.
واستند قبلان إلى دراسة لجامعة النجاح، أكدت أن إنتاج كيلو الخبز يكلّف نحو 3,17 شيقلًا، بينما تباع بأرباح تصل 30%، وهي سلعة أساسية تعجز الشرائح الضعيفة عن شرائها بـ 5 شواقل للكيلو، بينما لا تتعدى أرباح السجائر نصف شيقل في كل علبة، مبينًا أن تكلفة المخابز الصفرية تتوقف عند بيع 6 أكياس طحين يوميًا، وما يباع بعدها أرباح صافية.
وأكد أن "الحاجة تصنع "ثقافة" حتى في الاستهلاك"، لكن ثمة صعوبة في الاستغناء عن الخبز من نمطنا الغذائي والتحول نحو الأزر الأرخص منه، أو التوجه إلى البرغل والعودة إلى زراعة القمح.
وعدَّ أن الخيارات في ضبط أسعار الخبز محدودة، فإما "تبنّى سياسة حكومية تشجع زراعة القمح، أو سياسة اجتماعية تخفف وطأة الغلاء".
كما أوصى بعودة الأسر لإنتاج خبزها ذاتيًا، ولو مرة أسبوعيًا وتخزينه في الثلاجة.
ولفت إلى أن تعبئة الخبز بأكياس قبل تبريده لا تمثل وزنه الحقيقي، إذ تدخل نسبة أعلى من الماء فيه بسبب بخاره.