النفايات في غزة.. جهود البلديات تعرقلها الإمكانيات ولا مبالاة المواطنين
خاص بآفاق البيئة والتنمية
هنا غزة الشامخة لها حقٌ علينا أن نصنع منها أجمل المدن، ونحافظ على ما تَّبقى من صمودها نظيفة جميلة لامعة كالنجوم. أكوام من القمامة والنفايات تنتشر هنا وهناك تراها في كل مكان وفي أي وقت شوَّهت جمال القطاع وزادت فوق الهموم كآبة، وبالرغم من الجهود التي تبذلها بلديات القطاع في هذا الصدد إلاّ أن الأمر يبدو كمن ينتشل البحر بقبعته، فمشهد النفايات المتراكمة يندى له الجبين.. والسؤال الكبير: أين التقصير؟ ومن المسؤول؟
|
|
الأغنام التي يتناول الناس منتجاتها تعتاش على النفايات المنتشرة في مختلف الأنحاء بقطاع غزة |
هنا غزة قلعة الصمود، حصارٌ وحربٌ، ودمار وفقر، هنا القلوب تمزقها الآلام والآهات، والروح يطفئها الهم والقهر وسطوة الظلم، هنا حيث الموت والحياة سواء، والأحلام والطموح هباء، هنا واقع لا يمكن غض النظر عنه أو تجاهله.
هنا أنا وأنتَ وأنتِ في صراعٍ مع واقعٍ مفروض فإما أن نقاوم للوصول إلى قدرٍ من الوعي والإدراك يساعدنا في النهوض، وإما أن نظل غارقين في غيبوبة اللاوعي.
هنا غزة الشامخة لها حقٌ علينا أن نصنع منها أجمل المدن، نحافظ على ما تبَّقى من صمودها، نظيفة جميلة لامعة كالنجوم.
أكوام من القمامة والنفايات تنتشر هنا وهناك، نراها في كل مكان وفي أي وقت شوَّهت جمال القطاع وزادت فوق الهموم كآبة، وبالرغم من الجهود التي تبذلها البلديات في هذا الصدد، إلا أن الأمر يبدو كمن ينتشل البحر بقبعته، فمشهد النفايات المتراكمة يندى له الجبين.. والسؤال الكبير: أين التقصير؟ ومن المسؤول؟
تسلط مراسلة مجلة "آفاق البيئة والتنمية" الضوء على الآثار السلبية لمشكلة تراكم النفايات، لما لها من عواقب صحية وبيئية خطيرة، إذ التقت م. أحمد أبو عبده منسق عام الإدارة العامة للصحة والبيئة في بلدية غزة، للحديث عن أهم الآثار الكارثية.
يقول "لا شك في أن انتشار القمامة وتراكمها مشهد لا يمت للحضارة بصلة، يشوه جمال الطبيعة، ويتسبب في انتشار الآفات والقوارض التي تؤدي إلى الأمراض والأوبئة".
وأضاف م. أبو عبده: "في العادة، يتخلص الناس من تراكم النفايات بطريقة غير سليمة إما بحرقها أو دفنها، إلا أن الطريقتين ينجم عنهما مشاكل صحية وبيئية، لا سيما الحرق الذي يخلّف غازات سامة ومسرطنة ومنها غاز الديوكسين المسرطن والخطير على الصحة العامة".
ويمضي في حديثه قائلًا: "عند حرق الحاوية يقل عمرها الزمني وتهترئ، وفي حال دفنها في مكان معين يحدث لها تخمّر لا هوائي وتخرج منها رائحة كريهة، وتصبح مستنقعًا للحشرات والآفات، ومكانًا لتجمع الكلاب السائبة، وهذا كله له تبعات خطيرة".
وأبدى مواطنون في مدينة غزة استياءهم من انتشار النفايات وتراكمها، إذ قالت المواطنة أم أحمد اليازجي "تزعجني رؤية النفايات مبعثرة هنا وهناك، وقد يكون الشارع جميلًا في الأساس، إلا أنّ القمامة تشوه معالمه".
فيما يؤكد المواطن أحمد الداهوك أن الروائح الناتجة عن النفايات ضاعفت لديه التهابات الجيوب الأنفية والحساسية وجراء ذلك خضع لعملية جراحية.
ولم تكن المواطنة عبير جاد الله أقل تذمرًا، إذ قالت" أعيش في بيت عن يمينه يقع مكب نفايات وكذلك عن يساره، لا يمكن أن أصف الروائح الكريهة والحشرات المتطايرة حولها".
|
|
النفايات تنتشر في مختلف الأنحاء بقطاع غزة |
تراكم النفايات في أحد أحياء غزة |
آلاف الأطنان يوميًا
تبلغ مساحة قطاع غزة 365 كيلو متر مربع، ويسكنه أكثر من مليوني نسمة، فيما الناتج اليومي 2000 طن من النفايات.
ويفيد المهندس أحمد أبو عبده بــ" إن قطاع غزة يُنتج يوميًا 2000 طن من النفايات بمعدل كيلو جرام عن الفرد الواحد".
وفي سؤاله عن الجهات المسؤولة عن جمع وترحيل النفايات في القطاع، قال أبو عبده إن 25 بلدية مسؤولة عن جمع وترحيل 85% من النفايات في قطاع غزة، إضافة إلى "وكالة الغوث" التي تتولى مسؤولية جمع وترحيل 10% من النفايات، علمًا أنها تخدم المخيمات فقط، و5% يقوم على جمعها وترحيلها مؤسسات القطاع الخاص مثل شركتي الاتصالات وجوال".
مجهود جبار وآليات متهالكة
بلديات قطاع غزة تجمع وترحل ما يقرب من 1500 طن من النفايات يوميًا، إذ تعتمد في جمعها على آليات متهالكة وضعيفة تجاوزت عمرها الزمني بعشرين عامًا، إلا أنه لا يمكن استبدالها، أو شراء غيرها بسبب الحصار وعدم قدرة البلديات ماديًا، بحسب تأكيد أبو عبده.
وأضاف أن البلديات تعتمد بنسبة 50% فقط على تلك الآليات المتهالكة وبنفس النسبة على عربات الكارو التي تجرها الحيوانات.
واصفًا جهد البلديات في هذا الصدد بـــ "الجبار"، لا سيما في بلدية غزة، موضحًا "تجمع البلدية وترحّل حوالي 700 طن من النفايات الناتجة عن 70 ألف نسمة، كما أنها تخدم أحياناً ما يقارب مليون نسمة، أي نصف عدد سكان القطاع، وبخاصة أن غزة قلبه النابض وتتمركز فيها أهم المؤسسات".
وتبعًا لقوله، تعتمد البلدية أحياناً على ثلاث ورديات يوميًا (صباحية ومسائية وليلية) لرفع كفاءة العمل، مؤكدًا أنه ما من دولة في العالم تجمع وترّحل النفايات بشكل يومي وبهذه الكثافة كما في غزة، مضيفًا: "يُعوض العاملون النقص الكبير الذي تعانيه البلديات الأخرى في آليات متهالكة وقديمة".
علمًا أن النظام المثالي لجمع كمية 700 طن من القمامة بحاجة لـــ 25ـ آلية ضاغطة لا يتوفر منها سوى 10 آليات تعمل بكفاءة 50% فقط".
وواصل المهندس أبو عبده حديثه "لدينا نقص كبير في عدد العمال، وبحسب المعايير العالمية يجب أن يُخصص عامل لكل ألف مواطن، وبناءً عليه يلزم مدينة غزة 700 عامل لخدمة مواطنيها، فيما يوجد فقط 350 عاملًا، مما يلقي مزيدًا من العبء على عمال النظافة، ببذل مجهود كبير لتعويض النقص الحاصل".
وفي السياق نفسه، ترى المواطنة أم أحمد اليازجي أن "عمال البلدية لم يقصروا في شيء، فهم يبذلون قصارى جهدهم وليس عليهم لوم".
ووافقتها في الرأي عبير جاد الله، مشيدة بأداء رجال البلدية، وقالت "يوميًا أرى عمال البلدية ينظفون ويكنسون الشوارع بجد".
وبدا ما أخبرنا به المواطن ساهر السويركي مفاجئًا: "حيث أقطن في حي التفاح لا أرى أي نفايات، ولجنة متابعة الحي تتابع النظافة يوميًا مع البلدية".
وعقب م. أحمد أبو عبده على ما قاله السويركي" البلديات تشكّل لجنة متابعة في كل حي، وهذه اللجان تتابع عن كثب نظافة الأحياء أولًا بأول مع البلديات".
وأشار في حديثه إلى الحملات التطوعية التي ينفذها بعض الشباب أو المؤسسات بالتنسيق مع البلدية في المناسبات وبعد الحروب والكوارث.
وزاد بالقول "وردتنا طلبات عديدة سواء من مؤسسات أم أفراد أم مجموعات منظمة أم غير منظمة بهدف التطوع في منطقتهم أو في مناطق حيوية مثل شارع الرشيد أو الحدائق العامة أو شاطئ البحر، فيما تدعمهم البلدية بالمعدات والأدوات اللازمة".
وتطرق إلى مبادرة "حنعمرها" التي نفذتها البلدية بعد الحرب مباشرة، وكانت بناءً على اقتراح أكثر من 100 طلب تطوع، في كل مرافق مدينة غزة، لتنهض بها مجددًا بعد العدوان الإسرائيلي في شهر مايو/ أيار الفائت.
وأثنى على الروح التي تحلت بها الفرق التطوعية، قائلًا: "بالتعاون معهم، استطعنا الاستشفاء في وقت قصير وأوصلنا المدينة للحد الأدنى من الحالة الطبيعية، إلا أن الأعباء والأعمال المتبقية كبيرة وتحتاج إلى دعم خارجي لإعادة رصف الطرق وشبكات المياه والصرف الصحي".
|
|
للأسف أصبحت هذه المشاهد مألوفة في مختلف أنحاء قطاع غزة |
ما الذي يدفع البعض إلى هذه الممارسات اللاحضارية والمؤذية للبيئة الغزية؟ |
مخالفة "مكرهة بيئية"
جهود حثيثة ليبدو قطاع غزة في أبهى حلّه إلّا أنها لا تكفي، فغياب الوعي البيئي، والتربية الأسرية الضعيفة في ترسيخ السلوكيات الإيجابية تجاه البيئة، والمحافظة على نظافتها ورونقها يحول دون تحقيق هذا الهدف.
توجهت "آفاق البيئة والتنمية" إلى أمل الحاج رئيس قسم الارشاد السلوكي وبناء القدرات في إدارة الصحة والبيئة، للحديث عن أسباب تقصير الأسرة في هذا الجانب، والذي عزته "إلى عدم الشعور المسؤولية نحو أهمية دورهم في المجتمع في تحسين خدمات المدينة والعيش في بيئة آمنة، وتحسين الأوضاع الصحية والبيئية في المدينة".
وتضيف: "تمادي بعض المواطنين في تشويه جمال مدينتنا يؤرقنا جميعًا".
وبالعودة إلى أم أحمد اليازجي، تقول "رأيت بأم عيني رجلًا يرمي كيسًا من النفايات من شباك سيارته أثناء قيادته، ولفت انتباهي إلقاء أشخاص أكياس نفاياتهم من نوافذ شققهم من علو إلى أراضٍ خالية بجانب البرج السكني".
كما استنكرت فعل بعض الأمهات اللاتي ترسلن مع أبنائهن الصغار أكياس القمامة، فيلقونها بجانب الحاوية ثم يأتي قط أو كلب سائب ينبشها وينثرها على الطريق.
ويقول المهندس أحمد أبو عبده في هذا الصدد " بعض الناس لا يلتزمون بإخراج نفاياتهم في الموعد المحدد، كما أنهم ليس لديهم أي مانع من التخلص من النفايات في أي وقت وفي أي مكان من دون أدنى مسؤولية".
وأضاف "لجأنا لتوجيه مخالفات تحت مسمى "مكرهة بيئية" عقابًا للأشخاص الذين يتسببون في تراكم النفايات والإضرار بالبيئة".
"إذن ماذا تفعل البلدية لزيادة الوعي؟" تجيب أمل الحاج بقولها" نأخذ في عين الاعتبار توجيه حملات توعوية سواء للأفراد أم للجماعات، وقد استهدفنا الأسر ببرنامج مهم جدًا هو برنامج الزيارات المنزلية، إذ يزور فريق الإرشاد البيوت ويوصل الرسائل التوعوية الأساسية".
وأضافت "نستهدف جميع الفئات، الرجال والنساء والأطفال والمؤسسات، ونهتم بأحياء تعاني مشاكل صحية وبيئية، وتركز برامجنا على الرسائل الصحية والبيئية، ومنها كيفية ترحيل النفايات بطريقة سليمة، وعدم إرسالها مع الأطفال، وإخراجها في الوقت المحدد، وضرورة التعاون مع عامل النظافة وتسهيل مهمته".
ومع كل ما سبق، عدَّت أمل الحاج، أن حملات التوعية ليست كافية لإلزام المواطن بالممارسات السلوكية الإيجابية، لتحسين الوضع الصحي والبيئي، والعيش في بيئة آمنة وسليمة".
وأردفت بالقول: "لا فائدة، طالما لم يتقبل المواطن الإرشادات والمعلومات بصدر رحب ويتعامل معها ايجابيًا، ذلك أن صدق النية لتطبيق هذه الإرشادات، أمر مهم".
ما تفسير ومبرر هذه الممارسات؟
خطط وآمال
من جهة أخرى، تذكر أمل الحاج أن البلدية بصدد تنفيذ المرحلة الأخيرة من مشروع لفرز النفايات.
وتوضح طبيعة المشروع "تراكم النفايات بشكل كبير في مدينة غزة ومحدودية الأراضي، يدعونا إلى التفكير مرة أخرى في حل فرز النفايات واستخدام كافة الإستراتيجيات لتقليلها، ومنها رفض النفايات غير المرغوبة، وإعادة استخدامها وتدويرها أو تحويلها إلى سماد لاستثمارها، وتوفير المساحة التي يمكن أن تحتاجها النفايات الصلبة، ذلك أن مكب المدينة عمره الزمني في تناقص.
وأهابت بالمواطنين لمساعدة البلدية في تنفيذ المشروع وتسهيل عمله، بواسطة فرز النفايات المنزلية حسب إرشادات البلدية حتى يسهل التعامل معها.
كما أكدت على ضرورة وجود خطة موحدة على مستوى الضفة وغزة للتثقيف الصحي والبيئي، على أن ترأسها جهات عليا لحل جميع المشاكل التي يواجهها المواطن الفلسطيني.
وقالت رئيسة قسم الارشاد السلوكي وبناء القدرات في إدارة الصحة والبيئة "لا بد من رصد تمويل لتنفيذ جميع الخطط مع تمكين الكوادر التي تعمل في مجال التوعية والإرشاد على صعيد التخطيط والتنفيذ والمتابعة والتقييم".
وأضافت "الاحتلال والانقسام السياسي وعدم وجود إرادة حقيقية، كلها عقبات تحول دون وجود خطة وطنية موحدة".
وعن الاحتياجات الراهنة التي يجب أن تتصدر الأولويات، يقول المهندس أحمد أبو عبده "نحن بحاجة لنقل خبرات بلديات دول أخرى سواء على المستوى الإقليمي أو المستوى الدولي، في سبيل الحصول على دعم فني وتوعوي، وتبادل خبراتهم والاستفادة من تجاربهم ومحاولة تطبيقها على قطاع غزة، لعلَّنا نحد من مشكلة النفايات، وقبل هذا كله، نحتاج إلى دعم مادي لتنفيذ تلك الخطط والاستفادة من الخبرات".
وفي النهاية يبقى السؤال قائمًا، لكل مواطن يعيش في قطاع غزة: هل يجب أن تكون يابانيًا أو صينيًا أو أحد مواطني العالم المتقدم حتى تحافظ على بيئتك نظيفة جميلة وآمنة!