خاص بآفاق البيئة والتنمية
تتباهى إسرائيل بأن مزارعيها يستخدمون بشكل واسع المياه العادمة المعالجة، وبأنها من الدول الرائدة في مجال استعمال هذا المورد. وهي "تلوم" المزارعين الفلسطينيين في مناطق 1948 وفي الضفة وقطاع غزة من عدم استفادتهم من "مزايا" الري بالمياه العادمة المعالجة، ومن تحفظهم من استعمال هذا المورد. وتحاول إسرائيل إقناع المزارعين الفلسطينيين حذو حذوها في هذا المجال؛ وقد جندت لهذا الغرض الحكومة الهولندية. ففي كانون ثاني الماضي، نظم في سخنين (فلسطين عام 1948) مؤتمرٌ حول قضايا المياه، شارك فيه إسرائيليون، أردنيون وفلسطينيون من الضفة الغربية. وقد ناقش المؤتمر طرق زيادة استعمال المياه العادمة في الري الزراعي. كما نظمت في كانون أول الماضي بجامعة "التخنيون" (معهد "جراند") في حيفا، ندوة حول المياه، بمشاركة مشروع WETSKILLS الهولندي الذي يعمل على تسويق تقنيات للاستخدام الفعال لموارد المياه.
ومن خلال بعض المؤسسات الإسرائيلية مثل جمعية المياه الإسرائيلية ومعهد وادي عربة للدراسات البيئية (الذي يدرب فلسطينيين وأردنيين سوية مع إسرائيليين في قضايا المياه والبيئة تحت غلاف العمل المشترك من أجل حلول مشتركة للمشاكل البيئية التي لا تعرف الحدود السياسية)، تم تجنيد فلسطينيين من مناطق السلطة الفلسطينية للترويج لتقنيات إسرائيلية (مثل التقنيات التابعة لشركة "مَبال إنيرغيا يروكا") لإعادة استعمال المياه العادمة.
وقبل نحو ثلاثة أعوام دُشِّن في قرية العوجا قرب أريحا، جهاز لمعالجة المياه العادمة التي تتدفق من مناطق السلطة الفلسطينية إلى إسرائيل، علما بأن السلطة طورت المنشأة بالتعاون مع إسرائيل. ويهدف المشروع إلى تدوير المياه العادمة وإعادة استعمالها في الزراعة. وبلغت تكلفة الجهاز خمسة آلاف دولار، وهو لا يستهلك الطاقة.
المشروع الإسرائيلي-الفلسطيني يهدف، في مرحلة لاحقة، إلى إقامة محطة تنقية في العوجا ستستخدم فيها تقنية شركة "مبال" الموفرة للطاقة ولتكاليف الصيانة. ويروج الإسرائيليون، من خلال نظرائهم الفلسطينيين، بأن إقامة مثل هذه المنشآت يمكن أن تشكل حلا "فعالا" للفلسطينيين، بحيث تزودهم بالمياه الوافرة للري الزراعي. كما أن الفلسطينيين المتعاونين مع الإسرائيليين يروجون بأن مزارعي منطقة العوجا ومناطق أخرى في الأغوارن عانوا الأَمَرَّيْن خلال السنوات الأخيرة بسبب هبوط كمية المياه في ينابيع المنطقة. والغريب أن أولئك الفلسطينيين، كما أصدقاءهم الإسرائيليين، يتجاهلون بأن سبب جفاف الينابيع الفلسطينية في الأغوار هو النهب الإسرائيلي المنظم لمصادر المياه الفلسطينية، وتحديدا بسبب حفر الاحتلال آبارا تصل إلى الأعماق الحرجة (أي إلى مسافات باطنية أكثر عمقا من الينابيع التي يستعملها الفلسطينيون)؛ ما أدى إلى جفاف وزوال عشرات الينابيع الطبيعية التي كانت تشكل مصادراً أساسية لمياه الشرب وللري في الأغوار. وفي عام 2008، قدرت نسبة تدفق المياه في ينابيع الأغوار بنحو 20 مليون متر مكعب فقط؛ ما يعني هبوطا مقداره أكثر من 33% من نسبة التدفق عام 1995 (السنة التي وقعت فيها اتفاقيات أوسلو).
وبالقوة المسلحة، تلاحق قوات الاحتلال فلسطينيي الأغوار وتعتدي عليهم وتمنعهم من الاستفادة من مياههم وينابيعهم في المناطق المسماة "ج" حسب تصنيفات أوسلو، علما أن تلك المناطق تشكل 95% من مساحة الأغوار.
ويكمن خلف "الحماسة" الإسرائيلية لحث الفلسطينيين على معالجة مياههم العادمة، دافع سياسي-أمني-استراتيجي يتمثل في ضمان إسرائيل مواصلة نهبها شبه المطلق للمياه الفلسطينية العذبة، وبالتالي مطالبة الفلسطينيين بسد عجزهم المائي الخطير الناجم عن السرقة الإسرائيلية المفتوحة للمياه، من خلال استعمال المياه العادمة في الزراعة؛ وبالتالي تكريس النهب الإسرائيلي للمياه.
ومن نافل القول، إن أي تعاون إسرائيلي-فلسطيني في مجال المياه والمياه العادمة في ظل الاحتلال، يصب في سياق المشاريع الإسرائيلية المائية الإستراتيجية الهادفة إلى تثبيت وشرعنة النهب الإسرائيلي للموارد المائية الفلسطينية والعربية؛ علما بأن الوضع المائي الذي كان سائدا منذ ما قبل اتفاقيات أسلو وحتى اليوم لم يتغير في الجوهر، بل إن تلك الاتفاقيات ثبتت الوضع القائم قبلها؛ إذ لا تزال إسرائيل تسيطر وتتحكم بشكل فعلي وكامل ومطلق بموارد المياه الفلسطينية واستخداماتها وإدارتها وتوزيعها.
ومن الواضح أن الاحتلال المتمثل بما يسمى "الإدارة المدنية" ومنظمات إسرائيلية مثل "أصدقاء الأرض-الشرق الأوسط" يستغلون مشاريع إنشاء محطات معالجة المياه العادمة كأداة للتطبيع السياسي بين الفلسطينيين والمحتلين ولشرعنة الوجود الكولونيالي الاستيطاني، وبالتالي تكريس "التعايش" بين المحتل والرازح تحت الاحتلال، وتثبيت الاستيطان ونهب الأراضي والموارد الفلسطينية، تحت عباءة "حل المشاكل البيئية المشتركة ومنع التلوث". وقد تجسد مخطط تثبيت التعايش بين المحتلين وضحايا الاحتلال وبالتالي شرعنة الأخير، في محاولة المستعمرين الإسرائيليين استدراج رموز فلسطينية لما يسمى "العمل البيئي المشترك"، بذريعة أن المشاكل البيئية "لا تعرف الحدود السياسية".
وبالرغم من هيمنتهم المطلقة على الموارد المائية وحوض نهر الأردن ونهبهم للمياه الجوفية والسطحية، وتعطيشهم للفلسطينيين والأردنيين، يعمد الإسرائيليون إلى ترويج أكاذيب من قبيل أن جميع مواطني المنطقة (عرب وإسرائيليين) يعانون من أزمة المياه بشكل متساوٍ. لذا، وتحت مظلة هذه الأكاذيب عملت وتعمل إسرائيل عبر منظماتها البيئية والسياسية المختلفة، على تجنيد متواطئين فلسطينيين وأردنيين "للتعاون المشترك" لحل هذه المسألة الحساسة التي افتعلها الإسرائيليون أنفسهم.
وبالرغم من أن مسألة معالجة المياه العادمة في مناطق السلطة الفلسطينية أثيرت مرارا وتكرارا، إلا أن إسرائيل تتجاهل تماما أنهار مياه المجاري المتدفقة بوضوح نحو الأراضي الزراعية الفلسطينية من المستعمرات والقواعد العسكرية التابعة لجيش الاحتلال؛ علما بأن تدفق المياه العادمة غير المعالجة نحو الطبيعة وفي الأراضي المفتوحة والوديان تتسبب في أذى بيئي خطير، وبخاصة تلويث المياه الجوفية.
ومن المعروف أن الاحتلال الإسرائيلي أهمل طيلة عشرات السنين إقامة البنية التحتية اللازمة لمعالجة المياه العادمة، علما بأن ما يسمى "الإدارة المدنية" الإسرائيلية لا تزال تضع العراقيل الكثيرة أمام تطوير شبكات المجاري ومحطات المعالجة، وتعيق إصدار التصاريح اللازمة لإنشاء محطات معالجة.
وقد نشاهد، هنا وهناك، تدفق المياه العادمة الفلسطينية في الوديان، وذلك، أساسا، بسبب منع الاحتلال الإسرائيلي للفلسطينيين إنشاء محطات معالجة النفايات السائلة، لأنها تقع في ما يسمى مناطق C الواقعة تحت السيطرة الأمنية والمدنية الإسرائيلية الكاملة. وتتمثل الحالة الوحيدة التي قد توافق فيها سلطات الاحتلال على إنشاء محطات تنقية، في قبول السلطة الفلسطينية استخدام المستوطنين أيضا لمثل هذه المحطات؛ كما هو حال محطة التنقية في مدينة البيرة.