طبعت العلاقة التاريخية بين الإنسان وبيئته مجموعة من التغيرات والتأثيرات المتبادلة خاصة في النصف الأخير من القرن العشرين، وذلك بفعل ظهور قيم الاستهلاك وسيادة قيم السوق العالمية. "إن القرارات التي تنتج عن قيم التصنيع العلمي والتكنولوجي وعولمتها لا تهدد الأسس العضوية لكل أشكال الحياة فحسب، بل تهدد غالبية البشر"[1]. تعد انتصارات التصنيع الخطي كما عبر عنها "أولريش بيك" في كتابه "مجتمع المخاطر العالمي" أصل المشكلة البيئية، التي تهدد الأسس الطبيعية والثقافية للبشرية على حد سواء.
إن نهج الكيانات الاقتصادية والسياسية الهادفة إلى توسيع قيم الإنتاج والاستهلاك العالمي بفعل الشركات العابرة للحدود، بمثابة قرارات جائرة تنتهك مقومات الحياة البيئية بفعل الاستنزاف الكثيف للموارد الطبيعية، ولعل مظاهر الخطر والتهديد أصبحت أكثر قربا وأكثر واقعية مما كانت عليه في السابق، بعد ظهور العديد من مؤشراتها المنذرة بالكارثة البيئية منذ سنوات الستينيات من القرن العشرين إلى يومنا هذا، فتدمير البيئة أصبح محورا أساسيا من حركة الإنتاج الصناعي العالمي، ولم يعد هذا التدمير بسيطا، بل أصبح جزءاً من منظومة متكاملة الأبعاد الاجتماعية، والاقتصادية والسياسية.
أولا: مظاهر الأزمة البيئية وسياق التبلور
يعود تاريخ الاهتمام بالحركة البيئية اليوم إلى فترة الستينيات من القرن العشرين خاصة مع بعض الكتابات الأمريكية على رأسها كتاب"الربيع الصامت"[2] لكاتبته "راشيل كارسونRachel Carson " الذي تناول خطورة المبيدات السامة على البيئة وخاصة الطيور، كما بين كيفية وصولها إلى جسم الإنسان وترسبها عن طريق التغذية، شكل هذا الكتاب جدلا واسعاً خلال تلك الفترة، وحاول بعض القادة السياسيين وأصحاب الشركات الصناعية للمواد الكيماوية منعه من النشر باعتباره شكلا من التهديد للشركات الاقتصادية، غير أن إقرار العديد من العلماء بصحة معلوماته ومعطياته سمح بنشره وقد تمت ترجمته إلى العديد من اللغات العالمية.
توالت الأزمات والأحداث البيئية المصاحبة للأنشطة البشرية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بشكل كثيف، وقد سجل التاريخ محطات تلوث وتدهور بيئي مدمرة، مسّت جل عناصر الحياة الطبيعية (الهواء، الماء، النبات، التربة، الغابات، الكائنات الحية بأصنافها المتعددة...)
- الضباب الدخاني الأضخم (لندن 1952)
بدأ الضباب الدخاني[3] الضخم في لندن، و يُشار إليه أحيانا بالدخان الكبير سنة 1952 بمدينة لندن العاصمة البريطانية، وأشارت التقارير الأولية إلى وفاة 4000 شخص بشكل غير متوقع بسبب الضباب الدخاني، إلى أن ارتفع هذا الرقم إلى 12.000 شخص وعانى أكثر من 100.000 من مشاكل صحية مختلفة[4]، يعود السبب إلى حرق الفحم في العديد من مصانع الكهرباء، وأيضا نتيجة احتراق وقود محركات السيارات ووسائل النقل التي تجوب المدينة التي قدر عددها تلك الفترة بعشرات الآلاف، إن" تفاعل عناصر الملوثات الصناعية في الهواء يغلف جو المدينة بالضباب ويسبب احتقان الأغشية المخاطية، ويثير السعال ويؤدي إلى الاختناق أحيانا"[5].
- التلوث الصناعي (اليابان 1956)
تلوث شاطئ خلیج جزیرة "میناماتا "اليابانية بالنفايات السامة الناتجة عن بقايا مواد كیماوية لشركة صناعية تقع بالقرب من الخلیج، تستخدم الكبريت، وكلورید الزئبق، وقد نتج هذا التلوث عن مرض "ميناماتا"[6] لأول مرة سنة 1956 و"یعاني المصابون به من فقدان الإحساس والتنمیل في الیدین والقدمین فلا یستطیع المریض المشي أو الجري دون أن یتعثر، كما یعاني من صعوبات في الإبصار والسمع والبلع، وفي عام 1959 ثبت أن المرض سببه التركیزات العالیة ل"میثیل الزئبق" الموجود في الأسماك والمحار في مياه الخلیج."[7]
- الأمطار الحمضية (السويد 1967)
لاحظ عالم سويدي سنة 1967 يدعى "سفانت أودين"(Svante Oden) نسبة تزايد حموضة الأمطار في بعض المناطق السويدية، وقد بين أن هذه الأمطار هي نتيجة تصاعد الغازات الحمضية من مداخن المصانع المحملة بثاني أكسيد الكبريت، وكبريت الهيدروجين، وأكسيد النيتروجين، وقد نبّه أودين إلى خطورتها وتأثيرها على عناصر البيئة المتوازنة، وأطلق على هذه الأمطار اسم "حرب الإنسان الكيميائية ضد الطبيعة"[8] لا تتوقف الأمطار الحمضية على تلويث المجاري المائية بل يمتد ضررها إلى المحاصيل الزراعية والغابات ومياه الشرب، وقد امتدت إلى العديد من المدن الأوروبية الأكثر تصنيعا.
ثانيا: بروز الوعي البيئي العالمي
بعد توالي حدة الأخطار البيئية العالمية وتعدد مظاهرها سنة تلو الأخرى، تعالت أصوات منظمات غير حكومية مثل "أصدقاء الأرض" و"السلام الأخضر"وغيرها في تنظيم حملاتها دفاعا عن حماية البيئة والحفاظ على الأنواع والكائنات الحية، وشنت هجوما لاذعاً عن سياسة التصنيع الملوثة للبيئة منذ 1970، ولعبت هذه المنظمات أدواراً هاما للدفاع عن قضايا إنسانية منها العدالة البيئية، وحققت مكاسب عدة، فهي تتدخل لتغطي النقص الناتج عن الخیارات الحكومیة في مجال الحمایة البيئية، وذلك من خلال قیامها بدور الجماعات الضاغطة، ونضالها المیداني هو ما أكسبها مصداقیة وإقبالاً كبیراً من قبل الدّول والمنظّمات الدّولیة الحكومیة، وحتى أفراد المجتمع.
- مكاسب المنظمات الغير الحكومية الضاغطة
- منظمة السلام الأخضر "نموذجا"
أدت تحركات منظمة السلام الأخضر إلى وقف مجموعة من الأنشطة المضرة بالبيئة عن طريق الترافع والاحتجاج السلمي وقد حققت النتائج التالية[9]:
- تخلت الولايات المتحدة الأمريكية عن قاعدة التجارب النووية في جزيرة "أمشيتا" في "ألاسكا" سنة 1972
- وقفت فرنسا التجارب على الغلاف الجوي في المحيط الهادي الجنوبي اثر تظاهرات اجتجاجية في موقع التجارب سنة 1975.
- صادقت لندن على حظر عالمي يمنع حرق النفايات المشتملة على مركبات الكلور، والمواد السامة سنة 1988، بفضل الضغط المتواصل للمنظمة.
- صادقت الأمم المتحدة على معاهدة وقف التجارب النووية الشاملة سنة 1996.
- توجت سنة 1997 بجائزة "الأوزون" لتطويرها ثلاجة صديقة للبيئة خالية من المواد الكيماوية.
رغم المسار الحافل للمنظمات الغير الحكومية في تبنيها قضية حماية البيئية والترافع لأجل الحفاظ على النظام البيئي، إلى أن الخطر البيئي قائم وفق خط تصاعدي وهو اليوم في نقطة اللاعودة، نظرا لنسبة التدمير الكبير الذي لحق الكوكب ومس التوازن البيئي.
إن هذا الخلل لا يتم إصلاحه انطلاقا من التقارير والمؤتمرات الدولية التي أقيمت منذ السبعينيات من القرن العشرين ولا بالخطط والبرامج السياسية القائمة على الربحية والمصلحة الاقتصادية، وحتى البدائل الخضراء المطروحة اليوم هي بدائل رأسمالية وكما يقول ألبرت اينشتاين "لا يمكن حلّ المشكلة بالطريقة التي وجدت بها"، كذلك ومثال على الحالة البيئية فهي لا تحتاج الحلول الجاهزة والسطحية بقدر ما تحتاج العودة إلى جذر المشكلة، أي بالرجوع إلى القيم الإنسانية الأولى وإعادة التصحيح من جديد انطلاقا من التنشئة الاجتماعية، لأن الأزمة البيئية أزمة قرارات وأنشطة بشرية، وإن الأضرار التي يلحقهـا الإنسان بالبيئـة تـنجم عـن افتقـار النـاس أو معظمهـم علـى الأقـل إلـى وجـود نــسق متماســك مــن القــيم المتعلقــة بطريقــة معاملــة الإنسان للبيئــة والاهتمــام بهــا.
[1] أولريش بيك "مجتمع المخاطر العالمي، بحثا عن الآمان المفقود" ترجمة، علا عادل، هند إبراهيم، بسنت حسن، المركز القومي للترجمة القاهرة العدد 2006 الطبعة الأولى 2013 ص 287.
[2] نشر هذا الكتاب لأول مرة سنة 1962، يعتبر هذا الكتاب مرجعا أساسيا في ظهور الحركة البيئية في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا بشكل عام.
[3] يطلق عليه أيضا "الضبخان" ويعرف بالإنجليزية بمصطلح "Smog " وهي كلمة مشتقة من (smoke) "الدخان" و (Fog) "الضباب"
[4] ستيفن غيلبرت، "جرعة صغيرة من السموم، الآثار الصحية السلبية للمواد الكيماوية الشائعة"، ترجمة أنسام صوالحة، الولايات المتحدة الأمريكية 2013 ص 3.
[5] أحمد مدحت إسلام، "التلوث مشكلة العصر"سلسلة عالم المعرفة، الكويت، العدد 152 (1990)، ص 37
[6] هو عبارة عن متلازمة عصبية تحدث نتيجة التسمم بالزئبق الحاد.
[9] انتصارات منظمة السلام على الموقع الرسمي:
http://www.tiki-toki.com/timeline/entry/594418/Greenpeace/#vars!date=2049-09-14_20:24:51!