خاص بآفاق البيئة والتنمية

استعار بشار الجالودي، وهو مزارع وموظف في إحدى الأجهزة الأمنية، المثل القائل "من لا يدفع برأس المال لا تهمه الخسارة"، للتعبير عن هجرة الأرض، والتحوّلات التي طرأت عليها.
وقال إن الأرض كانت تعني للأجداد الحياة، ومصدر الرزق الأساسي طوال العام، وكان الاهتمام بها بشكل جنوني، وشكّل وقت الحصاد فرحة اقترنت بالمناسبات وليالي السمر.
وتابع: نقل لنا الآباء والأجداد أن "الأرض كالعرض"، بمعنى أنها لا تُباع، وكانت فكرة البيع عار ومرفوضة نهائيًـا، لكن الاعتناء بها اليوم صار نادرًا، وتجري مقارنته بـ" الربح والخسارة"، وأدى ذلك إلى إهمال الارض مقابل الأعمال الأخرى.
وأورد الجالودي حالات تشير إلى أن الكثير من الأهالي يتركون مزارع الزيتون دون جني الثمار، كونهم يعملون في الداخل، ويقولون "إن باستطاعتهم بيوم عمل واحد شراء تنكة زيت"، وبالتالي هجروا أرضهم.

أسباب وثقافة
فيما أوضح مدير دائرة الخدمات الإرشادية في وزارة الزراعة، م. منذر صلاح أن العامل الاقتصادي، وعدم التفرغ للأرض، وتوفر فرص أفضل داخل الخط الأخضر، واختلاف التفكير، والانشغالات الكثيرة هي أهم أسباب هجرتها.
وزاد: "في الماضي كانت العناية بالأرض بشكل عائلي، وانخرطت النساء بشكل لافت في العمل الزراعي والاعتناء بالأرض، لكنهن اليوم يحتجن مساعدة أزواجهن في الأعمال المنزلية".
ورأى صلاح بأن الاختلافات الثقافية والاقتصادية، حوّلت العمل في الأرض إلى "تجارة غير مجدية" لشرائح واسعة تبحث عن الأرباح السريعة.
وأضاف بأن هذا العام تميّز بعدم وجود فرصة للعناية الكافية بالأرض؛ بسبب الهطولات المطرية، وغياب متسع للحراثة والتعشيب، حتى لمن تتوفر عندهم الاهتمامات بالأرض والعناية بها.
وقال صلاح إن النمو المتسارع والكثيف للأعشاب يتطلب سرعة التعامل معه، حتى لا يتحول إلى سبب في الحرائق بعد جفافه، لكن إذا تم قصه فإنه يعمل على تغطية التربة بطبقة طبيعية، ويمد الأرض بالمواد العضوية، بعد تحلّله.

عبد الكريم شلاميش عاشق أرض جنين
مقارنة ودعوة
وتبعًا لمدير عام مجلس الزيت والزيتون، فيّاض فيّاض فإن هجرة الأرض والعزوف عن العمل فيها تتسبب بتداعيات خطيرة، وتحتاج إلى علاج سريع، "فهناك من ترك أرضه دون زراعة لأنه لم يجد عمالًا، وهناك من لا يعمل في أرضه مطلقًا".
وحًلل فياض أسباب العزوف عن العمل الزراعي، وتراجع مكانة الأرض بالإشارة إلى أسباب مادية، وتسرب الأيدي العاملة إلى داخل الخط الأخضر، وغياب سياسة حكومية واضحة في القطاع الزراعي.
واسترد تجربة شخصية خلال طفولته، إذ كان وعائلته يزرعون كل احتياجات الأسرة الممتدة في بلدة دير الغصون في طولكرم، فيوفرون السمسم، والعدس، والقزحة، والقمح، لكن الواقع اليوم تغير، وصارت عملية الإنتاج مُكّلفة، وأصبحت المنتوجات المستوردة تنافس المحلية.
واستذكر ماضي بلته، التي كان فيها 300 حراثًا يستخدمون الخيول، واليوم تراجع العدد إلى 3 فقط، وهذا "مؤشر خطير"، ستكون عواقبه وخيمة مستقبلاً، وسيسرع من ترك الأراضي عرضة للاستيطان والمصادرة".
وذهب فيّاض إلى الحديث عن تحولات أسمها بـ "غريبة ودخيلة على القطاع الزراعي"، ففي الماضي كان الأجداد يستصلحون أرضهم بمجهودهم ومالهم، لكنه اليوم صاروا ينتظرون مؤسسات تساعدهم حتى في أعمال زراعية بسيطة.
وأنهى مدير عام مجلس الزيت والزيتون: يتطلب هذا الحال الدعوة لـ"مؤتمر إنقاذ وطني، يجد حلولاً للعزوف عن الأرض، ويعيد الأمور إلى نصباها".

فريد طعم الله الناشط في شراكة- المبادرة التطوعية للحفاظ على الزراعة التقليدية
تحليل اجتماعي
وحلّل محاضر الخدمة الاجتماعية في جامعة النجاح، د. بهيج نصاصرة مسألة العزوف عن العمل في الأرض والتحولات التي ترافقه من سياق اجتماعي، وقال: "لا يمكن فصل الموضوع عن العوامل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية".
وقال: هناك تحولات لدى الأجيال الشابة من اتجاهات إلى أخرى، وتحديدًا في اختيار المهن والعمل، ووفق الأبحاث والأرقام تتجه الأغلبية نحو "الكسب السريع"، ويتأثر الأمر بتوجهات عائلات الشبان أنفسهم، والمفاهيم التي يحاولون تمريرها إليهم.
ومضى: تؤثر توجهات العائلة في علاقتها مع الأرض، وكيف يجري التعامل معها، فهل يجري توريث مفاهيم التعلق بالأرض؟ أم تتم تربيتهم أنها "سلعة" يمكن بيعها؟
ووفق نصاصرة، فإن الاتجاه الغالب، والذي يُعبر عنه تجار الأراضي، هو التعامل مع الأرض كـسلعة، وليس قيمة انتماء، أو باعتبارها مصدرًا مدرًا للدخل.
وتابع: "تحول الأرض لسلعة أدى إلى جعلها رخيصة، مقارنة بثمنها المعنوي والوطني وإنتاجها. كما أن الشبان انزاحوا نحو الاهتمام بالكماليات على حساب الأساسيات."
وأضاف: إذا قارنا بين العائد من العمل داخل الخط الأخضر بفلاحة الأرض، سنجد فرقًا كبيرًا، وما يحصل عليه العامل في الداخل في يوم واحد، يحتاج الفلاح لموسم كامل لتحقيقه في بعض الحالات؛ بسبب غياب الرعاية لقطاع الزراعة، الذي يتكبد من يعمل فيه خسارة مواسم بكاملها، دون أي تعويض أو رعاية.
وأكد نصاصرة، أنه يتجول في مزارع الأغوار، ويلتقي بمزارعين يرهنون بيوتهم ومساكنهم ومركباتهم، بكمبيالات وشيكات؛ حتى يتمكنون من مواصلة زراعتهم، لكن في حال خسارتهم للموسم، فإن وضعهم سيكون صعبًا جدًا، وسيؤثر على محيطهم الاجتماعي، وأفراد أسرهم، ما سيتسبب بـ"نفور من العمل في الزراعة، وتحول العلاقة بين الفرد والأرض".
ومضى أن تقديم حلول يتوجب معرفة أساس المشكلة، فهل هي بسبب الاهتمام بالكسب السريع؟ أم أن الأرض تغيرت من شيء مُنتج إلى سلعة يتم التنازل عنها بسهولة؟
وأنهى: "يمكننا البدء في إعادة توطيد العلاقة بفئات الشباب في المؤسسات التعليمية، والتوجه إليهم بقيم ومفاهيم العودة إلى الأرض وتغيير العلاقة معها، وربطهم بها بشكل مباشر، وإعادة التأكيد على أنها قيمة تعني الوطن".

فلاح فلسطيني يعشق خدمة أرضه
مخاطر وحلول
ورأى الناشط في "شراكة"، وهي المبادرة التطوعية للحفاظ على الزراعة التقليدية، فريد طعم الله، بأن سبب إهمال الحقول عائد لرغبة الجيل الشاب للعمل في الوظائف أو داخل الخط الاخضر؛ لأن الزراعة في نظرهم "غير مجدية ماليًا"، وهذه نظرة خاطئة.
وقال إن الإهمال معناه هجران الأرض، وبالتالي تصبح عرضة للاستيطان والمصادرة، ويتحول العمال داخل الخط الأخضر تحت رحمة التصاريح وسلطات الاحتلال، كما يؤدي الاعتماد على الاحتلال في إنتاج الخضروات، واستيراد والمنتجات إلى "المس بأمننا الغذائي بشكل خطر".
واعتبر طعم الله، أن جعل الزراعة عملية مُجدية، يأتي من "تبني سياسات حكومية تحمي المزارعين وتشجعهم، والشراء المباشر منهم قدر الإمكان بسعر معقول"، وأن تكون الزراعة وظيفة جزئية للموظفين خلال عطلهم، وأن يتجه الناس لاستصلاح الأراضي خلال نهاية الأسبوع.

لم يبق سوى القلة من الجيل الجديد الملتصق بالأرض
وسرد عبد الكريم شلاميش، التاجر والمزارع حكاية عشقه لأرضه غرب جنين، إذ يترك تجارته في مناسبات كثيرة للاعتناء بأرضه، كما دفع الكثير من المال لاستصلاحها.
وقال إن الابتعاد عن الأرض وإهمالها يضران بالاقتصاد والأمن الغذائي، ويؤديان إلى التفريط بها، وبيعها دون تردد نهاية الأمر.
وأضاف: "العودة إلى الأرض مهمة، حتى لو لم يكسب صاحبها المال الكثير، فهي تمنحه الأمان، ويورثها إلى الأحفاد".
فيما عزا عبد السلام عابد، وهو مزارع ومدير وزارة الثقافة في طوباس، أسباب إهمال الأرض إلى قلة الوعي بأهميتها، وضعف الانتماء، والانشغال بالوظائف المكتبية، وعدم إدراك الجدوى الاقتصادية التي سنحصل عليها في المدى المنظور.
وأضاف: "الحل إدراك أهمية الأرض، وغرس ثقافة خدمتها وتعميرها"، فهي ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، ولا كرامة لإنسان إلا في أرضه، التي يحبها، ويترجم ذلك بحراثتها وتعشيبها وزراعتها وريها بالعرق.
aabdkh@yahoo.com