من السناسل والهلاليّات إلى "حريم الأنهار" .كيف أبدع أجدادنا في ادارة مياه الأمطار والفيضانات ؟
خاص بآفاق البيئة والتنمية
الفيضانات والسيول لا زالت تُربك العلماء وخبراء الهندسة، رغم كُل التقدم العلمي الذي وصلنا إليه، وليست هناك حلول سحريّة يُمكنهم تقديمها، فمنهم من يتحدث عن استراتيجية للتكيّف مع الفيضانات ومنهم من يتحدث عن وسائل للحد من أضرار الفيضانات، إلا أن الشيء الأكيد أن استراتيجية مد شبكات التصريف الضخمة أثبتت فشلها أمام الكثير من السيول والفيضانات، وهذا لا يعني أنها لم تعد تنفع، ولكن هذا يعني أن قُدرتها محدودة ولا بُد من حلول محليّة، لامركزية ومُبتكرة.. وفي الكثير من الأحيان وجد العلماء ضالتهم في التقنيّات القديمة، فالأبحاث عن تقنيّات إدارة الامطار والفيضانات في بلاد الإغريق والهند وحتى عند عرب الأندلس ليست بالقليلة، وهناك كتب كاملة حول هذه التقنيّات القديمة والملهمة إلا أن هذا المقال يركز على الحلول المُبتكرة التي تبناها أجدادنا وتناقلوها جيلًا بعد جيل.
|
رغم كُل التقدم العلمي الذي وصلنا إليه في زماننا هذا، إلا أن الفيضانات والسيول لا زالت تُربك العلماء وخبراء الهندسة وليست هناك حلول سحريّة يُمكنهم تقديمها، فمنهم من يتحدث عن استراتيجية للتكيّف مع الفيضانات ومنهم من يتحدث عن وسائل للحد من أضرار الفيضانات، إلا أن الشيء الأكيد أن استراتيجية مد شبكات التصريف الضخمة، أثبتت فشلها أمام الكثير من السيول والفيضانات، وهذا لا يعني أنها لم تعد تنفع، ولكن هذا يعني أن قُدرتها محدودة ولا بُد من حلول محليّة، لامركزية ومُبتكرة.. وفي الكثير من الأحيان وجد العلماء ضالتهم في التقنيّات القديمة، فالأبحاث عن تقنيّات إدارة الامطار والفيضانات في بلاد الإغريق والهند وحتى عند عرب الأندلس ليست بالقليلة، وهناك كتب كاملة حول هذه التقنيّات القديمة والملهمة، إلا أننا في السطور القادمة سنُركز في الحلول المُبتكرة التي تبناها أجدادنا وتناقلوها جيلًا بعد جيل.
الأنباط..والإبداع في إدارة الفيضانات بالسدود!
كثيرة هي الدراسات والأبحاث التي وصفت النظام الهيدرولوجي النبطي وحيويته في حماية وحفظ التربة الزراعيّة والممتلكات من الفيضانات، فقد تميّز الأنباط في هذا المجال قبل حوالي 2500 عام من خلال تعايشهم مع الطبيعة وتضاريسها بدلًا من صراعها، فقد بنوا الكثير من القنوات والسدود التحويليّة والخزانات الأرضية والآبار والمصاطب الحجريّة التي لم تحفظ أنفسهم وممتلكاتهم من أخطار الفيضانات الوامضة فقط، بل جعلتهم يزرعون الصحراء بما يحتاجونه من نبات تضمن لهم احتياجاتهم الغذائية.
ولعلّ السدود التحويليّة والتخزينية تختصر حكاية تميّز الأنباط في هندسة وإدارة مياه الأمطار والفيضانات، ويوضح ذلك الباحث علي الشباطات بأن الأنباط قاموا ببناء عدد هائل من المصاطب والقنوات والسدود التي تحتجز المياه المتدفقة من الجبال. فالسدود التحويلية تقوم بتحويل المياه إلى الحدائق لريّها وبعد أن تكتفي الحدائق يتم تصريف المياه الزائدة نحو السدود التخزينية والآبار والبرك للاحتفاظ بها عند الحاجة. بالإضافة إلى هذا فإن كميّات من التربة الغنية (السلت والغرين) تتجمع عند السدود والبرك ويتم جمعها سنويًا وتوزع على المصاطب الزراعية لزيادة خصوبة التربة بالعناصر التي استهلكتها النباتات أثناء مراحل النمو المختلفة.

نموذج لعدد من النظم الهيدرولوجيّة التي كانت مستخدمة في بلادنا قديمًا – من دراسة Beckers وزملائه 2013
المُدرّجات السناسل والمصاطب..والفيضانات!
مع أن علاقة السدود بالفيضانات واضحة، إلا أن المُدرجات الزراعيّة غالبًا ما ترتبط بتسهيل عمليّة زراعة الأرض الجبليّة واستصلاحها واستغلالها، إلا أن ارتباط هذه المُدرجات بالفيضانات وادارة مياه الأمطار لا يقل أهمية وهو من الوظائف الأساسية والحيوية التي توفّرها المدرّجات والمصاطب والسناسل وغيرها من التقنيّات القديمة المُشابهة التي تساعد على توزيع وتقليل سرعة "الجريان السطحي"، مما يتيح للتربة امتصاص المياه المتجمعة واثراء مخزون الماء ومما لا يقل أهمية عن كُل هذا منع انجراف التربة والتي بخسارتها تقل خصوبة التربة.
في بحثها، تشير ريهام الذويب إلى أشكال مُختلفة من التقنيات التي ابتكرها أجدادنا مثل:
- المصاطب الصخريّة المنفذة والتي تنشأ في بطون المنخفضات العريضة قليلة الميل وتمتد بشكل متعامد مع الميل لتعمل على تقليل سرعة جريان مياه الأمطار، وتبلغ المسافة بين السدود 10-20 مترا.
- الجدران الترابية الكنتوريّة:
يتم انشاء جدران ترابية بشكل موازي مع الخطوط الكنتوريّة وهي خطوط تساوي الارتفاع، ثم يقسم الحقل إلى مناطق حصاد صغيرة مع عمل حُفر حول كل شجرة لامتصاص المياه.
- المدرجات الحجريّة: تستخدم بشكل أساسي في المناطق شديدة الانحدار.

مدرجات زراعية في قرية بتير - مصدر الصورة: إنجوي بيت لحم
الهلاليات وآبار الجمع!
لفهم تقنيّات تجميع وحصاد مياه الأمطار في التُربة، فلا بُد أن نميّز بين تقنيات مناطق التجميع الكبيرة كما هو الحال في المُدرّجات، وتقنيات مناطق التجميع الصغيرة كما هو الحال في الهلاليّات وآبار الجمع.
الهلاليّات كما تشرحها "الذويب"، هي: "حواف ترابية على شكل هلال تتوزاى أطرافه مع خطوط الكنتور، وتكون المسافة بين أنصاف الدوائر 1-8 متر ويبلغ ارتفاعها بين 30-50 سم"، وبالتالي فإن كُل هلاليّة تصبح أشبه بمجمع مائي صغير يستقبل المياه المتدفقة مع التضاريس مما يجعل هذه المياه تتغلغل في باطن الأرض بدلاً من انسيابها على السطح.
أما آبار الجمع، فهي من التقنيات الأكثر انتشارًا، بالأخص في المناطق العُمرانية وساحات المنازل (بالأخص في قرى الضفّة الغربية)، ولعل أحد أبرز الإبداعات التقنية في هذا المجال، هو ما يُسمى "البئر الانجاصي" والذي يصفه الباحث د.علي الشباطات بأنه "بئر جاء تصميمه على شكل حبة الأجاص، أي أن قطر فوهة البئر لا تتعدى 80 سم ثم يبدأ بالتوسع شيئًا فشيئًا حتى يصبح قطر قاعدته نحو 5-6 متر".
ويُشير "الشباطات" في دراسته حول الإدارة البيئية عند الآدوميين والأنباط بأن: "الأدوميون والأنباط برعوا في نحت الخزانات والآبار الجوفيّة عند أماكن تدفق الينابيع، وأماكن التقاء السيول وعند المنحدرات الصخريّة وعلى السطوح الصخريّة وذلك للاستفادة من كُل قطرة ماء تجود بها السماء".
ومن الممارسات المميزة التي يُشير إليها الباحث صالح الزيادنة بأن الآبار أو كما تُسمى "الهرَاب" لا توجّه المياه إليها في بداية موسم المطر، بل ينتظرون إلى أن تغسل السيول وجه الأرض وتجرف ما عليها من غبار وأوساخ فعندها يقوم الناس بتوجيه المياه إليها من خلال حفر القنوات الصغيرة تؤدي إليها من خلال ما يعرف بمصرف الهرابة، وهي الفتحة الجانبية التي تدخل منها المياه إلى جوف البئر.
من الجدير بالذكر، أن العباسيين قاموا ببناء مجمع مائي بديع في مدينة الرملة لتخزين مياه الامطار تحت الأرض وتعتبر من المعالم السياحية المميزة بفضل أقواسها البديعة ذات الرأس المُحدد وبسبب صمودها رغم كُل الزلازل، وهي من المعالم القليلة المتبقية من الفترة العباسية في فلسطين.

بركة العنيزية/ بركة الأقواس في مدينة الرملة - مصدر الصورة: صفحة التراث الفلسطيني عبر الفيسبوك
الغطاء النباتي..وحفظ المياه والتربة!
كما أن المدرجات الزراعية لا تتوقف وظائفها عند "الزراعة"، والآبار لا تتوقف وظيفتها عند توفير مياه الشرب، فإن الغطاء النباتي لا تتوقف وظائفه عند زيادة المساحات الخضراء بل ترتبط بسرعة التدفق والاستفادة من مياه الأمطار كما تشير الأبحاث. فكلما قلّت كثافة الغطاء النباتي وتحديدًا غطاء التربة في منطقة الأحباس العليا للأحواض التصريفية للأودية، فإن ذلك يزيد من طاقة المياه المتدفقة ويقلّل من تسرب مياه الأمطار إلى الطبقة الجوفية.
بحسب "الشباطات" فإن كمية التصريف قد زادت إلى نحو 2.6 م3في الثانية لكل كيلومتر مربع بسبب تواضع الغطاء النباتي في منطقة البتراء ولكن إذا ما تم زراعة الأحباس العليا للأودية بالأشجار والنباتات المختلفة، فإن كمية التصريف ستقل إلى 1.96 م3في الثانية لكل كيلومتر مربع، وهو ما يعني تخفيف حدّة الفيضان بحوالي 25%.
ومن الممارسات الزراعية المميزة التي مارسها أجدادنا للاستفادة من كُل قطرة ماء، هي الزراعة المُجاورة للصخور، ويقصد بها بحسب "الذويبات" أن تزرع الأشجار على مقربة من منطقة صخرية، تشكل حوض تجميع لمياه الأمطار التي تسيل باتجاه الأشجار.
ومما يُشير إليه المهندس الزراعي سعد داغر، في ورشاته حول ادارة مياه الأمطار أن المادة العضوية في التربة والغطاء النباتي وهو ما يُسمى mulch يُمكن أن يزيد كميّة المياه التي تخزّنها التربة، ويقول بأننا "إذا زدنا المادة العضوية في التربة إلى 4% وهو ما لا نجده اليوم في معظم الأراضي بسبب كثرة استخدام الكيماويّات، إلا أننا لو اتبعنا الزراعة البيئية ووصلنا إلى النسبة المطلوبة من المادة العضوية فإن بإمكان الدونم الواحد تخزين 80 كوب من مياه الأمطار وهي كميّة ضخمة تجعلنا نحافظ على المياه في داخل التربة.

من ورشة حول إدارة مياه الأمطار نظمتها مجموعة حكي القرايا ومُبادرة شراكة - تصوير عمر عاصي
حريم نهر..والتخطيط الغير "مسؤول"!
بعكس كُل الممارسات والتقنيات السابقة، هناك استراتيجيّات ذكيّة كانت مُتبعة للتكيّف مع السيول والفيضانات لم تكن تُكلّف الكثير من الجُهد، بيد أنها كانت تتطلب نمط تفكير مُتصالح مع الطبيعة والأرض، وهو ما يتجلى في مواقع القرى الفلسطينية قديمًا بشكل جلي، فعند زيارة أرشيبالد فوردر إلى فلسطين قبل 100 عام، لفت انتباهه أن "مُعظم بيوت القرى قائمة على تلال مرتفعة من أجل الدفاع عن النفس والتقاط النسائم العليلة في فصل الصيف ولها فوائد جليلة في تذرية القمح وغربلته ويمكن للمرء أن يشاهد القرى من أماكن بعيدة بفضل أرتفاعها.." ومع أن أرشيبالد هنا لم يلتفت إلى موضوع الفيضانات والسيول، حيث يبدو أن هذا كان مفهومًا ضمنًا بأن تُبنى القرى مُرتفعة بعيدة عن مجرى الوديان والأنهار.
في الفقه الإسلامي، نجد ما يُعرف بـ "حَرِيم النهر" وهي المنطقة التي لا يُحبذ السكن والإقامة فيها فهي منطقة غير مأمونة ويذهب ويختلف الفقهاء في تقديرها، فمنهم من يقدرها بأنها "نصف عرض النهر من كل جانب" فإن كان عرض الوادي 100 متر، فالحريم 50 متر من كل ضفّة من ضفتيه. هناك أراء تقدّر الحريم بأنه مدى انخفاض الأرضي الواقع قرب الوادي، سواء كان الانخفاض قريبًا أو بعيدًا، ينبغي الابتعاد عنه لخطورة هذه المنطقة خلال وقوع السيل.

رسوم توضيحية تشرح فكرة حريم النهر - مصدر الصورة: موقع هويّة بريس
ختامًا، فإننا اليوم ومع ما نشهده من تغوّل عمراني في مُدننا وقرانا، نجد حارات تُخطط ويُصادق عليها مع أن جزءا من البيوت مبنيّة في بطون الاوديّة - وليس في حريمها - ثم نجدها تتضرر وقد يُهدد خطر السيول والفيضانات أصحابها كُل شتاء، ونجدنا نُفكّر في كُل الأسباب والحلول ولا نلتفت إلى أصل العِلة، وهو ما كان مفهوماً بالنسبة لأجدادنا الذين عاشوا مع الطبيعة وأدركوا قوّتها وتعايشوا معها بدلًا من مصارعتها، فأبدعوا في بناء السدود التحويلية والتخزينية قبل أكثر من 2500 عام وبنوا المدرجات الزراعية والهلاليّات والآبار لاستغلال كل قطرة ماء.. بعكس ما يحصل اليوم في قرانا ومُدننا..ولكن إن كان هناك ما يبعث الأمل، فهو أن الهندسة والتخطيط الحديثين، بدءا يعودان إلى الفكرة التي أدركها أجدادنا جيدًا: كيف نستفيد من الأمطار والفيضانات..بدلًا من أن تتحول إلى مصدر قلق ودمار!