الترّبوي د. حسن عبد الكريم: الأرض "جنوننا" الجميل
عميد كلية التربية السابق بجامعة بيرزيت د. حسن عبد الكريم، سرعان ما ينتقل من أجواء الأبحاث والمحاضرات والشأن الأكاديمي إلى الأرض، فيزرع، ويراقب أشجاره، ويعهد حقوله، واليوم يقطف بفرح غامر زيتونه، مثلما يجري تجارب تطبيقية لتكثير فسائل حديقته، وكثيرًا ما ينقل بعض الثمار لطلبته وزملائه، تتخللها دروس غير رسمية عن الأرض والإنتاج والاكتفاء الذاتي. الأشجار والزراعة هي طبيبه النفسي، من يعمل في الزراعة وحده يعي ما يقول؛ فهو يشعر أن بينه وبين الشجر لغة خاصة وعشق من نوع نادر. التربية كانت قديمًا بلا تكنولوجيا، ولكنها كانت زاخرة بالقيم وحب البيئة والأرض، اليوم تقدمنا تكنولوجيًا فتخلينا عن إنسانيتنا، وزادت النزعة الفردية وحب الذات، ونحن نركض وراء المال، وبات الجانب الروحاني ضعيفًا، والمجتمع أقل تضامنًا وتماسكًا، العونة ولمّة الأسرة في الزراعة والفلاحة باتت نادرة، وصارت الأغذية العضوية والعمل في الزراعة مناسبات قليلة، وليس نمط حياة.
|
خاص بآفاق البيئة والتنمية
|
الدكتور حسن عبد الكريم أمام شجرة جوافه في بستانه العضوي بقرية بدرس غرب رام الله |
تحجز البيئة والأرض موقعًا متقدمًا في أجندة ويوميات عميد كلية التربية السابق بجامعة بيرزيت د. حسن عبد الكريم، وسرعان ما ينتقل من أجواء الأبحاث والمحاضرات والشأن الأكاديمي إلى الأرض، فيزرع، ويراقب أشجاره، ويعهد حقوله، واليوم يقطف بفرح غامر زيتونه، مثلما يجري تجارب تطبيقية لتكثير فسائل حديقته، وكثيرًا ما ينقل بعض الثمار لطلبته وزملائه، تتخللها دروس غير رسمية عن الأرض والإنتاج والاكتفاء الذاتي.
يُحافظ عبد الكريم على ابتسامة دائمة، ويعاتب الأجيال الصاعدة لإبداعها في التكنولوجيا، وفشلها في "امتحان" الأرض، ويعرّف عن نفسه بـ " تربوي فلسطيني، ينتمي فكرياً للمدرسة النقدية، ويعمل في كلية التربية بجامعة بيرزيت، ويعشق الأرض والزراعة"، ويختار مشاهد من الطبيعة وحقل زيتونه لوسم صفحته على موقع "فيس بوك"، الذي يستخدمه لمشاركة تجاربه الزراعية في حديقته، ويتمنى أن "نأكل مما نزرع، ونلبس مما نصنع".
تحاور "آفاق" د. حسن، معلم العلوم والرياضيات السابق، والباحث، والتربوي، و"مجنون" الأرض، والمهتم بالبيئة، الذي خرج إلى الحياة في أيار 1968، وتدوّن معه هذه السطور:
التفاح في بستان الدكتور حسن عبد الكريم
طفولة وبيادر
د. حسن متى بدأ اهتمامكم بالبيئة؟ وما أبرز التغيرات التي لاحظتها على محيطنا منذ طفولتك وحتى اليوم؟
أعيش منذ طفولتي في أجزاء بيئية ريفية في قرية بدرس (30) كم غرب رام الله، ولا تبعد سوى (10) كم عن مدينتي اللد والرملة المحتلتين. وجدت نفسي في الطبيعة والحقول الخضراء، أعيشها لحظةً بلحظة من رعي وزراعة، وجداول المياه أو عين الناطوف. ومنذ نعومة أظفاري وأنا أعيش مواسم الزراعة والحصاد والبيدر وطقوس الحراثة، وقطف الزيتون، والصبر والتين والعنب. بكلماتٍ أخرى، أصبحت الطبيعة والبيئة جزءًا أصيلًا من كينونتي بحكم الموقع والواقع الذي عشته في قريتي الوادعة.
واليوم، تغيرت البيئة التي عهدنا في صبانا، فأشجار الزيتون كانت أكثر خضرةً، وهي تبدو اليوم جافة وحزينة، وقل الاهتمام بالأرض بشكلٍ ملحوظ وواضح فباتت وحيدة، وصار همنا الأكبر الحصول على منتجات جاهزة، أو دعم مادي "أوروبي وأمريكي"، الأمر الذي دفعنا للتخلي عن أرضنا. عين الناطوف التي ذكرتها أصبحت محبوسة داخل جدار الفصل العنصري، ولم أزرها منذ أكثر من 30 سنة!
ولسوء الطالع، صارت الكسارات تملأ الأفق، والجبال تبدو مُهشمة، والدفيئات الزراعية التي تنتج الخضار تملأ السهول – ربما يعتبر هذا المؤشر جيد- لكن لا نعرف طبيعة المواد الكيماوية المستخدمة. وأصبح الطعام أقل جودةً ولذة رغم وفرته. كما لاحظت أن الأمطار تراجعت، ويبدو أن تغيرات المناخ انعكست على كرم الطبيعة والسماء، ولم تعد تجود علينا بمائها المعتاد. والبيئة صارت أقل نظافةً، والأجيال الحالية أقل مبالاةً، مع أنها متقدمة في الإعلام والتكنولوجيا، ولكن للأسف يبدو أنها دمرت منظومة القيم لدى الأجيال، فالحفاظ على البيئة وصونها قيمة عظمى مرتبطة بشدة مع التربية والتنشئة الاجتماعية.
الدكتور حسن عبد الكريم عاشق الزراعات البلدية والعضوية
تنشر أحياناً صورًا لحديقتكم وتجارب زراعية، وأنت أكاديمي وعميد كلية التربية في بيرزيت، متى بدأت في هذه التجربة؟
منذ عشرات السنين وأنا أزرع الزعتر والميرمية، وبالصدفة قبل حوالي 25 سنة أحضر المرحوم والدي شجرة جوافة واكتشفت أنها تناسب المنطقة الساحلية (قريتنا تقع على الساحل الفلسطيني، وأجواؤها من حيث الحرارة والرطوبة تشبه قلقيلية، لكن مصادر الماء شحيحة)، فقررت تأسيس حديقة جوافة وبالفعل استصلحت قطعة مساحتها نصف دونم، وأنتجت حوالي 200 شتلة جوافة من البذور، ورافقتها منذ كان طولها بضع ملمترات صغيرة حتى أصبحت سنتمترات، ونقلتها من الحوض الصغير إلى علب زراعية، وثم وضعت شتلتها في أكياس سوداء لسنتين، وبعدها نقلتها إلى الأرض، إنها رحلة طويلة عاشت خلالها قرابة 40 شجرة فقط. كما حصلت على غراس زيتون وتفاح من مديرية زراعة رام الله بسعر مدعوم؛ نظراً لأن قريتنا من ضمن القرى التي التهمها جدار الفصل العنصري.
شجرة أفوكادو في حديقة الدكتور حسن عبد الكريم
عشق أخضر
ما الذي تشعر به وأنت تجني ثمار ما تغرسه؟ وما الفارق بين ما نزرعه بأيدينا وما نشتريه؟
هذا السؤال يجمع بين علمي الزراعة والنفس. الأشجار والزراعة هي طبيبي النفسي، من يعمل في الزراعة وحده يعي ما أقول. هل هناك أغلى وأجمل من أن تتابع مسيرة بذرة الجوافة الصلبة جداً، حينما تنبلج منها النبيتة متناهية الصغيرة، حتى تصبح شتلة فشجرة كبيرة تراقبها كيف تكبر وتثمر من يوم لآخر، ومن سنة لثانية؟ باختصار، هي رحلة ممتعة برونق خاص، تعطيك مثالاً ناطقاً عن دورة الحياة، وتجعلك تعيش الدورة بأدق تفاصيلها. أشعر أن بيني وبين الشجر لغة خاصة وعشق من نوع نادر. المتابعة اليومية والعلاقة العضوية تجعل الطبيعة وانسجامنا معها جزءاً رئيساً من كينونتنا، الأرض ومداعبتها يشبه إلى حدٍ بعيد التلاعب بجدائل الحبيبة، والعناية بالأشجار لا يختلف عن الغزل بتلك المعشوقة، ربما يكون الحب الحقيقي الأزلي الوحيد في حياتي هو حب الأرض والزراعة دون سواها، وهي الجنون الجميل.
برأيك ما الأسباب وراء هجرة جيل اليوم- بمعظمه- بعيداً عن الأرض؟
سؤال صعب ومحيّر، ولكن يبدو أن التكنولوجيا والعولمة قد لعبتا دوراً في ذلك، أو الاتكال على الدعم الخارجي، أو غياب القيم الزراعية من المنهاج الفلسطيني، على الأرجح مزيج من كل هذه العوامل. المفارقة الغريبة هي أن الجيل الحالي مبدع في التكنولوجيا لكنه لا يستغلها، فدول العالم المتقدمة تُسخّر تلك التكنولوجيا لأغراض زراعية وبيئية، وأنا شخصيًا تعلمت الكثير من خلال بعض المواقع حول تطعيم النبات، أو إعداد السماد العضوي.
الدكتور حسن عبد الكريم عميد كلية التربية السابق بجامعة بير زيت في حفل تخريج طلابي
تعليم ومناهج
كيف تُمرّر رسائل عشق البيئة لطلبتك؟
لا يخلو مساق أدرسه من الحديث عن الزراعة، فحينما أتعرف على كل شعبة أدرسها أطلب منهم أن يذكروا لي خلفيتهم ونشأتهم (من أي مدرسة ثانوية تخرجوا، وهواياتهم، وأشياء مميزة في حياتهم)، وأنا بدوري أبين لهم أن الزراعة والاهتمامات البيئية جزء أصيل من هويتي. في بعض المواسم أحضر لكل الشعبة تفاحًا من حديقتي أو جوافة، أحياناً أحضر علبة مخلل خيار حينما نخرج سويةً في آخر محاضرة تحت الأشجار، كم تسعدني عبارات المديح التي أسمعها من طلبتي – وزملائي في الكلية- حول الطعم المميز للغذاء العضوي الذي أنتجه، التعليم لا يقتصر على المحاضرات، نحن نُعلّم طلبتنا أبعد من ذلك بكثير سواءً قصدنا أم لم نقصد، فالجانب الإنساني وتمرير مجموعة من القيم للمتعلمين يعتبر أمراً هاماً للغاية سواءً في المدرسة أو الجامعة.
التربية والبيئة والأرض كيف كانت قديمًا، وكيف هي اليوم بممارساتنا؟
التربية كانت قديمًا بلا تكنولوجيا، ولكنها كانت زاخرة بالقيم وحب البيئة والأرض، اليوم تقدمنا تكنولوجيًا فتخلينا عن إنسانيتنا، وزادت النزعة الفردية وحب الذات، ونحن نركض وراء المال، وبات الجانب الروحاني ضعيفًا، والمجتمع أقل تضامنًا وتماسكًا، العونة ولمّة الأسرة في الزراعة والفلاحة باتت نادرة، وصارت الأغذية العضوية والعمل في الزراعة مناسبات قليلة، وليس نمط حياة. أعتقد أن الشعوب التي تحترم نفسها تلبس مما تحيك، وتأكل مما تزرع، وهذا يلخص الحكاية كلها.
كيف تقيّم المنهاج الحالي لجهة دعمه لقضايا البيئة؟
المنهاج الحالي هو بعيد عن قضايا الأرض والزراعة، ويبدو أننا بحاجة إلى تصميم مناهج خاصة بالزراعة والبيئة بحيث تكون مستقلة عن العلوم، ونحن في التربية نؤمن بالمبدأ القائل بأن أفضل أنواع التعلم هي التي تربط ما يتعلمه الطالب بحياته اليومية وواقعه المعاش. كما أن التعليم الرسمي "بشكل عام" يجعل لغة البيئة في العلوم لغة رسمية ما يشعر الطلبة ببعض الاغتراب عن واقعهم، وحسب رأيي لا بد من تطوير مناهج تحاكي الواقع وتلامسه، وخاصة في قضايا البيئة والزراعة.
شجرة باباي في حديقة الدكتور حسن عبد الكريم
تربية وفوارق
ما السبيل للبدء بتربية بيئية صحيحة لأطفالنا؟
النزول بهم إلى الحقل، وتعزيز المشاريع الزراعية حول المدرسة، والاعتناء بالحديقة المدرسية عملياً، ومشاهدة أفلام حول البيئة، وتأسيس نوادٍ بيئية والتشبيك مع نوادٍ عالمية، والرحلات الميدانية، واستكشاف البيئة والطبيعة حول المدرسة، وتربية حيوانات فيها وتعلم تحمل المسؤولية من خلالها، وغيرها الكثير من الأنشطة التي تعزز التربية البيئية عمليًا ونظريًا.
من هو د. حسن عبد الكريم؟
أنا تربوي فلسطيني يعشق الأرض والزراعة، أنتمي للمدرسة النقدية في التربية التي تهدف إلى نقد الواقع وتحقيق العدالة الاجتماعية، وهو الهدف الأسمى للتربية. أحمل الدكتوراه في تعليم العلوم من جامعة ولاية متشغان، التي تحتوي على أقدم كلية زراعة في الولايات المتحدة. خلفيتي في الدرجة العلمية الأولى الفيزياء. وأعمل حاليا مدرسًا في كلية التربية بجامعة بيرزيت التي حصلت منها على الدرجتين الأولى والثانية، كما عملت مُدرسًا للعلوم والرياضيات في ثلاث مدارس فلسطينية مختلفة بين الأعوام1990 و 1998.
تلقيت تعليمك العالي في الولايات المتحدة. ما الاختلافات والفوارق بين بيئتنا وبيئتهم؟
هناك البيئة جميلة جدًا، ولاية متشغان مشهورة بالتفاح والعسل، صيفها ماطر وشتاؤها ثلوج، سهولها شاسعة جدًا، الماء متوفر للغاية. لكنها كانت بالنسبة لي كالجسد دونما روح، ولم أشعر مطلقا بالانتماء للزمان أو المكان هناك كفلسطيني، فرغم الاحتلال والفروق البيئية والمائية لصالح ذلك المكان، أحس بنفسي وكينونتي في بلدي.
دمج وأحلام
برأيك، كيف يمكن إدماج طلبة الجامعات في حب البيئة، والقلق بشأن قضاياها؟
يبدو أننا بحاجة لمساق إجباري – أو على الأقل اختياري- حول الزراعة والبيئة، وتشجيع تأسيس الأندية البيئية والرحلات العلمية، وعقد ندوات منتظمة حول قضايا البيئة والأرض.
من أبرز الذين أثروا فيك لتحب الأرض وترتبط بها؟
الوالدان دون شك، وبالتحديد أمي، وعملي كشاب يافع في الثمانينات في الداخل الفلسطيني في سهول فلسطين المحتلة لعب دورًا كبيرًا أيضا في تعزيز حبي للزراعة والأرض، والالتصاق بها.
كيف ترسم أحلامك وطموحاتك لبيئة فلسطين؟
حلمي أن تعود لنا كافة أراضينا المسلوبة، وأن تصبح لدينا سيطرة فعلية على مائنا وهوائنا وبيئتنا، وأن تصبح فلسطين دولة مُصدرة لكافة أنواع الخضار والفواكه، وأن يعود الشباب ليعمروا أراضيهم بسواعدهم وقلوبهم.