خاص بآفاق البيئة والتنمية
تمثل الشِباك ذات العيون والفتحات الصغيرة سلاحًا مصوبًا إلى البيئة البحرية، توشك أن تُحيلها إلى "ستارة موت". شِباك يتراوح طولها يتراوح بين 70 و200 متر صارت رمزًا لجشع الصيادين في عدة مناطق في العالم، ومنها قطاع غزة. استخدام هذه الوسيلة منذ زمن في غزة تسبَّب في إفساد التنوع الحيوي واختفاء الكثير من أنواع الأسماك وقلة أعدادها، حسب ما يرويه بعض الصيادين في هذا التقرير، فضلًا عن تهديدها لتوازن البيئة البحرية.
|
|
استخدام شباك الجر القاعي في بحر غزة |
منذ وقت طويل يستخدم الصيادون في قطاع غزة شباكًا ذات فتحات صغيرة يتراوح طولها ما بين 70 و 200 متر، ولم يدركوا بعد أنهم بذلك يوقعون أشد الضرر بالبيئة البحرية ويفسدون التنوع الحيوي.
روح الجشع تهيمن على وسيلة تُعرف بــ "شباك الجر" يعمد الصيادون إلى استخدامها في عدة مناطق في العالم، ما يؤدي إلى اندثار الكثير من أنواع الأسماك وقلة أعدادها، ويهدد توازن البيئة البحرية.
وبسبب بلاء "الشباك" هذا؛ اختفت في بحر غزة بعض أنواع الأسماك وخرجت القناديل البحرية في غير موعد موسمها، وامتلأ الشاطئ أحيانًا بالأعشاب البحرية والشعاب المرجانية، وكل ذلك ما هو إلا مقدمة لكابوس مرعب قادم للبيئة البحرية.
إذ يضم قطاع غزة نحو 4500 صياد مُسجلين بشكل رسمي، و2000 آخرين يعملون في البحر في المواسم، وهؤلاء مصدر الإعالة الوحيد لأكثر من 6 ألاف أسرة داخل قطاع غزة، وعادة يستخدمون "لنشات" الجر" و"الشانشولا" و"الأفلوكا" و"حسكات الموتور" و"المجاديف".
مراسل آفاق البيئة والتنمية أثناء مقابلة الدكتور عبدالفتاح عبد ربه
تصحر بحري
يقول د. عبد الفتاح عبد ربه، أستاذ العلوم البيئية في الجامعة الإسلامية لــ "آفاق البيئة والتنمية": "تُعد الشباك ظاهرة خطيرة جدًا على البيئة البحرية، فهي تعمل على كنس وابتلاع كل ما في طريقها، ما يُعدم أي فرصة لعمليات التكاثر للكائنات البحرية، بما فيها الأسماك الصغيرة وكذلك النباتات والكائنات البحرية الأخرى".
ويخبرنا د. عبد ربه أنه يوجد ما يقارب ـ20 قارب جر في مدينة غزة، ويصل طول القارب إلى أكثر من 10 أمتار تقريباً، وتستخدم القوارب شباك الجر القاعي، فـتجرف كل ما يصادفها من أسماك وغذاء، ما يهدد استدامة الثروة السمكية والحياة البحرية في ساحل غزة.
ويحذر أستاذ العلوم البيئية من زيادة الضغط على ساحل مدينة غزة الفقير أصلاً بالموارد البحرية- والكلام له- مضيفًا: "جراء تلك الممارسات ستزداد الأوضاع سوءاً والموارد فقرًا؛ وعلى وجه الخصوص ما يتصل بقتل الاستدامة السمكية، وتدمير النظام البيئي البحري، والإخلال بتوازنه".
ويأسف لإصابة ساحل مدينة غزة بــ "التصحر البحري" منذ عقود، موضحًا: "تعرّفه منظمة الفاو بــ "أنه قلة الإنتاجية البيولوجية للنظم البيئية"، وقد أصاب التصحر ساحل غزة لعدة أسباب، منها عدم وجود صخور داخل مياه ساحل غزة لتكاثر الأسماك، وضيق مساحة الصيد، وكثافة جهد الصيد السمكي باستخدام أدوات وأساليب صيد تضر البيئة البحرية".
بعض الصيادين في غزة أثناء إستخدامهم شباك الجر القاعي
"تُرى هل ينقذ الاستزراع السمكي الموقف؟" يجيبني عبد ربه قائلاً: "الاستزراع السمكي لا يساهم إلا بما نسبته 4% من تلبية الاحتياج في غزة في هذا الصدد، وبالتالي هو فقط يسد رمق بعض الجهات الطالبة للسمك كالمطاعم والفنادق".
وحسب رأيه، فإن الاستزراع السمكي سواء المغلق (داخل البرك)، أو المفتوح (أقفاص داخل البحر)، سيكون قريباً إستراتيجية واعدة في قطاع الأسماك، داعيًا إلى زيادة هذا النوع من المزارع وبخاصة المفتوحة داخل البحر، "كون هذه البرك لا تحتاج إلى مياه أو كهرباء، وتُغذى الأسماك في داخلها بالأعلاف لتساعدها على النمو بسرعة" يقول عبد ربه.
وأشار إلى أن الأسماك التي تُربى في المزارع السمكية تكون من الأصناف الجيدة مثل "الدنيس" و "البوري"، والتي يمكن تسويقها محلياً وبالتالي تحقيق عوائد مادية مجزية.
رسم توضيحي يظهر طريقة الصيد بشباك الجر القاعي
لكن نجاح عمل هذه البرك من وجهة نظر عبد ربه، تحتاج إلى خبراء وفنيين مدربين بشكل جيد للتعامل معها، إضافة إلى ضرورة توفر ضمانات تُلزم الاحتلال بعدم استهدافها وتدميرها في أي حروب قادمة على غزة، كما حدث في عدوان "أيار" الأخير على القطاع.
ويتطرق إلى الحلول التي قد تجدي نفعًا بقوله: "بداية يجب التوقف فوراً عن تلويث البحر بالصرف الصحي وغيره من الملوثات، كما لا بد أن يتوقف السماح للصيادين باستخدام شباك الجر القاعي، كي يتركوا فرصة لبذور الأسماك بالنمو والتكاثر".
وشدد عبد ربه على أهمية سن قوانين تُجرّم استخدام الشباك ذات العيون الصغيرة، منادياً بتنظيم أوقات وأماكن الصيد، من أجل الحفاظ على استدامة الثروة السمكية.
صيادو غزة أثناء إستخدامهم شباك الجر القاعي
نقترب من "مجزرة"
لكن ماذا عن رأي الفئة المستهدفة؟.. الصياد فادي القوقا الذي يستخدم شباك الجر، يقول أنه وأقرانه مُجبرون على استخدامها لصيد الأسماك، حتى لو كانت صغيرة جدًا، كما أنهم يصطادون في غالب الأحيان ما يُطلق عليها "بذور الأسماك" حتى يعودوا لعائلاتهم بما يكفي من مال يسد جوعهم.
ويحمّل القوقا المسؤولية للاحتلال، الذي يدفعهم لارتكاب ممارسات من هذا القبيل وفقاً لحديثه، محاولًا التبرير: "الصيادون في غزة منذ سنوات طويلة مجبرون على البقاء في مساحة صيد صغيرة وضيّقة جداً، بحيث لا تتجاوز المساحة المسموح بها ما يتراوح بين 6 و 12 ميل في أحسن الأحوال"، وهو ما فاقم وضعهم الاقتصادي المتردي أصلاً على حد تعبيره.
وبالانتقال إلى حسين أبو ريالة وهو صياد هاوٍ يصطاد بالصنارة، يقول متذمراً: "دائماً كنت أُرجع الأسماك الصغيرة التي تصطادها صنارتي إلى البحر، وأُبقي الأسماك الكبيرة فقط، أمّا الآن بعد انتشار شباك الجر لدى صياديّ "اللنشات الكبيرة"، أصبحنا نحتفل إن حظينا برزق من الأسماك الصغيرة، لأن شباك الجر تجرف الأخضر واليابس".
في حين كان يستعين الصياد محمد الشرافي بــ "مسدس الغطس"، مستمتعًا بمناظر خلابة تحبس الأنفاس في أعماق بحر غزة.
صيادون في بحر غزة أثناء إستخدامهم شباك الجر القاعي
راح يحكي عن تلك الأيام بحب: "كنت فيما مضى أغطس وأصيد بواسطة مسدس الصيد، ولا أستطيع أن أصف الفترة التي أغطس فيها لدقيقة ونصف الدقيقة، إنها بمثابة فترة انتقال عبر الزمن لعالم آخر أرى فيه الجمال الصامت، تاركاً خلف ظهري ضجيج وضوضاء الأرض ومشاكلها التي لا تنتهي".
ويبدو الصياد الأربعيني هائمًا ببيئة بحرية "ساحرة مُلهمة" تبعًا لوصفه، مؤكدًا أنه في السابق كانت أعماق بحر غزة تزدان بالشعاب المرجانية، على قلتها، وتتزين بالألوان الخلابة، فيشرد المرء بين هذه الألوان وتخلب لبّه أسراب السمك التي تمر ذهاباً وإياباً، إلى أن يُشارف الأكسجين على الانتهاء، وما يلبث أن يصعد مرة أخرى ليستنشق الأكسجين ويعود مسرعاً للتمتع بهذا الجمال الأخاذ.
ولم يخفِ الشرافي قهره مما رآه أخيرًا من مجزرة بحق البيئة البحرية وتنوعها الحيوي، يبث حزنه بإيجاز: "بحرنا ظل وجهة لعشاق الغطس والسياح في العالم أجمع، لكن في آخر مرة غطست لم أجد إلا صحراء قاحلة، فما رأيت حينها إلا رمالاً وعددًا قليلًا من الأسماك المتنوعة".
فبعد تلك الغطسة الأخيرة قرر ألا ينزل مرة أخرى للأعماق، حتى لا يُصدم مجددًا، مقتصرًا على الصيد بالصنارة على شواطئ بحر غزة دون النزول إلى المياه، داعياً المختصين ونشطاء البيئة للتحرك الفوري لوضع إستراتيجية عملية تنقذ البيئة البحرية ممن يجرمون بحقه.