قـــضـــايــا مــعــــاصـــرة بــــنـــزعة إنــــســــانـــــيــــة...قـــضــية تــــغيـــــر المـــنـــــاخ
باحثة في القانون العام والعلاقات الدولية / المغرب
إننا نعيش في عالم لا يعترف بالحدود، عالم ميزته الرئيسية التغير والتطور، والغريب في الأمر، أن أي شيء يحدث في جزء من العالم يؤثر على الكوكب كله سلبيًا أو إيجابيا، وأية متغيرات محلية تتبادل بشكل متزايد التأثير والتأثر مع السياق العالمي كله. مما أوجد قضايا معاصرة ذات أبعاد عالمية، قضايا لا يكمن لبلد ما حلها بمفرده.
وقضية تغير المناخ من القضايا الأكثر اهتماما عالميا والتي تتصدر النقاش الحالي، ويجري التعبير عنها كقضايا تعنى بحماية الإنسان، وأيضا من القضايا الناشئة من الممارسات الإنسانية. وذلك راجع لما يحمله مفهوم الإنسانية من الأبعاد الفكرية والسلوكية، عبر تمجيد الجنس البشري واعتباره أفضل مخلوق على الأرض بسبب امتلاكه العقل، الذي يجعله قادراً على التفكير والتغيير في مجتمعه كيفما يشاء، شريطة أن يتم ذلك لما فيه ترقية للحياة بين الشعوب لتحقيق السعادة والتقدم في المجتمعات الإنسانية.
فالفلسفة الإنسانية تنظر إلى الإنسان أنه سيد موقفه وصانع مصيره، وهو مثال الوعي والطموح العارف لواجباته والمسؤول عن قيمه وأخلاقه، المقدر للجمال والباحث عن الحقيقة أينما كانت، لذلك هو قادر على حل مشكلاته لأن له عقلًا واعيًا ويمتلك القدرة على التفكير العلمي الذي يمكّنه من ذلك. فالإنسانية ترى أن الشخص صاحب النزعة الإنسانية تفوق مصاعبه مصاعب الأشخاص العاديين، لذلك فهم لا ينظرون إلى الأشياء على أنها حسنة أو سيئة، وإنما يعيدون الحكم على الأشياء إلى نتائج العمل وفائدته للفرد والمجتمع، ومن هذه الزاوية نستطيع وضع حكم القيمة على قضية المناخ وآثاره السلبية على الطبيعة وأجزائها وعلى الإنسانية بأجيالها الحالية والقادمة. وأيضا من خلال نظرة الفلسفة الإنسانية للكون الذي تعتبره نظاماً من الأحداث المتغيرة باستمرار، وأن الإنسان جزء منه، بل وبيته المليء بالكثير من الآلام والتعب والشقاء، يستطيع من خلال طبيعته المرنة والقابلة للتشكيل وبكفاءته العلمية، أن يساهم في تحسين مستويات الأداء بتفجير الطاقات الإبداعية إلى ما فيه خير للإنسانية على الأرض.
الفـــعــالــيــات الإنــســانــيـــة المـــخـــتــلفــة
يجب أن نعترف أن المشهد البيئي قد عَرف تغيرات لم يسبق للبشرية أن شهدت مثلها من قبل، فنحن نذكر أنها لم تكن إلا عبارة عن التنبؤات التي قد يتعرض لها العالم مستقبلا في حالة ما استمرت درجة حرارة الكون بالارتفاع، أما اليوم فقد أضحى العديد من تلك المخاوف واقعًا ملموسًا بتداعيات خطيرة؛ وهناك أدلة تؤكد أن هذه التغيرات بلغت مراحل لا رجعة فيها في النظم البيئية الرئيسية ونظام المناخ في الكوكب، بل تجاوزته في عدة مناطق.
وللأسف الشديد، وبناءً على التقارير الصادرة عن الهيئة الحكومية لتغير المناخ وعبر التحري عن عدد من الفعاليات الإنسانية المختلفة، تم التأكيد أن ما تعانيه البشرية اليوم هي وليدة سلوكيات الجشع والأنانية نتج عنها مترتبات لا يمكن عكس أثرها، مما جعل الإنسانية تعيش حالة فوضى إجتماعية وإقتصادية وأيضا ثقافية...
في الحقيقة هذا المشهد الكئيب يعيد إلى أذهاننا واقعا تاريخيا عاشته البشرية في النصف الأول من القرن العشرين، حيث عاشت الشعوب الأوروبية والعالم ككل ويلات الحروب الأولى والثانية أسفرت عن فوضى لم تستطع البشرية تحملها، مما دفعها إلى تكثيف التعاون وبذل جهد أكبر لإرساء قواعد السلم والأمن العالمي.
وفي هذه الحقبة بالضبط تبلورت الفلسفة الإنسانية من فكر ينشد حرية العقل والعيش بسعادة إلى تيارات أو حركة إنسانية تسعى إلى وضع نظم لحماية ما يعرف بحقوق الإنسان والحرية والديمقراطية... لتضمن الحياة الآمنة لصالح الجنس البشري؛ لهذا لا ينظر إلى الفلسفة الإنسانية على أنها فلسفة محددة ومقيدة، ولكنها تعدُّ حركة أو تيارًا يضم مزيجا متنوعا من الفلسفات المتعددة كالوجودية والبرجماتية والطبيعية، بالإضافة إلى اعتمادها على مفاهيم مستمدة من الإيديولوجيات السياسية والعلوم البيولوجية.
وهذا التدرج والترقية في مفاهيم الفلسفة الإنسانية والذي يعود سببه إلى الثورة العلمية البيولوجية والسيكولوجية أفادت المجتمعات في ترقية الحياة بين الشعوب، وتعظيم الصداقة والمحبة والعيش بسلام في إطار من المجتمعات الديمقراطية، التي تحترم حقوق الإنسان والتعاون الدولي لتعزيز أدوار المنظمات الدولية والإنسانية في تقريب الشعوب بعضها من بعض، لتحقيق السعادة والتقدم في المجتمعات الإنسانية.
وبالتالي ومن خلال الجهود التي أظهرتها هذه النزعة الإنسانية في السابق، نرجو هذه المرة أيضا أن تزود صناع القرار بالأرضية الضرورية للوصول إلى أنجع الأساليب في تحريك السياسة المناخية نحو إيقاف ما يدفع بالنظام البيئي إلى نقطة اللاعودة، من خلال كسر الصلة بين استهلاك وانبعاثات غازات الدفيئة.
ميزة هذا التيار الإنساني كما أشرت سابقا، أن الإنسان لا يبلغ أعلى مراتب الإنسانية إلا باستخراج ما في قوته إلى الفعل حتى يصبح إنسانًا كاملًا، وذلك بتحرير العقل الإنساني من القيود وتوسيع المعرفة التي تعطي للبشرية قدرة تنويرية على العمل كفاعل خلقي في التقليل من المعاناة والانخراط في الترميم الإيكولوجي واحتضان التذوق الجمالي للتطور الطبيعي، وهذا ما يمكن تسميته الفكر المتكامل لذا النزعة الإنسانية.
الذهنيــة المتــكــامــلــة نـــمــوذج إرشــادي للــســلــوك:
إن الطريقة التي تتعامل بها الكائنات البشرية بعضها مع بعض أمر جوهري لبحث قضية التغيرات المناخية، لأن الاتجاه الإنساني ينطلق من الأخوة الإنسانية بغض النظر عن أصولها أو ديانتها أو جنسها... تنطلق من نظرة شمولية موحدة نحو الإنسانية، لذلك فهم يعتبرون الآثار العالمية لتغير المناخ ساهمت وبشكل مباشر في معاناة ومآسي كل البشرية، وأن هذه الآثار ليست وليدة لأحداث طبيعية وبالتالي الخضوع لحتميتها. بمعنى أن الحركة الإنسانية تنادي بضرورة اعتماد الطرق العلمية في حل المشكلات من جذورها، وذلك عن طريق اكتساب المعلومات عن الحقائق بدل الاكتفاء بحلول مؤقتة، كما هي مطروحة في اللقاءات والمؤتمرات والقمم المناخية كآلية تكيف مع الوضع لأنها ستزيد في تعميق هذه المعاناة.
لذا تتعين على الإنسانية التحقق من المعلومات والأحداث والعمل على تفسيرها وفق منهج علمي، لأن الغاية المرجوة في الأخير تكمن في تحقيق التقدم، مع تنمية سعادة الإنسان ودرجات تصاعدها، وأن الذي يعيق التقدم هو قوة الحواجز العمياء واستمرارها في إحباط المصالح، وتعارض المصالح مع بعضها البعض، وعلاج ذلك عن طريق القوى المدركة في العقل الإنساني، وهنا يأتي الذي يمثل أعلى صور القوى العقلية للإنسان( الذهنية المتكاملة).
لهذا نجد هذا التيار يدعو إلى ضرورة توسيع النشاط الحكومي والمنظمات الدولية، وإلى عقد اتفاقيات بيئية دولية أكثر فعالية وتوسيع في إستخدام التشريعات المساندة إلى ترشيد استهلاك الموارد المشتركة بين بني البشر... حتى تصل الإنسانية إلى فكرة الخير المشترك والالتزام بتحقيقها، لأن الوصول المنتظم إلى الماء العذب والمأوى الواقي من البرد ومصادر الطعام غير فاسدة والهواء السليم للتنفس، فمثل هذه الخيرات أساسية كالحريات، لا يمكن مقايضتها بأي امتيازات أخرى، كما يرى هذا التيار أن ما دام هناك كثيٌر من الناس يعتبرون الأماكن ذات الجمال الطبيعي لها قيمة، فيجب على الإنسانية العمل على صون البراري والمواقع الطبيعية المتنوعة على أساس التحرر الروحي والعقلي والضمير، وإلا فستنتهك الاعتبارات الإنسانية.
الخلاصة في أن السياق الذي يجب من خلاله مناقشة مقاربات القضايا البيئية والأزمة البيئية الصاعدة حسب النزعة الإنسانية، يكمن في التوازن بين صيرورات اتخاذ القرار ضمن اقتصاد السوق المنظم والمخطط له من قبل الدول والاتفاقيات بين هذه الدول، على شكل العقد الاجتماعي عبر الأجيال(كما نادت به الفلسفة السياسية الحفاظية)، إذ يمكن من خلاله الإشراف على الموارد والالتزام بالمستقبل وحمل أمانة العالم، وهذا لا يتطلب سياسات طائشة وحادة، بل العكس، ويجب القيام بذلك بيسر بإنجاز تحسينات في الكفاءة من خلال الاستثمار في شيء واحد وهو الإنسان، من أجل مجتمعات مرتبطة بمصلحة خدمات الإنسانية، أو بتعبير أصح بيئة ذات لمسة إنسانية( THE HUMAN TOUCH ) .