نفايات إسرائيلية خطرة في مكب رنتيس العشوائي.. سموم وأدخنة وأمراض تدق ناقوس الخطر
خاص بآفاق البيئة والتنمية
بدأت قصة مكب رنتيس العشوائي عام 2018، حينما أخذ يستقبل شاحنات النفايات الإسرائيلية. المكب استقبل أعدادا كبيرة من الشاحنات المحملة بالنفايات المتنوعة، وفي بعض أيام السنة كان يصل المكب أكثر من 100 شاحنة، بينما كان صاحب الارض يقبض أموالاً بدل استقبال الحمولة. في السنوات الأخيرة انتشرت في البلدة أمراض عديدة بسبب التلوث الخطير الناتج عن حرق النفايات الإسرائيلية السامة، مثل الالتهابات التنفسية المعدية، والتهابات القصبات الهوائية والتهاب الجهاز التنفسي بشكل عام. تتكون النفايات في المكب العشوائي من مخلفات بناء، ومخلفات طبية، وصناعية، وزراعية، وغيرها. قضية المكب ما زالت على طاولة المحاكم الفلسطينية، ويبدو أن المعالجة النهائية لهذه المشكلة لن تكون قريبة.
|
 |
الغازات السامة المنبعثة من النفايات الإسرائيلية في المكب العشوائي في بلدة رنتيس |
على بعد أمتار من بيوت هانئة تنعم بجمال الطبيعة الخلاب، تم زج "ورم خبيث" بصفة مكب عشوائي. قطعة أرض تتحول لسجادة أقحوان وأزهار متنوعة في فصل الربيع، لكن حفنة شواكل قلبتها لمكب عشوائي يستقبل نفايات الاحتلال السامة، ويبعث سمومه لتطال ساكني القرية.
قرية رنتيس غرب رام الله، ذات الطبيعة الساحرة أصبحت بفعل الجشع تضم أسوأ المكبات العشوائية. ينتشر دخان احتراق هذه النفايات صباحاً ليهاجم أنفاس سكان القرية دون اكتراث بالعواقب، بينما يتوافد السكان -خاصة مرضى الحساسية- أفواجا لعيادة صحية في القرية باحثين عن علاج.
عودة إلى بداية المكب
كانت بداية المكب في عام 2018، حينما بدأ صاحب قطعة أرض في البلدة باستقبال شاحنات النفايات الإسرائيلية المحملة بالنفايات المتنوعة، وفق رئيس المجلس معاذ الخطيب. ويضيف: "في أيام من السنة كانت تدخل باليوم أكثر من 100 شاحنة، تعود لأكثر من شركة، بينما كان صاحب الارض يحصل على أموال مقابل استقبال الحمولة".
من ناحيتها قالت المفتشة البيئية في سلطة جودة البيئة وصال رسلان، إن أرض المكب يملكها أشخاص من القرية، استخدموها لجلب نفايات اسرائيلية، مخالفين قانون البيئة واتفاقية بازل، التي تقضي بمنع جلب النفايات الاسرائيلية لأراضي "دولة فلسطين".
وتابعت: "بدأوا بإحضار النفايات المتنوعة من نفايات زراعية وطبية وصناعية ومخلفات بناء وغيرها، وكان جزء منها عبارة عن أتربة. أخذنا عينات منها، وأثبتت الفحوص وجود معادن ثقيلة تجعل التربة غير صالحة للزراعة أو لأي استخدام".
ومؤخرا، اندلعت النيران في المكب الذي يضم آلاف الأطنان، إذ يصل ارتفاع النفايات إلى 290 متراً، نتج عن ذلك وصول الدخان الى المستوطنة القريبة المقامة على أراضي الفلسطينيين.

الغازات السامة المنبعثة من النفايات الإسرائيلية في بلدة رنتيس
لحظة الانفجار
حينما يتعلق الأمر بحياة المستوطنين، فإن سلطات الاحتلال ستتدخل على الفور. هذا ما حدث فعلاً في قرية رنتيس. إذ نشرت مواقع إسرائيلية شكاوى للمستوطنين من الغازات المنبعثة في الجو بسبب حرائق المكب في القرية، ما دفع "وزارة حماية البيئة الإسرائيلية" للتدخل، رغم أن الشاحنات تدخل على مرأى الجنود عبر الحواجز، بلا أي تدخل.
ونشرت الوزارة الإسرائيلية: "حرصا على جودة الهواء وتأثير التلوث على البشر، تستمر الوزارة بالتواصل المباشر مع المسؤولين في (الإدارة المدنية) بالضفة المسؤولة عن معالجة النفايات ومنع حرقها، فقام المسؤولون بالأعمال لإطفاء الحريق بواسطة المركبات الهندسية الثقيلة".
وأشارت الى أنه وخلال الأيام الأخيرة، تم العثور على مواقع أخرى من حرق النفايات في "حدود السلطة الفلسطينية" منها بالقرب من قريتي شقبا دير ابزيع، وقد تستمر أشغال الإخماد التام أياماً عدة.
وأوصت "وزارة البيئة الإسرائيلية" في حال انتشار الرائحة المزعجة نتيجة الحريق، ببقاء الناس من أصحاب الحساسية ومرضى القلب والمسنين والأطفال والنساء الحوامل، في البيوت قدر الإمكان، والامتناع عن النشاط البدني خارج المنزل، داعية إلى إغلاق النوافذ وتشغيل وسائل التهوية.
وحسب البيان فقد "وصلت مركز الاستعلامات في وزارة البيئة الإسرائيلية في تشرين الثاني/نوفمبر شكاوى عن الروائح الشديدة في مناطق (رمات غان، وغفعاتاييم شوهم بركت، بتاح تكفا)". وبعد رصد جودة الهواء، توقعت الوزارة أن يكون "مصدر الرائحة من الحريق في موقع غير قانوني للنفايات في رنتيس في حدود صلاحية السلطة الفلسطينية".
وهنا، أوضحت رسلان أن إخماد الحريق يحتاج تكاليف عالية، وكون المشكلة قد أثارت المستوطنات المحيطة، تدخلت وزارة البيئة الاسرائيلية وتم الاتفاق من خلال "الإدارة المدنية" مع مقاول فلسطيني على طمر المكب بالتراب، لعدم قدرة المجلس القروي على إحضار شاحنات أتربة ومعدات لإخماد الحريق.
إلا أن مشكلة جديدة ظهرت، تتمثل في أن شاحنات الأتربة التي دخلت القرية لتغطية المكب، صارت تذهب لغير موقعها. وعمد بعض المنتفعين لاستغلال الوضع وإدخالها إلى لأراضيهم، فتحركت سلطة جودة البيئة الفلسطينية وأرجعت الشاحنات والأشخاص الذين أدخلوا التراب لأرضهم وألزموهم بالتوقيع على تعهدات بمنع تكرار فعلتهم، وفق المفتشة رسلان.
ويقول الخطيب إن مجلسه كان يتواصل مع سلطة جودة البيئة، ويرسل شرحاً بالمشكلة منذ بداياتها، وقد حاولت "السلطة" أخذ عينات أتربة المكب لفحصها وتم ذلك.
تبعد قرية رنتيس عن مدينة رام الله نحو 45 كيلومترا، وطريقها محاط بالمستوطنات، لذلك كان التنسيق صعباً لاتخاذ إجراءات، يبرر رئيس المجلس تأخر اتخاذ إجراء رسمي من قبل الجهات المختصة.
حين تم تعيين مجلس قروي جديد قبل بضع سنوات، تقرر إنشاء لجنة والخروج بقرار موقع من جميع الأعضاء بمنع إدخال اي أتربة أو سيارات مخلفات من الداخل إلا بطرق رسمية، وقد تصدى المجلس وأهالي القرية للشاحنات التي تحمل المخلفات من الداخل ومنعوا دخولها القرية، لكنها عاودت فعلتها مؤخرا.
تتكون النفايات في المكب العشوائي من مخلفات البناء، ومخلفات طبية، و"بسكورس"، و"اسبيريت"، و"اسبست"، وغيرها.
يقول الخطيب، إن المجلس القروي كان يرسل التوضيحات للجهات المختصة ويطلب التدخل، لكن ما فاقم المشكلة أنه "منذ نحو خمسة أشهر حدث حريق في المكب، نجم عنه خروج دخان سام نتيجة احتراق النفايات المختلفة، والتي معظمها مواد ضارة (..) أرسلنا كتباً رسمية بهذا الخصوص لكل من "الصحة"، و"البيئة"، ومحافظة رام الله والبيرة.
تم الاتفاق على تشكيل لجنة سلامة عامة مكونة من سلطة جودة البيئة ووزارة الصحة والأشغال العامة، لتكشف عن حجم المشكلة بالموقع وتتخذ القرار. المنخفضات الجوية أعاقت التحرك السريع بالفترة الحالية، يقول رئيس المجلس معاذ الخطيب.

بلدة رنتيس شمال غرب رام الله قبل انبعاث سموم النفايات الإسرائيلية
اختناق وأمراض
يشير الخطيب إلى أنه "منذ بداية الاشتعال في المكب حتى بداية شباط/فبراير 2024 تم تسجيل 100-150 حالة تسمم في القصبات الهوائية، وهناك تخوف من أمراض أخرى خطيرة قد تظهر مع مرور الوقت".
بدوره، لاحظ طبيب القرية د. وسيم أبو سالم وجود الكثير من الحالات المتشابهة، خاصة فئة الأطفال أصحاب المشاكل الرئوية المزمنة، مثل حالات الأزمة أو التحسس أو التليف، إذ أن ما يزيد على 70% من تلك الحالات كانت تشكو نفس الأعراض. وأوضح أبو سالم أنه لم يكن على علم بوجود مكب عشوائي، كونه ليس من سكان القرية، ومن خلال الاستفسار من المرضى إن كانوا قد تعرضوا لغازات وروائح سببت لهم هذه الأعراض؛ تبين أن هناك مكباً عشوائياً دائم الاشتعال، والنيران تشتغل داخلياً تحت الأرض، وحسب التقديرات يبلغ عمقه 6-7 أمتار تحت أو ربما أكثر.
تواصل طبيب القرية مع قسم الصحة العامة في وزارة الصحة، وأخبرهم بالحالات المرضية التي تتوافد لعيادته، نتيجة الغازات السامة الناتجة عن احتراق في المكب العشوائي، ليتخذوا الإجراء المناسب.
يشير الطبيب إلى أن أكثر الحالات التي كانت تصله، تعاني من التهابات تنفسية معدية، والتهابات قصبات هوائية أو التهابات الجهاز التنفسي عامة، وأكثر من كان يعاني من ذلك، هم مرضى الجيوب الأنفية ومرضى الحساسية، والأطفال أقل من 3 أشهر.
وحذر أبو سالم من أمراض أكثر خطورة قد تظهر على المدى البعيد، كالأورام السرطانية، وقال إن هناك أمراضاً بالرئتين سببها الحقيقي نوع من الروائح، ناهيك عن أن "الاسبست" مادة مسؤولة عن التليف الرئوي، الذي يعد من أخطر الأمراض.
ويشرح طبيب القرية أكثر بقوله: "الأمراض الخطيرة لا تظهر بشكل سريع، إنما خلال سنوات ستنعكس خطورة الغازات السامة على بعض سكان القرية"، ومن هنا، دعا لإجراء دراسة على طبيعة الدخان وأخذ عينات منه ومن التربة، وإجراء فحوصات للناس القريبين من المكب، وذلك للوقوف على حيثيات المشكلة.
يقول أبو سالم: "شخصيا عند دخولي للعيادة أصاب بالسعال، كوني لست من القرية ولم اعتد الوضع، ولدي حساسية أساساً، بالتالي الموضوع مقلق جداً، ومن الضروري حل المشكلة بأقرب وقت تفاديا لكوارث سنلاحظها لاحقاً في حال استمرار المشكلة".
 |
 |
محاولات دفن الاحتراق الداخلي وإخماده من خلال الإغراق بالمياه |
|
إجراءات سارية منذ سنوات
هناك قضايا وصلت المحاكم الفلسطينية رفعتها سلطة جودة البيئة على المتهمين بإنشاء المكب، إذ جرى توقيف معظمهم، لكنهم خرجوا بكفالة، وتوقفوا عن عملهم لفترة قصيرة ثم عادوا إليه بوتيرة أقل من ذي قبل.
تشير رسلان إلى أن سلطة البيئة تابعت مشكلة المكب منذ بداياتها، وكان المكب يستوعب مخلفات دون أتربة في البداية، ثم بدأ يستوعب الأتربة الملوثة.
وقالت إنه "تم احتجاز من يحضر المخلفات، فبعضهم تم حجزه 90 يوماً، والقضية ما زالت قائمة ضدهم ولم تغلق بعد، والعينات تم أخذها منذ بداية جلب الأتربة، التي تم توزيعها في أكثر من مكان".
وتوضح المفتشة رسلان: "تقريبا قبل 6 سنوات بدأ إدخال التراب، ليس فقط لقرية رنتيس، انما للقرى الغربية المحيطة أيضاً، لكن وجود المعبر (حاجز الاحتلال) بمحاذاة رنتيس ساعد في تهريب النفايات".
وأوضحت أن التراب استخدم جزء منه لطمر النفايات، وجزء آخر يباع لأهالي القرية كتراب زراعي.
"قبل 8 سنوات تقريباً، وقع أصحاب الأرض على تعهد بعدم جلب النفايات، وكانت حجتهم إجراء عمليات تأهيل واستصلاح، فأخبرناهم أن التأهيل لا يكون بجلب السموم من الداخل"، تقول رسلان.
لكن أصحاب الأرض لم يلتزموا بالتعهد، وتم واستدعاؤهم وتغريمهم هؤلاء، بحسب مفتشة سلطة جودة البيئة، التي أوضحت أن قانون البيئة يفرض غرامات تصل الى 3 آلاف دينار، على من يُدخل نفايات اسرائيلية للأراضي الفلسطينية، فيما تصل العقوبة إلى السجن المؤبد حسب قانون البيئة رقم (7).
وختمت رسلان أن قضية المكب وعدم قانونيته ما زالت في المحكمة، والإجراءات متواصلة بالتعاون مع الجهات المختصة. وتضيف: "كونه طرأ اشتعال بالمكب تجددت القضية، وتواصلنا مع النيابة، وبعد تجدد النيران توجه المجلس للمحافظة وطلبنا وجود الدفاع المدني والأشغال وسلطة جودة البيئة لحل المشكلة".