يعتبر باب العامود أحد أبرز نماذج العمارة بالقدس، وأجمل الأبواب وأكثرها ثراء من حيث الجمالية المعمارية والزخرفية. وعقب احتلال المدينة، غيّرت سلطات الاحتلال معالمها وخاصة في محيط البلدة القديمة وبداخلها. وفي السنوات الأخيرة تم زرع أعداد كبيرة من كاميرات المراقبة عالية الجودة، سواء خارج الباب أو بداخله، وفي مختلف أزقة البلدة القديمة. إسرائيل ماضية في تهويدها للقدس، وباب العامود ما هو إلا مثالٌ لما تقوم به؛ إذ استطاع الاحتلال بممارساته ضد الفلسطينيين أن يجعلنا نشتم رائحة الموت بدلا من رائحة الورد في المكان، وما زال مستمرا في ذلك من خلال زرع المزيد من نقاط التفتيش والذل، وقلع الأشجار، وتنفيذ مزيدٍ من الحفريات، وجميعها مشاريع معلومة وظاهرة للعيان، لكن يبقى ما خفي أعظم.
|
خاص بآفاق البيئة والتنمية
 |
البستان الذي أقيم في الطريق المؤدي إلى الباب وتم مؤخرا قلع عدد من أشجاره وتقليم بعضها لأسباب أمنية بعد العمليات التي نفذت هناك |
باب العامود، أو باب دمشق، أو باب نابلس، أسماء عديدة أطلقت على أكثر أبواب البلدة القديمة بالقدس شهرة، وأحد أبوابها الثمانية المفتوحة الواقع بالجدار الشمالي، لكن تبقى تسمية "باب العامود" الأكثر رواجا على الأقل بالنسبة لمرتادي المدينة وسكانها.
سمي باب العامود نسبة لعامود كان يقع في الساحة الداخلية للباب، يحمل تمثال الأمبراطور هادريان (117-135م)، وهو الذي أعاد بناء مدينة القدس، والتي سماها حينها "إيليا كابيتولينا" (اكتاب "كان يا ما كان القدس قبل مائة عام، شهاب القواسمي".
يعتبر الباب أحد أبرز نماذج العمارة بالقدس، أجمل الأبواب وأكثرها ثراء من حيث الجمالية المعمارية والزخرفية، تمتد واجهته الشمالية الضخمة على ما يقارب 42 مترا، وترتفع بمقدار 17 مترا، تتكون من برجين يجاوران مدخلاً يبلغ طوله 19.95 مترا، ويتراجع من جهتي الغرب والشرق، لتتوسطه فتحة باب الدخول (المصدر السابق).
ويعلو فتحة باب العامود عتب حجري، يقوم فوقه عتب مستقيم يدعم لوحة حجرية تأسيسية مستطيلة، نقش عليها سطرين بخط النسخ العثماني، حيث كان السلطان العثماني سليمان القانوني آخر من قام بإعادة إعمار الباب بشكله الحالي (المصدر السابق).
ويصف الدكتور ناجح بكيرات، رئيس أكاديمية الأقصى للعلوم والتراث، النواحي الجمالية والأمنية للباب، وكيف أنه يتكون من برجين وبوابة تفضي إلى دهليز منحرف، تعلوه سقاطات لصب الزيت وطلاقات كانت تطلق منها رماح المقاتلين.
وبحسب بكيرات، صنع الباب من الخشب الكبير على ارتفاع 15 مترا وبعرض 6 أمتار، وهو باب جميل من حيث البناء والتكوين والاندماج مع المدينة.
 |
 |
البوابة الرئيسية لباب العامود |
المحال التجارية داخل باب العامود تعاني من الضرائب الباهظة التي تراكمت لسلطات الاحتلال |
القلب الاقتصادي للبلدة القديمة
لطالما مثّل باب العامود مركز المدينة والمدخل التجاري للبلدة القديمة، فمنذ العهد العثماني كان الباب ممرا للقوافل التجارية فهو يعتبر من أكبر الأبواب وأكثرها اتساعاً.
بعد احتلال المدينة عام 1967، أصبح باب الخليل الذي كان مغلقا قبل ذلك، أحد المداخل التجارية للبلدة القديمة، وما قبل ذلك كان أكثر من 90% من قاصدي البلدة القديمة يدخلونها من خلال باب العامود، وكانت بائعات الخضراوات "الفلاحات" يبسطن بضاعتهن التي أحضرنها من المدن الفلسطينية على جنباته، في مشهد لم نعد نراه إلا ما ندر بسبب مضايقات الاحتلال.
عقب احتلال المدينة، غيّرت سلطات الاحتلال معالمها وخاصة في محيط البلدة القديمة وبداخلها، فالمدرج الحالي الذي نراه اليوم لم يكن موجوداً حينها، بل أقيم بعد الاحتلال، حيث كان هناك ساحة كبيرة تستخدم كموقف لسيارات الأجرة.
ويستذكر المقدسيون الساحة الإسفلتية التي كانوا فيها يستقلون سيارات الأجرة التي تصطف وتنقلهم في سفريات داخلية وخارجية، فمن هذه الساحة خرج المقدسيون في أسفارهم إلى عمان، ودمشق وبيروت، قبل أن تفرقهم الحدود الجغرافية التي وضعها رجال السياسة.
يقول الأستاذ زياد الحموري، مدير مركز القدس للحقوق الاجتماعية والاقتصادية، أن هدف الاحتلال مما تطلق عليه ترميمات وأعمال بنية تحتية في محيط باب العامود تحديدا، هو تغيير اتجاه الناس في دخولهم للبلدة القديمة، والتقليل من استخدامهم لهذا الباب.
 |
 |
باب العامود عام 1865 من كتاب شهاب القواسمي كان ياما كان القدس قبل مائة عام |
باب العامود عام 1905 من كتاب شهاب القواسمي كان ياما كان القدس قبل مائة عام |
ويستذكر الحموري باستغراب، كيف أنه قبل خمس وعشرين سنة أعلنت بلدية الاحتلال عن أعمال للبنية التحتية في محيط الباب وأغلق مدخله لعدة أسابيع، ما اضطر بعض المحال التجارية أيضاً إلى إغلاق أبوابها، وتكررت هذه الحادثة عدة مرات بعدها، بالإضافة إلى مشاريع "تجميل المدينة" ومحيط البلدة القديمة حيث أقامت بلدية الاحتلال حديقة على امتداد السور ما بين باب العامود وباب الساهرة.
ويشرح مدير المركز كيف تحاول سلطات الاحتلال إجهاض القطاع الاقتصادي بالمدينة التي يقع أكثر من 80% من سكانها تحت خط الفقر، وفي البلدة القديمة اضطر أصحاب 260 محلا تجاريا إلى إغلاقها بسبب تراكم الديون الضريبية للاحتلال.
ويقع عدد من هذه المحال في منطقة باب العامود، على امتداد الدهليز الداخلي المفضي في نهايته إلى تفرعي سوق باب خان الزيت وطريق الواد، ومن بين المحال الواقعة في المكان، محال ورثتها بلدية الاحتلال عن قرينتها الأردنية، وأصبح التجار يدفعون أجرتها لبلدية الاحتلال بالقدس.
ويضيف الحموري: "تشن سلطات الاحتلال حملات ضريبية منظمة على تجار البلدة القديمة، و70% من القطاع التجاري بالمدينة مديون بحوالي 70% للضريبة بمبالغ فلكية".
 |
 |
باب العامود عام 1930 من كتاب شهاب القواسمي كان ياما كان القدس قبل مائة عام |
باب العامود ليلا يظهر فارغا من المتسوقين بسبب الركود الاقتصادي بالمدينة الذي يحولها بعد غروب الشمس إلى ما أشبه بمدينة الأشباح |
باب الشهداء
في الثالث من تشرين أول 2015، أطلق الشاب الفلسطيني مهند الحلبي شرارة "هبّة القدس" من باب العامود وتحديدا قرب مبنى الهوسبيس النمساوي في طريق الواد، بعد أن قام بطعن أحد المستوطنين وإطلاق النار على آخرين، مرديا قتيلين وأربعة جرحى.
العملية التي انتهت بارتقاء مهند شهيدا، فجّرت ما يمكن تسميته بانتفاضة السكاكين، حيث توالت بعدها عمليات الطعن المنفذة ضد جنود الاحتلال والمستوطنين، حتى وصل عددها إلى عشرات العمليات، ارتقى خلالها ثلاثة عشر شهيدا في ساحة الباب وفي محيطه.
توالي العمليات دل على فشل منظومة الاحتلال الإستخباراتية، والتي غطت على فشلها الذريع بإجراءات عقابية جماعية للفلسطينيين بالقدس، ونصبت مؤخرا منصات حديدية ثابتة، معززة بقوات شرطية، هي نقاط تفتيش للداخل والخارج إلى البلدة القديمة من خلال الباب.
كذلك، تم زرع أعداد كبيرة من كاميرات المراقبة عالية الجودة، سواء خارج الباب أو بداخله، وفي مختلف أزقة البلدة القديمة، ناهيك عن انتشار لعناصر المخابرات الإسرائيلية "الشاباك" بزيهم المدني بين المواطنين في القدس.
ويعلق زياد الحموري على هذه الإجراءات كونها أعاقت حركة الناس في القدس وخلقت لديهم حالة من الخوف، محدثة إرباك في مجمل الحياة داخل المدينة، "جزء من الناس أصبحوا يفكرون بمعيقات الجنود عند دخولهم للبلدة القديمة، فأصبحوا يقللون من مرات نزولهم إلى السوق ويفضلون شراء حاجياتهم من محال خارج البلدة القديمة وبأسعار أعلى قليلا، المهم أن لا يضطروا للاحتكاك بالجنود".
 |
 |
تفتيش الشبان عند باب العامود وقد تم مؤخرا قلع الشجرة ووضع منصة عسكرية في المكان |
مسيرة ما يسمى يوم توحيد القدس لهذا العام الذي احتفل فيه الإسرائيليون بمرور خمسين عاما على ضم القدس الشرقية |
وعقب آخر عملية وقعت عند باب العامود، ونفذها ثلاثة شبان من قرية دير أبو مشعل، شمال غرب مدينة رام الله، قامت مجموعة من المستوطنين بوضع ملصق كتب عليه "شارع البطلات" فوق يافطة شارع السلطان سليمان، وهو الشارع المفضي إلى باب العامود، وذلك رغبة منهم في تخليد ذكرى المجندتين اللتان قتلتا في موقع العملية.
عملية تغيير اسم الشارع واردة جدا، وهي تقع ضمن خطوات التهويد لمعالم القدس، لكن وكما هو متوقع، فسلطات الاحتلال تسعى لإظهار كل شيء وكأنه قانوني، وها هي بانتظار قرار رسمي من لجنة الطرقات في بلدية الاحتلال.
 |
 |
منصة ثانية وضعت عند مدخل الباب |
منصة عسكرية وضعت مؤخرا على المدرج المفضي إلى الباب من الأعلى |
احتفالات ومهرجانات تهويدية
تاريخيا، كانت ساحة باب العامود أو مدرجاته حاليا، مكانا لتنظيم الفعاليات الوطنية والشعبية ومنها الاحتجاجات، لكن "هبة القدس" بشكل خاص كانت كفيلة بمنع أية مظاهر من هذا النوع قرب الباب، واستبدلت بمهرجانات واحتفالات تهويدية، حتى أصبح الجلوس على الدرج جريمة ويمكن أن يعتقل الجالس هناك وفقا لمزاج الجندي.
وتنظم بلدية الاحتلال منذ عدة سنوات، مهرجان "أنوار القدس" تضاء خلاله أسوار البلدة القديمة من مختلف الجهات برسومات تهويدية تدلل على صهيونية المكان كنوع من تغيير الحقائق وتزييفها، كما تنظم احتفالات موسيقية لفرق إسرائيلية وأجنبية، وتخصص أماكن ترفيهية للأطفال وغيرها من الفعاليات الرامية لجذب المجتمع الإسرائيلي إلى محيط البلدة القديمة.
أما ما يسمى "يوم توحيد القدس"، الذي يحتفل فيها الإسرائيليون باحتلال المدينة، وقد صادف هذا العام الاحتفال بمرور خمسين عاما على احتلال الشق الشرقي منها، فهو يوم أسود على أبنائها.
ويدخل المستوطنون من باب العامود في مسيرة تبدأ من باب الخليل ويمشون في أزقة المدينة حاملين الأعلام الإسرائيلية الضخمة، مرددين أغان وهتافات استفزازية، وسط حماية أمنية مشددة من عناصر شرطة الاحتلال، تمنحهم قوة الاعتداء على المقدسيين أبناء المدينة، وتنتهي مسيرتهم هذه في حائط البراق حيث الاحتفال المركزي.
في هذا اليوم، تشهد مسيرة المستوطنين، مسيرة مضادة من الشبان المقدسيين، الذين يُقمعون بشكل عنيف من قبل قوات الاحتلال المتمركزة عند باب العامود، وتنفذ عادة عمليات اعتقال واسعة في صفوفهم، ويجري إبعادهم إلى نقطة تحفظ الأمن لمسيرة المستوطنين.
إذا، إسرائيل ماضية في تهويدها للقدس، وباب العامود ما هو إلا مثالٌ لما تقوم به، فالخطّة أكبر وأكثر خطورة، استطاع الاحتلال بممارساته ضد الفلسطينيين أن يجعلنا نشتم رائحة الموت بدلا من رائحة الورد في المكان، وما زال مستمرا في ذلك من خلال زرع المزيد من نقاط التفتيش والذل، وقلع الأشجار، وتنفيذ مزيدٍ من الحفريات، وجميعها مشاريع معلومة وظاهرة للعيان، لكن يبقى ما خفي أعظم.

جانب من عمليات تغيير معالم المدينة بالقرب من مغارة سليمان أو مغارة الكتاب الواقعة في شارع السلطان سليمان المفضي إلى باب العامود