وحدات الطاقة الشمسية في رأس العوجا ومدرسة الكعابنة تفتحهما على العالم الحديث وتلطف أجواء الصحراء القاسية
تصوير: حمزة زبيدات
خاص بآفاق البيئة والتنمية
رغم التلال الصخرية الصحراوية الآسرة المحيطة بنبع رأس العوجا الآخذ بالجفاف، فالطبيعة لا تعكس الحياة السعيدة بقدر ما نلمس معها القسوة عند رؤية اشباه البيوت والخيام في تجمع رأس العوجا المهمش المفتقر لأبسط الخدمات التي تعد من اهم أساسيات الحضارة في العصر الحديث، فالزمن يقف عندهم، فيما تتحرك الحياة في العالم القريب جدا منهم، بصورة سريعة وإيقاع مبهر.
من خيمة مستطيلة تتألف من غرفتين ومطبخ، تحدثت السيدة انتصار في الـ 29 من العمر، وأم لخمسة أطفال عن حياتها في قلب الصحراء.
"على الرغم من أن حياتي لم تكن يوماً خارج اطار الشقاء في رأس العوجا، إلا ان الزواج ومسؤولياته من دون كهرباء، جعل حياتي أكثر بؤساً".
تشير انتصار الى المشاكل المستمرة مع زوجها بسبب غياب الكهرباء، حيث كانت ترجوه دوماً النزوح الى بلدة العوجا للحياة كالناس الطبيعيين بإمدادات ماء وكهرباء كأقاربها في تلك البلدة، لكن ضيق الحال جعل زوجها يتغاضى عن رجائها المستمر، في الوقت الذي يتوالى فيه رحيل كثير من عائلات رأس العوجا الى أماكن أكثر تحضّراً طلباً للأمان والراحة.
الكهرباء ...نعمة عرفناها متأخراً
تضيف انتصار وهي سيدة لم تكمل تعليمها الابتدائي لكن لديها إطّلاع كبير على شؤون الحياة كما تتمتع بروح النكتة: "أحضر زوجي عدة مواتير لكنها كانت سريعة التلف، ولكن حين علمنا أن مركز العمل التنموي "معا" سيدعمنا بوحدات طاقة شمسية وثلاجة ومصابيح كهربائية، لم تسعنا الدنيا من الفرحة".
تستذكر انتصار، قصة النوم المخيفة في الصيف، حيث تضطر العائلة الى النوم على حجارة مرتفعة في العراء، حتى لا تصلهم الثعابين، ومع ذلك فقد كانت حياة اطفالها معرضة للخطر، حين تنبهوا لثعبانٍ بعد مواء قطتهم ليلاً كان يسير قرب مكان نومهم.
تملك عائلة انتصار 50 راس غنم، لا يؤمنون لها إلا الربح اليسير والسبب غلاء الشعير مع احتباس مياه الأمطار، ومع جفاف نبعة العوجا نهائياً، يتم شراء المياه من منطقة العوجا، فيما يتعلم اطفالها في مدرسة العوجا من خلال حافلة تأخذهم وتعيدهم من وإلى البيت.
أثر الكهرباء لم يكن على ربات البيوت فقط، بل افاد ابناءهم حيث ان جميعهم يعاونون اهلهم في رعي الغنم، فقد تسنى لهم وقتٌ اطول مع الإنارة الليلية للدراسة وتعويض الوقت الضائع في الرعي.
تتنهد انتصار تنهيدة رضا وهي تتحدث عن فائدة الغسالة العظيمة والتي اراحتها مع توفير الكهرباء، كما لا تخفي فرحتها من تمكنها مشاهدة المسلسلات وخاصةً الهندية كل مساء.
في سياق الحديث تروي انتصار كيف تعاني المرأة البدوية وهي تأخذ طفلها للتطعيم حيث تسلك سيراً على الأقدام مع رضيعها ما يزيد عن الـ5 كم، وأحياناً تتعرض للمضايقات من مركبات الاسرائيليين المتطرفين، مشيرة الى ان السياحة والترفيه عن النفس لم يقدّر لهم "دلالةً على قسوة حياتهم"، فأكثر مدينة استطاعت عائلة انتصار الوصول اليها كانت أريحا.
حياة بلا كهرباء...ذكريات يشوبها المرار
تنضم حماة انتصار "أم نايف" لتحدثنا عن سنوات مريرة بلا كهرباء في رأس العوجا، مع العلم أنها اردنية من منطقة البقعا التي كانت شبه حضرية في السبعينات بتمديدات كهرباء وماء".
"كان الانتقال من منطقة حضرية الى تجمع بدوي، صدمة كبيرة بالنسبة لي، كنت ابكي من انعدام الكهرباء في رأس العوجا". تقول أم نايف
34 سنة في حياة ام نايف، كان سبعٌ منها بوجود مولد الكهرباء، لكن اليوم وبعد كل مشقات الماضي، تم توفير ثلاجة وتلفزيون وخلاّطة لبن فور تركيب وحدات الطاقة الشمسية ما سهّل عليها كثيراً من الأعمال المنزلية، كما تواظب ام نايف على حضور المسلسلات التركية والاستمتاع بمشاهدة الأغاني المصورة على طريقة الفيديو كليب.
انتصار وأم نايف قصتان عن عائلتين انتفعتا بوحدات طاقة شمسية من مجموع 26 عائلة في تجمع راس العوجا، ضمن مشروع "تحسين سبل العيش للتجمعات الرعوية في مناطق "جـ" وبتمويل من مؤسسة "كادوري" في هونغ كونغ وبتنفيذ من مركز معا.
اتاحت وحدات الطاقة الشمسية الصديقة للبيئة الإنارة لعدة ساعات دون انقطاع، الامر الذي يعد مقارنة بالحياة بلا كهرباء سابقاً نعيم لا يوصف.
الطاقة الشمسية في مدرسة بدو الكعابنة
 |
 |
الإنارة في مدرسة الكعابنة تولدها الطاقة الشمسية |
الخلايا الشمسية لتوليد الكهرباء في قرية رأس العوجا بالأغوار المحتلة |
قضت على أمية الحاسوب...الجهاز الذي كان حلماً صعب المنال
كرفانات متلاصقة، في ساحة صغيرة عند أطراف التلال الصخرية التي تميز مناطق الأغوار الجنوبية، أجواء صحراوية حارة في منتصف الشتاء، هدوء عام تشوبه بعض الضجة من صدى حديث المعلمين والطلبة المتردد من داخل الغرف الصغيرة. "الكعابنة" مدرسة وسط الصحراء، بدأت بغرفة في الستينيات وتوسعت لتصبح عشراً في وقتنا الحالي.
لمركز "معا" بصمات واضحة في دعم حق التعليم للشريحة البدوية في منطقة الكعابنة، وذلك عبر المساهمة في توسعة المدرسة وتهيئتها للتعليم عبر نقل وتركيب الكرفانات التي صارت غرفاً صفية، تركيب سياج المدرسة والبوابة الرئيسية، بناء الوحدات الصحية والحمامات، دهان المدرسة بشكل كامل وتركيب المظلات امام الغرف الصفية، تركيب جبص وتحسين ظروف الصفوف التي كانت عبارة عن غرف صفية مشتعلة في أغلب الأوقات، توفير مواد قرطاسية في كل فصل دراسي، تنفيذ أيام مفتوحة وترفيهية للطلبة.
في عام 2013، وفر مركز معا لمدرسة "الكعابنة" وحدات للطاقة الشمسية لتأمين كهرباء تكفي تشغيل اجهزة الحاسوب في المدرسة، بالإضافة الى الانارة الكاملة للصفوف، كما يمكن استخدام ماكنة التصوير الكبيرة ومراوح التبريد. وذلك بعد أن كانت المدرسة تعتمد من قبل على مولد الكهرباء الذي يصدر صوتاً مرتفعاً ومزعجاً ويؤثر على الحصص التدريسية والأخطر يلوث البيئة نتيجة احتراق الوقود، كما كان تشغيل المولد مكلفاً للمدرسة ذات الدخل المالي المحدود جداً، ما كان يضطر المدرسين الى الاقتصاد الشديد في تشغيل المولد، وعدم اتمام كافة الحصص بالشكل المطلوب.
يتحدث مدير المدرسة محمود الجرمي: "قبل ان تدخل الكهرباء النظيفة من الطاقة الشمسية، كانت مدرسة الكعابنة متأخرة عشرات السنوات عن المدارس الأخرى، كما ان الغرف صيفاً كانت تشتعل من شدة الحر".
يضيف الجرمي بأنه مع الطاقة الشمسية، تغير حال المدرسة للأفضل، والأهم الابتسامة على شفاه طلبتنا وهم يطلبون من المعلمين أخذهم لحصة الحاسوب.
 |
 |
الكهرباء الشمسية في قرية رأس العوجا بالأغوار المحتلة وصلت الأهالي بالعالم الحديث ولطفت الأجواء الصحراوية |
الكهرباء في مختبر الحاسوب بمدرسة الكعابنة تولدها الخلايا الشمسية |
تعليم أطفال البادية له معنى آخر
من أمام الكرفانات، يمر آذن المدرسة قارعاً جرساً يدوياً فيهرع الاطفال الى استراحة الفطور، يذهبون لأهلهم في الخيام القريبة من المدرسة ويعودون بعد نصف ساعة ليستكملوا تعليمهم حتى الساعة الواحدة ظهراً.
أجواء التعليم في البادية، مختلفة في الشكل والجوهر عما عهده المعلمون في قراهم ومدنهم البعيدة، ومع ذلك أصروا البقاء بعد يومهم الأول "الشاق والصادم" في المدرسة، لأنهم شعروا ان الانسحاب خيانة مع مثل أولئك الطلبة الذين لم يعرفوا شيئاً اكثر من خيمتهم وماشيتهم ودبابات الاحتلال وجنوده، لكنهم في ذات الوقت يملكون قلباً وعقلاً منفتحين لكل جديد.
تقول المعلمة هالة التي تأتي يومياً من جنين قاطعة عشرات الكيلومترات ذهاباً واياباً: "حين دخلت الصف لأول مرة وخلال الأسبوعين الأولين، واجهت صعوبة بالغة في اخراج الكلمة من أفواه الطلبة، فهم لم يعتادوا على مواجهة انسان جديد أو غريب عن بيئتهم المحدودة، كانوا يهابون الحديث، يعجزون عن التعبير، يحاولون بصعوبة اقتحام عالم المعرفة الذي افتحه لهم، لكن مع الوقت اخذت قلوبهم وعقولهم تنفتح على العلم، على المعلم والمعلمة".
الطاقة الشمسية جعلت التعليم أكثر يسراً ومتعة
وحول تزويد المدرسة في منتصف العام الماضي بالكهرباء من خلال وحدات الطاقة الشمسية تصف هبة الوضع: "الكهرباء كانت بمثابة الطير الذي سيحلقون معه إلى فضاءات التكنولوجيا، وذلك من خلال الحاسوب "الجهاز" الذي كان لسنواتٍ عديدة محرماً على أهل البادية بسبب غياب الكهرباء".
يضيف مدير المدرسة الجرمي: "لا تتخيلوا فرحتهم حين لمسوا الفأرة وأخذوا يرسمون أشكالاً ورسومات، وينقرون بأصابعهم على لوحة المفاتيح، لقد سحرتهم الشاشة وشعرنا حينها بأنهم قد ملكوا الدنيا بما فيها".
الطاقة النظيفة التي تزود المدرسة بأكثر من خمس ساعات من الكهرباء، لم تفرح الطلبة فقط، بل أسعدت المعلمين فلم يعودوا مضطرين الى تصوير الأوراق التدريسية قبل يوم من مناطق سكناهم، كما اصبحوا يعتمدون في الشرح على اجهزة الحاسوب، وشاشة العرض المسطحة LCD، كما تسنى لهم أن يبثوا في الاستراحة الصباحية النشيد الوطني الفلسطيني وآيات من الذكر الحكيم.
"ما زلنا بحاجة للمزيد من وحدات الطاقة حتى نستطيع استخدام الحواسيب بشكل أكثر كثافة، محدودية الكهرباء، تجعلنا نقيد عملنا بتصوير الأوراق حين نشغل الحواسيب، ونطفئ الأنوار داخل الغرف نهارا". يقول الجرمي متمنياً ايضاً ثلاجة صغيرة لحفظ الشراب المقدم للطلبة.
المدرسة تبدو للزائر هانئة هادئةـ لكن اعتداءات المستوطنين المتكررة من المقيمين في مستوطنة آدم إلى الشرق تهدد استقرار المسيرة التعليمية، ما حدا بإدارة المدرسة الى احاطتها بسياج حمى بضعة اشجار مثمرة تم زراعتها بهدف التمتع بحديقة مدرسية صغيرة.
يشير الجرمي: " الدوام منتظم مثل باقي المدارس، هناك طاقم معلمين مؤهل مؤلف من 14 معلماً يعلم 70 طالباً وطالبة موزعين على صفوفهم التي تتلاءم مع أعمارهم، دون دمج بين أكثر من صف ومرحلة عمرية كما السابق".
 |
 |
وحدات الكهرباء الشمسية في مدرسة الكعابنة |
تشغيل الأجهزة الكهربائية والثلاجات في رأس العوجا بواسطة الطاقة الشمسية |
الدخول الى عالم البدوي الصغير مهارة تحتاج الى الكثير من الصبر
"لأن عالمهم بعيد من هجوم التكنولوجيا وإيقاعاته السريعة، كنت أواجه صعوبة في شرح كثير من المواد المتعلقة بالكهرباء والأجهزة التقنية، واضطر لشرح بديهيات مثل ما هو مصفف الشعر؟ ما هو مكيف الهواء، ما هي المكواه؟ ومع ذلك فعند الشرح لهم اكتشف كم قابليتهم للتعلم مرتفعة لا بل تضاهي طلبة المناطق الحضرية". تقول هبة وهي تحاول اقناع طالبات خجولات للحديث عن تجربتهن مع الحاسوب.
بصعوبة استقبال الغريب الموجودة عند الشريحة البدوية وخاصةً من الإناث، تحدثت حلا 13 عاماً، فتاة محجبة ترتدي زيها المدرسي ذي اللون الاخضر الزاهي، تحدثت باقتضاب عن شغفها باستخدام الحاسوب، حيث تعلمت من خلاله مهارة الرسم والكتابة على برنامج الوورد.
نائب المدير محمد يوسف من المزرعة الغربية في رام الله، أحب أن يسرد لآفاق البيئة والتنمية ملخصاً عن قصة 18 عاماً في بدو الكعابنة، يقول: "بدأت اعلّم في المدرسة حين كانت غرفة واحدة، وقد بدأت الدرس الأول في الرياضيات، حينها اخذت اعلمهم الجمع والطرح، وكنت استخدم في التعليم عملة الشيقل، على سبيل المثال: لو كان معك شيقل وأخذت من والدك شيقل آخر فكم المجموع؟ تفاجأت لاحقاً حيث فهمت من الطلبة انهم لم يسمعوا بالشيقل، عندها شعرت أني أمام طالب مختلف كلياً عما عهدت، ورسالتي هنا في المنطقة النائية عن قريتي أهم وأعظم من التعليم في مدرسة على بعد امتار من بيتي...، المهم، حولّت درس الحساب من شيقل الى أمور من بيئتهم مثل عنزة وكلب وهكذا".
يضيف يوسف: "مع الطاقة النظيفة وتشغيل الحواسيب، غمرت الطلبة سعادة لا توصف، جعلتهم حتى اللحظة ما ينفكون يتحدثون عن عالم الحاسوب بتطبيقاته التعليمية، فماذا سيشعرون حين يتعرفوا على عالم الانترنت المرعب في انفتاحه على العالم!".
" مشروع الطاقة الشمسية كان أكبر انجاز لمدرستنا". يختم الجرمي مؤكداً أن الحضارة تبدأ من مهارات الاتصال والتواصل مع العالم الخارجي، المرتبط بشكل أو بآخر بالطاقة الكهربائية.