كتب الزعيم الاشتراكي كمال جنبلاط مقالا في حماية البيئة بعنوان " أدب الإنسان بالنسبة للطبيعة الخارجية " أي السلوك الإنساني القديم تجاه البيئة ضمن كتابه " أدب الحياة " الصادر عام 1972، وفيه تناول جنبلاط مختلف موضوعات حماية البيئة كما نفهمها الآن. وفيما يأتي مقتطفات دالة من هذا المقال القيم، الذي استهله بالعبارة الشعرية الرائعة " إنك لا تستطيع أن تحرك زهرة دون أن تهتز إحدى النجوم ".
(الأنظمة البيئية)
ترتفع الضرورة الملحة في عصرنا لتحقيق مثل هذا الأدب في تعاطينا مع الطبيعة الخارجية؛ لأن الإنسان خرج عن المألوف والمعقول والطبيعي في عدد كثير من الأشياء، وأخذ يستصنع بيئته دون أن ينظر بدقة إلى حقيقة تكوين هذه البيئة، وكيف أنها تلتزم هي أيضا بتفاعل دائب لأزواج متعددة من الأضداد، وكيف أنها أوجدت لذاتها أنظمة خاصة لتحويل جميع الإفرازات والنفايات، وما نسمية بالأوساخ الطبيعية، إلى عناصر جديدة ومواد خام أولية تدخل في صنع وتغذية النبات والحيوان، اللذين يمتصانها في حركة دائبة وحلقة متصلة لا تتوقف في فعلها.
وكان على الإنسان المعاصر لو أدرك حقيقة النهج العلمي، أو لو بدأ بالتعرف على مجمل هذه الأنظمة، وعلى جميع ما تتضمنه الطبيعة الخارجية من أزواج الأضداد المتكاملة ـ كان على الإنسان العصري وعلى كل إنسان أن يحترم هذه النظم وهذه السنن في تكوين كل حركة وكل حياة من تفاعل الأضداد، لا أن يسعى إلى إهمال نشاطها الصامت، وأن يحاول هدمها وتقويضها، أو أن يباشر، بواسطة صناعته وأدويته الزراعية السامة مثلا، بإبادة الضد الذي يقابله، ضدٌ يحد من انتشاره في البيئة المحيطة بإلانسان.
مثل بسيط على ذلك يعطيه العالم الأستاذ " هاريسون براون" :
" ابن آوى، أي الثعلب، يعيش في غذائه على افتراس الأرانب. والأرنب بدوره يعيش على العشب النابت بشكل طبيعي في السهول والجبال. فإذا كثر العشب في بعض السنين ازداد تلقائيا عدد الأرانب، الأمر الذي ينجم عنه تكاثر الثعالب.. وهذه الحلقة هي كاملة إذن بين العناصر الثلاثة: العشب والأرانب والثعالب، وهذه الحلقة تؤدي إلى توازن ما في الطبيعة يجعل الأرانب لا تأكل كل العشب النابت وتترك لغيرها من الحيوانات مجالا للعيش .. فإذا تدخل الإنسان في شكل من الأشكال الطاغية ليهلك عنصرا من هذه العناصر، اي الثعلب مثلا الذي هو نسبيا الضد الطبيعي للأرنب، نجم عن ذلك تكاثر غير طبيعي للأرانب فيستفحل ضررها على المزروعات التي يستنبتها الإنسان على الأرض."
(المبيدات)
وهكذا شأن الطيور وبعض الحشرات التي تتغذى من حشرات أخرى مضرة بالزراعة، أو تتغذى من بعض الآفات التي تصيب الخضار والمغروسات. فإذا الإنسان تعرض، بواسطة ما يسمونه بالمكافحة الزراعية والأدوية السامة القاتلة لبعض أنواع الحشرات والأمراض، ولم ينتبه بأنه يبيد في الآن ذاته الأضداد لهذه الحشرات ولسواها، فإنه يلحظ بعد حين ظهور أمراض جديدة لم تكن تصيب المغروسات والمزروعات؛ كما أنه يشهد أحيانا كثيرة استعصاء الأمراض التي يكافح وجودها، لأنها تكون قد اعتادت على الأدوية المذكورة واكتسبت مناعة بالنسبة إليها ... ويخشى نظريا أن يكتسب نوع من الحشرات مناعة متعددة الانفعالات بالنسبة لعدد كبير من الأدوية الزراعية المقاومة لانتشارها، أو بالنسبة لكل ما يمكن أن تبتكره الصناعة الحديثة من مبيدات جديدة، وإذّاك تكون الكارثةـ على نطاق محدود طبعا ولكنه خطير في نتائجه في كل حال ـ فيعمد هذا النوع من الحشرات أو الأمراض إلى الانتشار بدون رادع من الحشرات المضادة التي كانت تقاوم انتشاره .. لأن الضد يتغذى ويعيش من ضده أبداً؛ فإذا قضينا على الضد الخيّر في محاولتنا القضاء على الضد الضار، انطلق هذا الأخير من عقاله الطبيعي وانتشر بدون هوادة.
هذا فيما عدا أن السموم الجديدة المبيدة التي يستعملها الإنسان تقضي، في آن واحد، على قسم كبيرة من الأعداد الهائلة من الجراثيم التي تعيش في التربة الصالحة للزراعة، والتي تنشط في امتصاص غاز الأزوت [النتروجين] الهوائي مثلا، وفي تحويله إلى مواد تغذية نباتية. وكذلك يلوث بعض هذه السموم مياه الأنهر والينابيع ومصادرها في أعماق الأرض ـ السمّ المعروف بالد.د.ت. مثلا: ينتقل مع الحشائش والبذور إلى جسد الأبقار وحليبها؛ ثم يتركز بواسطة شرب هذا الحليب في بعض أعضاء جسد الأطفال بعد ولادتهم، وترتفع نسبة هذا التجمع المسم [التركيز] في الكبد، هذه الآلة الدقيقة جدا في عملها والتي هي ذات شأن خطير في حياة الإنسان .. ثم إن بعض هذه المبيدات تنتقل بالوراثة من جسد الأب والأم إلى جسد أولادهم، وهكذا يلحق التلويث السلالة البشرية بأسرها.
(الربيع الصامت)
في مؤلف معروف أحدث نشره ضجة في الولايات المتحدة، وفي العالم المتحضر كله ـ "الربيع الصامت " ـ حاولت "راشيل كارلسون " أن تثير الرأي العام الواعي وأن تظهر بوضوح الخطر الناجم، على الطبيعة وعلى الإنسان، من استخدام الأدوية السامة المبيدة للحشرات ( وبخاصة د.د.ت ) لأنه خطر على كينونة الحياة ذاتها على وجه الأرض؛ وذلك بالإخلال عمدا بالنظام الدقيق وبالتوازن الأدق الذي نسجته الطبيعة لذاتها ولبقاء الحياة، من خلال فعل التطور، وعبر المليارات من السنين المنصرمة .. ويجب ألا ننسى أن الحياة هي وليدة توازن وتناقض معين، وتناسق متكامل في الوحدة، بين عناصر كثيرة مختلفة خرجت، من توازنها وتناقضها، هذه الحركة التي نسميها الحياة.
بالرغم من المقاومة الشرسة التي أبدتها الشركات المتنجة للمبيدات، إلا أن الحق انتصر أخيرا على القوة، وأمر الرئيس الأمريكي كنيدي بإنشاء لجنة خاصة لدراسة كتاب " الربيع الصامت" وتحركت بعده جمعيات ناشطة وأفراد، وكان أن منع مثلا وأخيرا بشكل رسمي إنتاج واستخدام الد. د.ت في الولايات المتحدة.
وهذا التيار، الرامي لحماية الطبيعة والإنسان من العبث، بدأ ينجم عنه اهتمام متصاعد بهذه القضايا الحيوية الخطيرة تجسّد بالمطالبة بإنشاء مصالح حكومية تعنى بهذه الشؤون، ولم يكن المؤتمر الإيكولوجي [ اي لحماية الطبيعة ] في استوكهولم، عاصمة (السويد ) سوى منطلق جديد للدعوة الخيرة المتعاظمة.
(الأغذية العضوية)
ألف سلام وذكرى طيبة على تلك الأيام التي لم تكن فيها المغروسات والمزروعات ترش بهذه المواد السامة، القاتلة لكل شيء تقريبا سوى جراثيم الأوبئة والأمراض التي تحتجب ثم تظهر أقوى فأقوى .. في الواقع وفي الحقيقة، لم تكن الخضار والبطاطا والبصل تصاب إلا قليلا بأي مرض.. وكانت حشرة المالوش هي الهم الملاحق لصغار الشتل [الاشتال ]، ولكن حلقات القصب المجوف كانت الرد الطبيعي المألوف والناجح أيضا. وكان لبنان جنة الطيور والحيوان من جميع الأصناف التي تقطن هذه المنطقة أو تأتيها هجرة. وكان كل نوع فيها يأخذ نصيبه من العيش ومن الخضار والثمار ـ وهذا حقه وحصته. كنا نأكل التفاح والعنب والليمون والمشمش إلخ.... بدون رشها بالمبيدات الحشرية المسمة، بعد أن يسقط في نصيب الطيور والحيوان والحشرات خمسة أو عشرة بالمئة من مجموع الثمار لا أكثر، أي ما يقابل ربع أو عشر ما نتكبده ماليا لرشها اليوم.
وكانت الدنيا بهية، فيها البهجة والفرح والبحبوحة، والنظافة من هذا الاتساخ السام الذي ابتدعته صناعة الكيميائيات الحديثة ـ على غير هدى أو دراسة تحليلية سليمة ودقيقة لنتائجه على دورة الحياة النباتية والحيوانية وعلى الإنسان. وكانت النسور والعقبان والشوح وطيور الباز وأبو صوي الحيات والشواهين والترغل والحمام البري، وألوان العصافير والفراش، وألوان البوم والطيور الليلية الأخرى في الليالي المقمرة، تكوّن أروع تناغم التآليف في الطبيعة. وكانت أصواتها تبعث تفتح الجمال والمحبة والأنس في قلوب السامعين، في فجر كل صباح وطوال ساعات النهار، حتى يأذن المساء فتؤوب إلى أجحارها وأوكارها وسط هذا التناغم البديع من الأصوات.
(الصيد الجائر)
يضاف إلى ذلك فعل الصيد في تهشيم الطبيعة، وفي تقتيل الحيوان ومحو الطيور وكل حيوان أو طير يتغذى من هذا الكائن أو من هذا اللون من الحشرات أو الأعشاب، كأننا أمام مجزرة حقيقية يقوم بها هذا الإنسان المتوحش، المبيد لكل شيء بشباكه، بأسلحته النارية، بالمواد السامة التي يوزعها على الخليقة. وإنما مقياس الحضارة الحقيقية في الإنسان هو احترام الكائنات الحية، ونقديره للدورات المترابطة التي تشكلها أقمطة الحياة على وجه هذه التربة وفي أعماقها.
ويدعون – أرباب الصيد الفتاكون بكل شيء ـ أن معظم الطيور التي نقتلها هي عابرة للأجواء، بعد أن قتلوا تقريبا جميع الطيور والحيوانات القاطنة بشكل دائم في البلاد. وهو عذر أقبح من ذنب؛ وإنما يُظهر تجاهلهم لترابط وتلازم الطبقات الحية للحياة في كل مكان. وهكذا أصبحت غاباتنا وحدائقنا ومزارعنا خاوية من كل صوت سوى صوت هذا الإنسان البغيّ [الباغي ] الجاهل الذي قد يتناول جفته [بندقيته ] لإبادة فراشة في الهواء ( أدب الحياة ، ص ص 133- 142- 147 )
ثم جاء السماد الكيماوي، ويبدو أنه لم يكن خاليا من الأوبئة الجديدة – أو أن " اليد الرأسمالية " المنتجة للأدوية الزراعية دست فيه بعض الأوبئة ... ثم جاءت الدعاوة الواسعة لاستخدام المبيدات الحشرية.. ووردت إلينا المبيدات المسمة جدا بعد الحرب العالمية الأخيرة. وكان قد أخترعها العلماء لاستخدامها في الحرب ولغاية قتل الإنسان، فلما وقع السلم ، تحولت المصانع في الترويج لاستخدامها ضد الحشرات والآفات الضارة.
(تلويث المسطحات المائية)
على أنه يتوجب علينا أن لا نهمل الوجه الاخر للمشكلة، والذي قد يكون أخطر بكثير على مستقبل الحضارة من استخدام الأدوية السامة المبيدة للحشرات وللطيور وللحيوان في آن واحد.. وهذا الوجه الآخر معضلة تدخل الإنسان على غير هدى في أنظمة الطبيعة وإفسادها، هو إفراغ النفايات الصناعية والسوائل الكيميائية في الأنهر، في البحيرات، في البحار، بما في ذلك كميات هائلة من النفط والزفت الناجمين بشكل خاص عن عمليات حفر واستثمار الآبار في مياه الشواطىء، وغسل ناقلات النفط لمستودعاتهم في البحر.. ويقدرون أن كمية النفط السنوية التي تلوث مياه البحر والأسماك والحشائش والكائنات الصغيرة التي تتغذى منها الأسماك وحيوانات البحر، فيما عدا تلوث الشواطى بثلاثة ملايين من الأطنان سنويا، وسيرتفع هذا الهدر الملوث إلى عشرة ملايين وفق ما يرقبون في السنين القليلة المقبلة علينا.
وتلوث الأنهر والبحيرات والبحار بهذا الشكل المتواصل، يهدد بتحويل الأنهر والبحيرات والبحار ذاتها إلى أنهر وبحيرات وبحار ميتة، لا يقطنها شيء كما حدث فعلا لبعض الأنهر ولبعض البحيرات في الولايات المتحدة وفي أوروبا.
(مصادر التلوث)
هذا التسمم الذي سيصبح الشامل يأتي من مصادر عديدة منها:
1. دخان المصانع والمعامل والغازات المنبعثة من مداخنها في الهواء.. فمع حركة التصنيع المتصاعدة في الدول المتقدمة صناعيا وفي الدول النامية، فإن مثل هذا التلوث يوشك أن يصبح عاما.
2. الدخان والغازات المنبعثة من السيارات المتنقلة والتي تشكل في الولايات المتحدة نصف طاقة التلويث الهوائي العام.
وهذه الغازات والأدخنة تعبث بأجواء المدن وعدد من القرى، وتجعلها غير صالحة للتنفس البشري، فيما عدا أنها تكوّن فوق المدن، بامتزاجها بالهواء وبخار الماء، غيوما حقيقية تحبس الأوكسجين عن المواطن وتسهم في تجريح رئتيه وإفساد دمه.
3. السوائل المعدنية والنفايات الناجمة عن عمل المصانع، والتي تفرغ في الأنهر وفي البحيرات وفي البحار، وهي تتضمن في معظمها إما على مواد سامة كبعض مركبات الزئبق مثلا، أو على عناصر كيمائية تقتل الأسماك والحيوان البحري بشكل مباشر، أو تبيد الكائنات العضوية المجهرية والحشائش والنباتات التي يتغذى منها ساكنو الأنهر والبحار والمحيطات؛ وفي الحالين النتيجة واحدة: الموت والتدمير.
4. الأدوية الزراعية والمبيدات الحيوانية التي تقضي في آن واحد على أزواج الحشرات النافعة والضارة على السواء، على الضد ونقيضه، فتحدث فراغا في أنظمة وتشكيلات الحيوانات التي تتكون منها الحياة في تركيبها العضوي الشامل لطبقة الأحياء على وجه الأرض.
ويدخل فعل تسميم الأدوية المبيدة للحشرات وللإنسان إلى أعماق الأرض، إلى مصادر الينابيع؛ ويخرج معها إلى الأنهر ثم إلى البحار التي تصب فيها فيتعمم مفعول هذا السمّ، ويعود إلينا من خلال المآكل النباتية أو الحيوانية التي نتنغذى منها.
وكذلك تفسد هذه السموم الكيميائية التربة، فتقتل فيها الكائنات العضوية الصغيرة التي هي في أساس تكوين خصب التراب...
5. ما النفايات الذرية، فإنها آخذة بالتكاثر إلى درجة أنهم يفكرون جديا بوضعها في صواريخ خاصة، وارسالها إلى محيط الشمس تجنبا لتلويث الأرض بها. والواقع أن المحطات الذرية المولدة للطاقة تنتج قليلا من النفايات، أما النفايات الحارة الناجمة عن إنتاج السلاح الذري، فإنها كثيرة، وهي معضلة المعضلات.
6. تهديم التربة والتلويث الناجمين عن استخدام الأسمدة الكيميائية، فإن مواصلة استخدام هذه الأسمدة – خصوصا إذا لم تمزج بكمية وافرة من الأسمدة الطبيعية العضوية ـ يتسبب بتقويض تماسك التربة وصمودها في مواجهة هبوب الرياح وجريان المياه وهطول الأمطار.... فهناك مساحات واسعة في الولايات المتحدة وبعض الدول المتقدمة صناعيا قد أصابتها كوارث طبيعية هائلة ليس أقلها القحل وانجراف التراب وتفككه، بحيث لا تعود تصلح للزراعة.
ومن آثار استخدام الأسمدة الكيماوية .. أن هذه الأسمدة تؤثر في قيمة المواد المنتجة الغذائية، وتخفض من الفيتامينات وسواها من الشحنة المعدنية والغذائية للمنتجات الزراعية .. ويظن بعض الأطباء أن الهرمونات وسواها من مواد العلف الصناعي هي بحد ذاتها مبعثا محتملا [ مبعث محتمل ] للسرطان.
7. ومن آفات التلوث أيضا ما ينجم عن إفراغ نفايات الإنسان الطبيعية من مأكل وشراب وبراز وماء الغسل ورماد وسواه ـ في المجارير (المجاري ) ثم في البحر، وهي عادة لم تألفها الطبيعة، لأنها، عبر مئات وآلاف الملايين من السنين، جرت على دورة ترابية جرثومية نباتية يُهضَم فيها التراب ويحول إلى مواد معدنية وعضوية، في عملية مختبرية كاملة، جميع نفايات الإنسان الطبيعية .. كما تعودت الطبيعة. لأن للطبيعة مسلكها وعاداتها، أن تهضم وتحول نفايات الأسماك والحيوانات والنباتات البحرية بواسطة دورة مائية جرثومية نباتية حيوانية خاصة ببيئة البحر.
فانصباب المجارير في الأنهر وفي البحيرات والبحار، قبل تنقية محتواها وتطهيره، يعرض الأنهار والبحيرات والبحار إلى تلويث مفجع؛ ويهدد، على مساحات واسعة، مظاهر الحياة في جميع أشكالها في هذه الأنهر والبحيرات والبحار، فيما عدا الروائح الكريهة، والألوان الكريهة التي تحدثها هذه المجارير...
8. التلويث الناجم عن النفايات المصطنعة (الصناعية ) للإنسان؛ وهذه النفايات تتكاثر بشكل مريع في الدول المتقدمة صناعيا، خاصة تلك التي يصفونها بمجتمعات الاستهلالك، حيث أصبح الإنسان عبدا للسلع التي يقدمها إليه الصانع ـ عبر دعاوته التجارية المغرية والمضللة .. وبالتالي حيث أصبح أكثر فأكثر الإنسان عبدا لشعار التنمية المستمرة والمتصاعدة، عبدا للآلة والتكنولوجيا الحديثة .. وهذا الشعار، كمفهوم الاستهلاك للاستهلاك، هو من بقايا التفكير الليبرالي المطلق الهدام: "الحرية، الحرية المطلقة في كل شيء، الحرية بدون أي نظام." ...
والجدير بالملاحظة أن قسماً كبيرا من هذه النفايات المصطنعة كالمواد اللدنية [البلاستيك]، لا يوجد لها مقابل في الطبيعة، لأنها من خلق الإنسان في المعنى الصحيح للكلمة. يضاف إلى ذلك أن هذه المواد التي يكثر استعمالها، لا تتأكسد في الطبيعة أو تؤثر فيها الحموضات أو القلويات أو المركبات الكيميائية الموجودة في الطبيعة، فتتحلل كسائر المركبات والأشكال المعدنية .. بل مفروض فيها أن تبقى لمدة عير محدودة من الزمن، وبعضها غير قابل حتى للاحتراق، فاللدائن تشكل مشكلة جديدة معقدة.
9. التلويث الناجم في الفضاء عن الطائرات النفاثة والغازات المنبعثة منها في الأجواء العلى، تضاف طبعا إلى تلويث الفضاء بالمواد المحترقة في الصواريخ ... ومن تأثير الطيران النفاث ازدياد بخار الماء في الهواء في الطبقات العليا، إذ إن كل طن من الوقود السائل في الطائرة يولد عند احتراقه طنا وربع طن من بخار الماء من خلال اندماج غاز الهيدروجين في الوقود مع غاز أكسيجين الهواء.
10. وأخيرا لا آخراً: التلوث البصري، والتلوث السمعي، والتلويث اللاحق بجميع الحواس.
فالتلويث السمعي هو في هذا الضجيج المستمر القائم في المعمل، في الشارع ، على الطرقات، في الملهى، في الملعب، في كل مكان تقريبا داخل المدن وعلى خطوط الرحلات التي تربطها بعضها ببعض .. ويكاد الإنسان يتهدم في هذا الضجيج، وتهيج أعصابه، وتتعب حواسه، ويرهق فكره وجسده.
أما التلويث البصري، فهو في الأضواء الكهربائية المتعددة والمتنوعة الألوان التي تنير الشوارع وفي أنوار السيارات المارة في الليل وحتى في النهار ... وهو أيضا في الإعلانات التجارية الصاخبة التي تضيء الطرق والحيطان، وفي تحديد النظر بالتلفزيون، هذا التحديد الذي كثيرا ما ينتج عنه تحوير وتشويه في محاور كرة العين وسواها من الانجذابات الضاغطة البصرية .. وكلها له أثر كبير من الضرر في حياتنا الجسدية والعقلية.
من كل ما تقدم، يظهر لنا أن التربة والنبات والحيوان والإنسان تشكل مع عناصر الطبيعة وكل منها، وكل مع الأخرى، أجهزة [ أنظمة ] كاملة لها دوراتها وتوازنها وتداخلها بعضها ببعض، وتركّبها في وحدة هذه الطبقة من الحياة على وجه الأرض. أو كأنّ الأرض، واقعا وفعلا، تشكل وحدة لجميع هذه الأجهزة والأنظمة: فالأرض تتنفس، ولها شهيق ولها زفير، وهي تتهدم لتبني نفسها باستمرار، وهي تنهل من الأنهر وتشرب من البحار، وتنشق من الأثير ما يتوزع فيه من أبخرة وغازات، وتمتص نور الشمس وأنوار الكواكب والنجوم والقمر، كأنها بالنور وبالماء وبالهواء وبحرارة النار الدافئة وبالحركة، تحيا دائما وأبدا. نكتفي بهذه اللمحات علّها تبعث التوعية بمثل هذه الأمور الخطيرة ( أدب الحياة ص- ص 140 – 158 ).