خاص بآفاق البيئة والتنمية

من المخزن العالمي للبذور "سفالبارد" في النرويج إلى سوريا ولبنان، تقدم النحاتة وصانعة الأفلام الفلسطينية جمانة منّاع في فيلمها "حب بري" عملية حفظ البذور أرشيفًا للإنسانية وتكشف حقائق عن "استعمار من نوع آخر".
نشأت جمانة في القدس، وتقيم حاليًا في العاصمة الألمانية برلين، وشاركت في العديد من المهرجانات السينمائية في برلين وفينا وإيطاليا وإسبانيا ولندن وفي البلدان العربية، كما فازت بالعديد من الجوائز عن أفلامها البيئية.
وبالنحت وصناعة الأفلام والكتابة العرضية، تتعامل الشابة الفلسطينية مع مفارقات ممارسات الحفظ لاسيما في مجالات علم الآثار والزراعة والقانون.
وتدرس أعمالها التوتر القائم بين التقاليد الحداثية للتصنيف والحفظ والاحتمال الجامح للدمار، جزءًا لا يتجزأ من الحياة وتجديدها.

السينمائية الفلسطينية جمانة مناع
هاجس "محو الهوية"
"البذرة مثل الحب في قلوب البشر، وزرع الحب سيطفئ نار الحرب".
عندما شاهدت فيلم "حب بري" لصانعة الأفلام الفلسطينية "جمانا مناع" التي درست في النرويج، ظننت للوهلة الأولى أنه يروي قصة رومانسية كلاسيكية في بيئة برية.
فقليل هم صناع الأفلام الشباب الذين يتناولون اليوم في أعمالهم قضايا السيادة الغذائية، ومحاولة هيمنة الشركات العالمية الكبرى على إرث مشترك للإنسانية وهو الإرث الزراعي وخاصة البذور التي تعد منطقيًا أساس كل الأطعمة.
لكن اكتشفت بعد أن شاهدته، أن صانعة الأفلام العربية ليس همها الحب بمفهومه الكلاسيكي المتداول، وإنما يسكنها هاجس "محو الهوية" الذي يرافق دمار الحروب ويطال البذور بشكل أو بآخر، وفي المقابل يتشبث الناس بهذه الهوية ويصبح حفظها مقاومة للبقاء والانتماء.
يروي وثائقي "حب بري" قصة حب بين الإنسان والأرض، وبين الإنسان وموطنه الذي قد يراه متجسدًا في بذرة أو نبتة زرعها في أرض ما، فأصبحت بوصلته وبقعته المقدسة التي يعرف ذاته بواسطتها.
ما الذي يتوجب فعله حين تُجتث تلك البذرة وتُقتلع النبتة من جذورها بسبب الحرب وفظائع الإنسان؟
ماذا لو هُجّر أو سافر قسرًا بطرق شتى إلى أبعد مكان عن الوطن؟ سيظل زارعها يطاردها ويبحث عنها، في حين تترصدها المخاطر بأشكال مختلفة مثل الزراعة التجارية أو تستقطبها فضاءات غاياتها مشبوهة مثل بنوك البذور.
الفيلم يحاول الإجابة عن تلك الأسئلة، ويثير في ذهن الإنسان شيئًا من البلبلة ويحيله إلى عديد من القضايا.
فأول المَشاهد غامضة وتبدأ في أعماق التضاريس الجبلية الجليدية بين النرويج والقطب الشمالي في جزيرة "سفالبارد".
هناك توجد محمية نائية ومخزن لأثمن الموارد الطبيعية في العالم، والحيوية لبقاء كوكب الأرض على قيد الحياة. إنه مخزن "سفالبارد" العالمي للبذور الذي يُطلق عليه اسم "قبو يوم القيامة".
تُودع في هذا القبو الكوني عيناتٌ من البذور من كل أنحاء العالم للحفاظ عليها من الحروب والأمراض والكوارث الأخرى.
لا يُفتح هذا المخزن الكوني إلا بضع مرات فقط في السنة خوفًا من تلف البذور عندما تصبح عرضةً لمناخ العالم الخارجي.
في هذا المخزن، أُودعت كميات كبيرة من البذور التي نُقلت من سوريا بسبب الحرب، بنية حمايتها من الانقراض وحفظ عينات منها في حال حدوث كارثة ما، مثلما يحدث في أفلام الخيال العلمي وأفلام "الأبوكاليبس".
فيلم الشابة الفلسطينية الذي عُرض في العديد من التظاهرات في دول عدة، وأخيرًا في شهر التراث القومي العربي الأميركي، يحمل المُشاهد إلى عالم البسطاء الذين لديهم وعي كبير بقيمة البذور للإنسانية.
يتجلى ذلك في تعاملهم "بكل لطفٍ وحذر" مع عيّنات يضعونها في أكياس ورقية لحفظها من التلف، وفي حديثهم العفوي، وحركة أجسادهم التي تُظهر سعادتهم وهم يعملون في الأرض.
لماذا بنوك البذور؟
على خلفية الحرب الأهلية اللبنانية والحرب السورية، يروي الفيلم قصة الخسائر المأساوية التي خلّفتها الحرب؛ والصراع على الأجساد البشرية والبيئة، متدفقة فيه الصور الشعرية للأرض والبذور والأيادي التي تزرعها.
ويستكشف الفيلم على نحو مدروس العلاقة التي لا تتجزأ بين الأرض والناس، ويركز باختياره شخصيات بأعمار مختلفة على حياة ومستقبل أولئك الذين نزحوا قسراً من الأرض التي يسمّونها "الوطن".
يحاول المزارعون السوريون على سبيل المثال، إنقاذ تراثهم "البذري" من الحرب، ويحاول الفلسطينيون ممارسة حقهم في الرعي في أراضيهم لتصبح حركة مقاومة.
وفي لقاءات مع الصحافة العالمية ردّت "مناع" عند سؤالها عن دافعها لاختيار موضوع بنوك البذور، فكان جوابها: "عملت كثيرًا على مشاريع تتصل بممارسات الحفظ والأرشفة باعتبارها أحد وجوه الحداثة ومؤسساتها، وكانت تشغلني فكرة جنوح المؤسسات التي أنشأت التصنيفات إلى محاولة المحو الاستعماري لهوية الشعوب الزراعية، فضلًا عن المشاريع التوسعية والاستخراجية.
وتعرضت الشابة في بحوثها إلى حياة عالم النبات الاميركي "جورج بوست" الذي وصل إلى لبنان في منتصف القرن التاسع عشر، وكان شغوفًا بالنباتات.
وتطور اهتمام مناع في هذه البحوث ليشمل التداخلات والروابط بين الحياة الساكنة وتمثيل النباتات في عصر الحداثة.
وقد شعرت بالاطلاع على وثائق الأرشيف حول النباتات والأعشاب، أنه بقدر ما يكون الاحتفاظ بمورفولوجيا النباتات والأعشاب التي تعود إلى ما قبل ( 300-400 عام) "رائع جدًا"، بقدر ما يرافق هذا الحفظ "عنف استعماري" في طريقة دراسة الأرض والنباتات والناس.
ولفت انتباه المخرجة والباحثة الشابة في زمن الحرب قصة "المركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة" (إيكاردا) الذي كان ينتقل تدريجياً من حلب في سوريا إلى سهل البقاع في لبنان.
وبمجرد انتقال البنك عام 2014، بدأ المشرفون عليه في التخطيط لتكرار بنك البذور الخاص بهم، إذ لم يتمكنوا من إحضاره معهم من حلب لأسباب لوجيستية وتقنية مختلفة.
لذلك في عام 2016 بدأوا في بناء بنك أساسي جديد أو مكرر في لبنان، وقرروا بذلك سحب نسخ احتياطية من قبو "سفالبارد" العالمي للبذور في القطب الشمالي.