خاص بآفاق البيئة والتنمية
يمكننا تسمية استراتيجية توزيع السموم وحملات قنص الخنازير البرية والكلاب الجوالة بـ "استراتيجية الذبابة" وهي التي أودت بحياة الكثير من الأغنام والخيل والبغال. فإن كان كل هذا الحقد على بعض الحيوانات البرية يدفعنا إلى هكذا استراتيجيات لا إنسانية، عنيفة، كما نرى كل يوم من مشاهد لا أخلاقية ومشاهد مقززة، كتعذيب ضبع هنا، وسكب البنزين على حمار هناك، وتعليق ثعلب على عمود الهاتف في مكان آخر، فلا نعجب من قتل أخ لثلاثة أفراد في واد النار على الطريق، هم أخت الجاني وخطيبها وأخته، ولا من كل تلك الجرائم بحق الإنسان: أخ يقتل أخاه على شبر أرض، وأخوة يقتلون أختهم على ميراث ويلبسونها قضية شرف، وجرائم تسجّل ضد مجهول. لا يمكن أن تُمارس العنف على كائن آخر وتمنع نفسك من ممارسة العنف على إنسان، فما بالنا إن كان في داخلنا كل ذاك الحنق والحقد والعنف ضد الحيوانات كالثعلب والضبع والقط والكلب والخنزير؟! إن كل ما يحدث لنا في الخارج، ليس إلا انعكاساً لما هو في داخلنا، فالخارج هو صورة لما في الداخل، وما يحدث معنا ولنا في حياتنا اليومية، ليس إلا ترجمةً لما يُختَزن في مكنونات النفس البشرية. لقد فقدنا توازننا الروحي عندما سيطرت علينا فكرة أننا أسياد الطبيعة ومُلَّاكها، بدل أن نرى أنفسنا جزءاً من الطبيعة ودورتها. قبولنا للكائنات الحية على الأرض هو قبول الأرض لنا أحياءً عليها، وحين نُقَدِّر معنى الحياة، ستعطينا الحياة وتغدق علينا بالتوازن.
|
|
جاء مرهقاً حانقاً قلقا، بعد يوم من الأيام الخمسة التي قضاها باحثاً حتى يوم لقاءنا، دون أن يعثر على أثر، اتصل بكل من يعرفه في القرى المحيطة سائلاً عنها، وطلب من صديقه حسن عبد ربه أن يساعده ويتصل بالتجار، وهو صاحب العلاقات الواسعة بتجار الدواب، إن كان جاءهم أحد ليبيعها فربما أن أحد العابثين قد سرقها، أعطى مواصفاتها لهم وهو يصفها كأنما هي لعبة جميلة فقدها طفل في لحظة الحصول عليها. هو الكادح الذي تلفح الشمس وجهه كل يوم، يعمل بجد وشرف في الأرض، يكسب من عرق جبينه، وهو من بين قلةٍ قليلة، يحرث للفلاحين أراضيهم، يقلم أشجار الزيتون ويبني ويرمم السلاسل الحجرية (السناسل)، تمامًا كما يفعل في أرضه. انقضت أيام وأيام وهو يبحث في الجبال عن بغلته، التي فقدها عندما كان يعمل في أحد الحقول في بناء "السناسل".
في بيت حنينا البلد، حيث يعمل مجلسها القروي بقيادة رئيسه على مساعدة الفلاحين في بلده لحماية الأرض، حددوا المشكلة الرئيسية، بدون استدراج خبراء تنمويين، ولا مخططين استراتيجيين. إنها مشكلة حماية الأراضي والحقول من المواشي والحيوانات الأليفة كالأغنام والخيل والبغال والحمير، والبرية منها كالخنزير البري والكلاب السارحة. هناك وجد المجلس أن الوسيلة الأنجع والأكثر استدامة للتعامل مع هذه المشكلة تكمن في منع وصول تلك الحيوانات إلى الحقول، وهذا يتم بتركيب الأسيجة حول الحقول. المجلس قام بشراء المواد اللازمة لتركيب السياج ووزعها على الفلاحين مجاناً. لم يكن وضع السموم ولا نصب الأفخاخ، ولا الطلب بالسماح باستخدام السلاح الناري لقتل الحيوانات ومنها الخنازير البرية والكلاب الجوالة هو الحل بالنسبة لهم، فهذه حلول مؤقتة لا تدوم، تجعلهم يدورون في نفس الدائرة.
أيام مضت وإياد يبحث عن بغلته، فهي المُعين له في عمله الفلاحي، لكن لا خبر. في ذلك اليوم الأخير من البحث يتصل إياد ويقول بصوت الحزين الحانق المختنق: وجدتها ميتة، لكنها ليست ميتة طبيعية، لقد جرى تسميمها!!!
في قرية مجاورة لبلدته بني زيد الشرقية، تعاقد المجلس القروي لتلك القرية مع أحد الرجال، ليقوم بتوزيع المياه المذاب فيها أشد أنواع السموم فتكاً في محيط القرية وفي الحقول الممتدة المغروسة أساساً بالزيتون، ربما بإذنٍ من جهات رسمية - ربما. شربت بغلة إياد من مياه مسممة، فماتت على بعد خطوات قليلة. وكأنه لم يكن في حساب من وضع السموم أنه ليس وحده الخنزير البري من سيأتي ليشرب من تلك السموم!!! وكأن الحياة البرية تخلو من البغال والخيل والأغنام والحجل والحمام البري والغزال. وكأن الحيوان أو الطائر الذي سيشرب سيموت وحده، لكن ماذا عن صغار الحمام البري، الذين ينتظرون عودة الأم بقطرات ماء؟ حين تموت الأم ستبدأ صغار الطيور بالموت عطشاً وجوعاً.
ما بين استراتيجية بيت حنينا والقرية المجاورة لإياد أبو صبري فرقٌ بعيد، فهناك بحثوا عن حل مستدام وفكروا بالقط والكلب والحصان والأغنام وأطفال يلهون بعيداً عن عيون الوالدين. فلو تركت المياه المسمومة الموضوعة في أوعية وشرب منها أي من الكائنات أو طفل بريء لا يعي ما في المياه من حقد وعقلية قتل، فسيفقد حياته في دقائق، دقائق معدودة ليس إلا. وأيضاً، وضع السموم حلٌ مرحلي قصير المدى مثله مثل حملات القنص للخنزير البري، بل هو ليس بالحل، لأن الحيوانات البرية لن تنقرض، وتمتلك من الذكاء الفطري ما يجعلها قادرة على الاستمرار والبقاء حين تتعرض للخطر فتزداد حذراً ويزداد معدل توالدها، لذلك كان القرار بوضع السياج لحماية الحقول.
الزراعة المتداخلة في حقل الزيتون
استراتيجية الذبابة والشباك المفتوح
بغلة إياد مثلها مثل العديد من الحيوانات ضحية استراتيجية فيها قُصر نظر، استراتيجية تعيد تكرار نفسها بلا إبداع، هي استراتيجية الذبابة والشباك المفتوح ربع فتحة، ترى الذبابة تحاول الخروج من خلال الزجاج فتصطدم به وتعود تحاول الكرَّة من جديد فتصدم في نفس النقطة وتبقى كذلك، حتى تدوخ وتسقط أرضاً، مع أنه كان بإمكانها أن تحرف زاوية طيرانها عدة ميليمترات لتخرج وتعانق الحرية. هكذا هي استراتيجية توزيع السموم وحملات قنص الخنازير البرية والكلاب الجوالة، "استراتيجية الذبابة" وهي التي أودت بحياة الكثير من الأغنام والخيل والبغال. فإن كان كل هذا الحقد على بعض الحيوانات البرية يدفعنا إلى هكذا استراتيجيات لا إنسانية، عنيفة، كما نرى كل يوم من مشاهد لا أخلاقية ومشاهد مقززة، كتعذيب ضبع هنا، وسكب البنزين على حمار هناك، وتعليق ثعلب على عمود الهاتف في مكان آخر، فلا نعجب من قتل أخ لثلاثة أفراد في واد النار على الطريق، هم أخت الجاني وخطيبها وأخته، ولا من كل تلك الجرائم بحق الإنسان: أخ يقتل أخاه على شبر أرض، وإخوة يقتلون أختهم على ميراث ويلبسونها قضية شرف، وجرائم تسجل ضد مجهول.
العنف وفقدان التوازن الروحي
لا يمكن أن تمارس العنف على كائن آخر وتمنع نفسك من ممارسة العنف على إنسان، فما بالنا إن كان في داخلنا كل ذاك الحنق والحقد والعنف ضد الحيوانات كالثعلب والضبع والقط والكلب والخنزير؟! إن كل ما يحدث لنا في الخارج، ليس إلا انعكاساً لما هو في داخلنا، فالخارج هو صورة لما في الداخل، وما يحدث معنا ولنا في حياتنا اليومية، ليس إلا ترجمةً لما يُختَزن في مكنونات النفس البشرية. وحين تمارس العنف مهما كانت صورته، وعلى أي كائن كان، فلا تنتظر الخير من الكون، بل ستتم ممارسة العنف عليك بأشكال مختلفة، دون إدراك منك أن ما يُمارَس عليك من عنف إنما هو انعكاس لما تمارسه أنت من عنف على كائنات أخرى.
إبحث داخل قلبك، فهناك تكمن كل معاني الحياة، ومن هناك تتدفق كل تلك المعاني، أنظر للحياة البرية بمنظار القلب، منظار التعاطف والحب، عندها سترُد عليك الحياة بالحب والتعاطف. لقد فقدنا توازننا الروحي عندما سيطرت علينا فكرة أننا أسياد الطبيعة ومُلَّاكها، بدل أن نرى أنفسنا جزءاً من الطبيعة ودورتها. قبولنا للكائنات الحية على الأرض هو قبول الأرض لنا أحياءً عليها، وحين نُقَدِّر معنى الحياة، ستعطينا الحياة وتغدق علينا بالتوازن. كلما خلقنا لنا أعداء في داخلنا، سيظهر لنا الأعداء في خارجنا في حياتنا اليومية، وآن لنا أن نرى في الثعلب كما الخنزير البري والكلب والضبع شركاء على الأرض، وذكاؤنا يمكن أن يجعل عندنا القدرة على التعامل مع هذه الكائنات وقبولها في بيئتنا، وإن رأينا فيما تقوم به ضرراً لنا، كتخريب الحقول، أو دخول خُم الدجاج وأكلها، فما علينا إلا أن نرى أنها كائنات حية تبحث عن غذاءها بالطريقة التي خلقها الخالق عليها، فهذه فطرتها وهذا فن الحياة عندها، وما علينا إلا أن نجد بذكائنا المتفوق كما نعتقد، طرقاً لحماية حقولنا وخُم الدجاج، مع قبول أن تكون تلك المخلوقات جزءاً من المشهد الطبيعي.
سر التوازن يكمن في القبول، قبول الحياة بكل أشكالها، قبول الكائنات التي خلقت في هذا المكان أو ذاك. والأرض مدرسة الإنسان، الذي خُلق وله مهمة رئيسية واحدة: التطور في الوعي، فما خلقنا على الأرض إلا لنعي ونتعلم، وما يحق علينا تعلمه ووعيه هو "قانون العاقبة"، الذي هو ميزان أعمالنا، فلكل فعلٍ نتيجة، وعلى أساس هذا الفعل تقدم الحياة جزاءها، إن خيراً كان الفعل، خيراً جاءت النتيجة. وعلينا أن لا ننظر لقتل تلك الحياة على أنها خيراً، بل هو الشر، فإن فعلنا، شراً كانت النتيجة. في هذا القانون هناك مسألتان مهمتان: الأولى تمرحل النتيجة والثانية الأثر الجمعي.
هايكا كيسلر الخبيرة في التعامل مع الخنازير البرية
الجريمة والعقاب
تمرحل النتيجة تعني أنه حين نقوم بفعل ما تأتي النتيجة أولاً على شكل تنبيه، ثم تتحول إلى الإنذار وأخيراً مرحلة العقاب على الفعل. فإن بدأنا بقتل الحياة سيأتينا تنبيه لقباحة الفعل الذي فعلنا، وحين نستمر سيأتي إنذار، ثم ستحل العقوبة حين نبالغ في الفعل. ونحن اليوم بدأنا نبالغ في الفعل، لدرجة التباهي بتلك الأفعال القبيحة كتصوير البطولات في قتل الكلاب الجوالة، ومغامرات مطاردة الخنازير البرية وقتلها والتلذذ بسماع أنينها وهي تموت، وأقبحها سكب المحروقات على القطط والكلاب والحمير وإشعال النار فيها. ولنتذكر أنه "ما من خدشة عود أو عثرة قدم أو زلة لسان إلا بذنب".
أما الأثر الجمعي فيعني أن الأفعال الفردية تكون نتيجتها في البداية على الفرد إن كانت تلك الأفعال محدودة بقلةٍ من الأفراد، لكن حين تصبح ممتدة على مستوى أكبر، تتحول نتيجة تلك الأفعال إلى عواقب جمعية، تصيب المجموعة البشرية كلها، التي يتم فيها ذاك الفعل، فإن تم إيقاع الظلم من فرد سيتلقى هذا الفرد نتيجة ذاك الظلم، لكن إذا صار الظلم يقع من كثرة من الأفراد، فإن المجموعة البشرية/الشعب ستتلقى نتائج ذاك الفعل.
ولنتذكر أيضاً أنه: في كل كبدٍ رطبة أجر، أي أن العطف على كل مخلوق حي يرتد علينا بالخير.
تسييج الأراضي في بيت حنينا لحمايتها
تسييج الأراضي أم تأهيل الجديدة منها؟
نعزو في كل مرة تراجعنا في المجال الفلاحي-الزراعي إلى كوننا لا نستطيع فعل شيء أمام الخنزير البري، وكأننا نقف في حالة ضعف أو ربما هو تبرير للتقاعس أو التراجع عن دورنا في إنتاج الغذاء محلياً، لكن كما أوردت في مقال سابق، أعيد هنا: ما جدوى أن تصرف عشرات الملايين على تأهيل أراضي جديدة على أهميتها خاصة في مناطق مهددة من المستعمر الصهيوني، في الوقت الذي لا نلقي بالاً للأراضي الزراعية الجاهزة، والتي لا تحتاج منا سوى سياج حماية؟ متى سيكون تسييج بعض حقول الزيتون والعنب والتين ….القائمة جزءاً من الفعل التنموي؟ هذه الحقول لا تنتج فقط الزيت، بل يمكن أن تنتج في أجزاء منها القمح والبطاطا والشعير والفول، والثوم والبصل، الجزر واللفت والخيار والكوسا. تكلفة تسييج الحقول الزراعية القائمة والمنتجة منذ عشرات ومئات السنين أقل بكثير وكثير جداً من تكلفة تأهيل أراضي جديدة (مرة أخرى، رغم أهميتها)، ونتائجه الزراعية الإنتاجية أعلى وجدواه الزمنية أكثر بكثير، مع أن البعض وجد حلاً للخنازير البرية بطرق أكثر إبداعية وبأساليب مبنية على احترام العلاقة بالطبيعة، من خلال القبول والتعايش معها على أسس علمية، كما هو الحال في قرية تاميرا في البرتغال، وفي منطقة من الملكة المغربية في تعاملها مع العقارب. حين نلتفت إلى هذا الفعل، لن نحتاج لحملات التنكيل بالحياة البرية بخنزيرها وكلبها والثعلب ولن تموت بغلة جديدة بفعل السموم كما ماتت بغلة إياد.