خواطر بيئية.. بقلم رحالة إنجليزي زار فلسطين قبل أكثر من 100 عام!
الرحالة ارشيبالد فوردر لم يكن ليترك فلسطين بعد أن أقام فيها عقدين من الزمان دُون أن ينشر كتابًا يُسجل فيه انطباعاته الشخصيّة، والتي غالبًا ما تكون نابعة من تصوراته وفلسفاته الخاصة، والتي لا تعكس بالضرورة رأي أهل البلاد التي زارها وأقام فيها. إلا أن المثير في كتاب "فوردر" الذي نُشر في نيويورك عام 1912، أنه قد حوى الكثير من التفاصيل الدقيقة عن حياة الريف؛ لأنه يرى فيها جذور الحياة الإنسانية الأولى، ومع ذكر هذه التفاصيل، يُمكننا أن نرى الكثير من ملامح الذكاء البيئي الذي تمتع به أجدادنا وجعل حياتهم أكثر "استدامة" من أسلوب معيشتنا اليوم.
|
خاص بآفاق البيئة والتنمية
|
إلى اليمين- الرحالة فوردر وفي اليسار-زعيم فلسطيني |
كعادة الكثير من الكُتاّب الغربيين ممن زاروا فلسطين وعاشوا فيها، فإن ارشيبالد فوردر لم يكن ليترك فلسطين بعد أن أقام فيها عقدين من الزمان دُون أن ينشر كتابًا يُسجل فيه انطباعاته الشخصيّة، والتي غالبًا ما تكون نابعة من تصوراته وفلسفاته الخاصة، والتي لا تعكس بالضرورة رأي أهل البلاد التي زارها وأقام فيها. إلا أن المثير في كتاب "فوردر" الذي نُشر في نيويورك عام 1912، أنه قد حوى الكثير من التفاصيل الدقيقة عن حياة الريف؛ لأنه يرى فيها جذور الحياة الإنسانية الأولى، ومع ذكر هذه التفاصيل، يُمكننا أن نرى الكثير من ملامح الذكاء البيئي الذي تمتع به أجدادنا وجعل حياتهم أكثر "استدامة" من أسلوب معيشتنا اليوم.
المسكن.. القرية بعيون "استشراقيّة" !
عندما يُحدثنا "فوردر" عن القرى، فلا يُمكن أن نتوقع منه أن يصورها لنا كما يصورها "ابراهيم نصرالله" كقرية الهادية في "زمن الخيول البيضاء" أو الشيخ حسن مصطفى في كتابه "خطرات ريفية"، إلا أن نظرته الخاصة تجعلنا نكشف سر وجود الكثير من القرى الفلسطينية على المرتفعات فيقول: "معظم بيوت القرى قائمة على تلال مرتفعة من أجل الدفاع عن النفس والتقاط النسائم العليلة في فصل الصيف ولها فائدة جليلة في تذرية القمح وغربلته ويمكن للمرء أن يشاهد القرى من أماكن بعيدة بفضل ارتفاعها..".
بعد هذه المقدمة اللطيفة، يُمكن أن نلحظ الفرق عندما يبدأ "فوردر" بوصف القرية من الداخل فيقول: "غير أن منظرها عن بعد يمتع النفس أكثر من معاينتها عن كثب". وقد يداخل الزائر شيء من الأسى حين يلج أحياءها فإن المساكن مؤلفة من غرف تخلو من التنسيق الهندسي!" ويستمر بالتصوير بعدسته "الاستشراقية" التي ترى دروب القرية الفلسطينية كما لو كانت خرابة. وكان ينظر إلى السناسل وبيوت الحجر باعتبارها خالية من الهندسة، وهو ما يتناقض مع الكثير من الدراسات التي تتناول مميزات العمارة الريفية في فلسطين بكُل ما فيها من تفاصيل.
للأسف؛ لم يرَ "فوردر" أنماط البناء المختلفة مثل الأسقف المُقببة والبناء الحجري بطريقة "البتتين وركة" والتي تضمن العزل الحراري للمبنى دون مكيّفات. ومثل الطاقات التي تُترك في الجدران كي تكون مأوى للطيور وهو ما يعكس انسجامًا بين الإنسان والحيوانات في نفس الحيز، ثم الحواكير الغنيّة حول المنازل والتي كانت تضمن للسكان أمنًا غذائيًا، وغير ذلك من فوائد كثيرة لم يرها "فوردر" وهو يتحدث عن "الغبار" و"الحشرات" وأكوام الروث على أطراف الطرقات، فكما يبدو؛ فقد افتقد "الأثاث الفاخر" الذي كان يجده في البيوت الأمريكية!
الملبس.. من السراويل إلى الفروة!
يعترف فوردر لاحقًا، أن عادات السكان التي لا تروق له في أغلب الأحيان هي في الواقع أكثر ملاءمة للبيئة والمناخ، فيقول في حديثة عن ملابس القرويين و"السراويل" تحديدًا: "إن السراويل الفضفاضة التي يرتديها القروي تتيح له أن يجلس القرفصاء وأن يشعر بالاسترخاء خلال العمل الشاق. وللرباط المتهدل حول الوسط دور واضح في هذا الشأن أيضا، إذ يعينه على تسرب الهواء إلى الجسم فينعشه في أيام القيظ الحارة، غير أن للثوب طرازًا بسيطًا ويزداد الإعجاب به كلما كثُرت ألوانه".
وفي الحديث عن المعاطف التي يسميها الفلسطينيون "فروة" ويهتمون باقتنائها، لم يكن الكثيرون منهم يستطيعون الحصول عليها، وكان من يحصل عليها يُضحي هدفًا للغبطة/الحسد كما يشير الكاتب. ويضيف بأن "الفروة" كانت تصنع من جلود الخرفان المدبوغة بشرط أن لا ينزع عنها الصوف ولهذا كانت وقاءً محكما من الرياح القارسة، كما يتدثر بها عند النوم أو عندما يرعى أغنامه في الحقول أو عندما يرافق القافلة. لا يتوقف "فوردر" في حديثه عن الفروة هنا، بل يشير إلى مسألة أثارت استغرابه وهو أنه "ليس بمستهجن أن يرتديها الفلاح صيفًا حينما تشتد الحرارة، من منطلق: أن "ما يقي من البرد لا بُد أن يحمي من الحرارة".
يشير الكاتب كذلك في حديثه عن الملابس الفلسطينية، إلى مسألة هامة جدًا، وهي الخصوصيّة التي كانت تتمتع بها كل منطقة في طريقة لبسها وتطريزها، وهي مسألة لم تعد واردة في زمن العولمة. للدكتور عبدالوهاب المسيري تعليقات مهمة على هذا الموضوع باعتباره "علمنة الملابس" و"تغريب الزي". وقد أشار إلى ذلك في سيرته الذاتية عندما ذكر بأنه طلب من الخياط أن يصمم له قميصًا يتفق مع بيئة مصر، بحيث يكون بلا رقبة والتي لا لزوم لها في البيئة المصرية - كما يرى- وبالتالي فالأفضل أن يكون القميص مفتوحًا من الأمام مثل الجلابية.
مؤلف الرحالة فوردر حول فلسطين
الطعام.. وتدوير مخلفاته!
إلى جانب إعجاب "فوردر" بمواقع القرى الفلسطينية و"هواها" والسراويل الفضفاضة ومدى ملاءمتها للمناخ نجد منه اهتمامًا بالغًا بالطعام ويُخلّد لنا الكثير من التقاليد "الذكيّة" و"المستدامة" المتعلقة بزراعة وتحضير بل وتناول الطعام.
في حديثه عن إعداد القمح للطحن يلفت انتباه القارئ إلى تقنيّة ذكية تقوم بها النساء لتسهيل عملية تنقية القمحة من الشوائب المختلفة به كالقش وغيره مما قد يؤذي الأسنان عند المضغ، فيقول أن النساء تستخدم لذلك مُنخلًا يبلغ قطره نحو 20 بوصة ثم يهززن القمح بطريقة (ذكيّة جدًا) فتجتمع الشوائب في أحد الجوانب بعيدًا عن المحور ثم تلقى جانبًا كي تقدم بعد ذلك طعامًا للدواجن.
أما عندما يُحدثنا عن الزيتون، فلا يغفل "الكفاءة"، فيقول أن الزيتون كان يُعصر مرّتين لاستخلاص ما يتبقى فيه من الزيت، أما ما يتبقى من مادة صلبة، وهو ما قد يبدو عديم للفائدة، فإنه "جفت" يُرسل إلى أفران المُدن ويستخدم هناك كوقود وبالتالي: "لا مكان لإهدار شيء من الزيتون".
وهذا يظهر أيضًا في حديثه عن العنب، فيوضح كيف أن الفلسطيني يصنع شرابًا مكثفاً من العنب يُدعى "الدبس" بالإضافة إلى ذلك يصنع المسيحيون "النبيذ"، وبالإضافة إلى هذا فإنه وبعد انتهاء الموسم؛ يُسمح للماشية أن تتجول في الكروم لتتناول الأوراق المتبقية على الأغصان ثم يقول: "إن كل شيء في الكروم ذي جدوى بدءا بالعنب وانتهاء بالأوراق".
إحدى الأمور المميزة الذي ذكرها الكاتب عن زراعة العنب، هي أن معظم شجيرات العنب كانت تنمو زاحفة على الأرض لأن الفلاح يعتقد أن العنب سينضج عندئذ ببطء في ظلال الأوراق فهو يكره أن يعلق الأغصان على عصي مغروسة لئلا تتعرض لحرارة الشمس اللاهبة فتنضج قبل أن يكتمل نماؤها، وكثيرًا ما تجعل الأغصان على أكوم من الحجارة فتنضج بفعل حرارتها الشديدة خلال فترة وجيزة.
ولأن الحديث عن فلسطين وخيراتها لا يكتمل دون الحديث عن "الصبر" فقد ذكر فوردر الصبر بأنه كان يُزرع لغايتين، أولاهما أنه سياج طبيعي للحقول إذ يحميها من الغرباء والحيوانات، والثانية أن أكله يرطب الجسم في أيام الصيف ويضيف: "أحسَن الناسُ صنعًا بإطلاق اسم (الصبر) عليه لأن نزع القشرة يحتاج إلى الكثير من العناية والصبر.
وفي الصيف، ومع انعدام وجود الثلاجات، لم يكن الفلسطيني يعدم المياه الباردة وذلك بفضل "الجِرار" و"القِرَب" التي كان يستخدمها لتخزين المياه كما يذكر "فوردر"، ويوضح أن "القربة" تُفضّل على الجرة لأن الأخيرة سهلة الكسر كونها مصنوعة من الفخار وهذا لا يعني أن العائلات كانت تتخلى عن الجرار بل كانت تستخدم القرب للنقل، أما الجرار الفخارية فكانت توضع في رُكنٍ من البيت.
الاستدامة !
ختامًا فإن مذكرات "ارشيبالد فوردر" التي ترجمها الدكتور ابراهيم العلم بعنوان "الحياة اليومية في فلسطين في ظل الحكم التركي" مليئة بالتفاصيل الدقيقة التي يُمكن أن تساعدنا على النظر إلى تراثنا بعيون مُختلفة. سواء كان الحديث عن إخضاع الطفل عند مولده لغسله وتمليح جسده الغض، وذلك لأن "الناس يعتقدون أنه بغير الملح؛ فإن الجسد سيكون عرضة للجراثيم التي قد تودي بحياته". أو حتى في الحديث عن مدى ملاءمة ملابس أجدادنا لواقع هذه البلاد ومناخها وأسلوب حياتهم أو حتى في الحديث عن كيفية زراعة العنب من أجل حفظها من العطب وإطالة أعمارها وتقليل "الفاقد الغذائي" منها، وفوق كُل هذا؛ حكايات الكفاءة في التعامل مع الزيتون والعنب .. فإن كُل هذا ينبغي أن يذكرنا بالاستدامة في حياة أجدادنا.. ومدى التبديد والتبذير و"الاستهلاك" و"الكبب" في حياتنا نحن الأحفاد!